منذ مطلع عام 1992 إلى اليوم رافقتني حقيبة يدوية في منشطي ومكرهي، أحمل فيها أوراقي التي يصدق فيها قول الراجز:
كل نجار إبل نجارها!
وقد أضيف إليها أوراق طلابي في مواسم الامتحان أو الاختبار أيام ارتباطي بالتدريس.
ظللت أستجد حقيبتي كلما أخلقتها حتى أصبحت جزءا من شخصيتي أو قطعة من ثيابي، وعانيت جراءها معاناة قابلتها بالتمسك بها؛ فـ"لن يسلم ابن حرة زميله"..
بدأت اصطحابها إبان بدء استعمال بطاقات نقل الطلاب في باصات النقل الحضري، ولأن محصليها (آنكاسيرات) وبعض سائقيها يزنون الراكب بمقدار ما يدفعه كان نصيب الطلاب في الغالب الأعم الإهانة والاستفزاز الذي يصل إلى الاشتباك العضلي أحيانا. وكنت في سنهم وأحمل حقيبة مثلهم، فكان فوارس الباصات سراعا إلى أذاتي، وبما أن الدفع لا يكون إلا في النهاية؛ فحقيقتي لا تستبين في الوقت المناسب.
بعد حوالي عقد من الزمن حكم فرق العمر ببراءتي من تهمة الأواقي العشر فكف القوم الأذى عني، ولكن ذلك تزامن مع ظهور الهاتف المحمول وما فتحه من مجالات من بينها بيع الرصيد الذي كان يمارسه في البداية متجولون يحملون بطاقته في حقائب يدوية.
ومن حظي (لا أدري كيف أصفه) أني لا أمارس من الرياضة إلا المشي الطبيعي الذي أحرص على استثمار حصصه في قضاء غير المستعجل من حوائجي، لذا كثر ندائي: "بياع اكردي هاه" وإذا كان المنادي ذا خلق فقد يقول: "عندكم اكردي.." ويسمي الشركة أو الفئة المطلوبة من بطاقات التعبئة.
لم أكن أزيد على النفي إلا بالتعبير عن الأسف أحيانا، وإن عجبت في سري من السرعة التي طغى بها مظهر مادي دخيل حتى نسي الشارع أن من الناس من تقضي مهنهم أو حالهم بحمل حقائب لغير اتجار!
مرة لمعت في ذهني فكرة حسبتها عبقرية بادي الرأي: لِمَ لا أبيع الرصيد فعلا؟ وما الثقل الذي تضيفه بطاقات معدودة أضعها في حقيبتي للاستهلاك الشخصي والبيع عند الاقتضاء؟! وهل يسعى الساعون إلى الحقائب إلا للجمع والتمول؟!
كدت أقتنع بهذه الفكرة الاقتصادية فأصبح وزيرا بلا وزارة يحمل حقيبة التزويد بالرصيد، ولا يشهد اجتماعا للحكومة فيعفيه ذلك من التملق وتعقيدات البروتوكول، لولا أن تذكرت رجلا اشتهرت قصته في شمال غرب البلاد؛ وتتلخص في أنه – سعيا لتحصيل درهم معاشه- كان يشتري علبة الشاي الجيد من فئة 10 كغ بخمسة آلاف أوقية نقدا وعدا من لگويره (أيام الاحتلال الإسباني) فيُهَرِّبها على عاتقه إلى انواذيبُ، ويلاقي البأساء والضراء في سبيل ذلك؛ مما قد يكون أخفه تجنب الجادة والإيغال شمالا في أرض غير ممهدة، وما يستلزمه هذا من مجابهة الرياح، وسير المسافات الطويلة بحِمله، والاختباء خلف النتوءات الصخرية في البرد القارس لتجنب الجمارك عند الاقتضاء، حتى إذا بلغ مأمنه فك العلبة فجزأها فباع كل كيلو گرام بأربعمائة وخمسين أوقية، وربما نقصت المادة لسبب أو آخر فحط من الثمن ما قابل النقص، فإذا اجتمع الحاصل من البيع في يده استدان خمسمائة أوقية لإتمام ثمن علبة جديدة من الشاي وأعاد الكرة.. وهكذا.
خفت أن أكون مثل هذا التاجر السمح فعدلت عن فكرتي، ثم تناسخت الأفكار في ذهني بسرعة إلى أن وصلت إلى ضرورة تولي أمثال هذا الرجل (إن وُجِدوا) جميع المناصب، وحملهم جميع الحقائب في بلادنا (حتى حقيبتي أنا!) لتكون "جمهورية فاضلة".
ولو اكتملت ملامح الفكرة لوضعت تصورا عنها أدخل به سجل العظماء، لكن المنادي أهاب أن حي على الطعام.. وقديما قيل: "إذا جاءت النفقة ضمت الورقة".