بين المؤتمر العبثي… والمؤتمر الصحفي

في ممارسة روتينية دأبت الحكومة على تنظيم مؤتمر صحفي كان يفترض أن يخصص لاستعراض اجتماعها الأسبوعي، وكان يؤمل أن يكون تجسيدا لفتح مصادر الأخبار ومنبرا لتسويق سياسات الحكومة ومواقفها عبر طيف واسع من الإعلام العمومي والخصوصي والدولي.

كان ذلك ممكنا ومتاحا لو توفر تخطيط إعلامي يحدد من؟ يقول ماذا؟ لمن؟ وعبر أية وسائل؟ ولتحقيق أية غايات؟ ومن خلال أية سياقات؟ وكان ذلك ممكنا لو كان هنالك تخطيط وتنفيذ وتقييم ورصد لتطلعات الرأي العام المتلقي وسعي للتناغم والتجاوب مع ما ينتظره من هكذا خرجات هدفها الأساسي تقديم خدمة إعلامية آنية ومفيدة، لكن الموضوع بكل أسف تحول إلى خرجة عبثية أسبوعية تجمع عينة عشوائية من ممتهني الإعلام مع مجموعة جزافية من الوزراء تطرح عليهم في أغلب الأحيان أسئلة كيدية أعدها مناوئوهم من منتجي إشاعات الصالونات لا علاقة لها بنتائج اجتماع مجلس الوزراء الذي يعقد المؤتمر لشرح نتائجه.

يستهل المؤتمر عادة بدقيقة صمت تخصص لإلتقاط صور الحضور وهي لحظة مهمة لأن هنالك من يحضر لمجرد الظهور في الصورة ولأن الشكل بصورة عامة طغى على المضمون.. بعد ذلك يعرض الوزراء شيئا وتطرح عليهم أسئلة متعلقة بأشياء أخرى ثم يأتي دور الناطق الرسمي ليواجه بعينة من إشاعات زاحفة لا تقدم ولا تؤخر يقع في شراك بعضها ويتحاشي بعضها الآخر.. تسبق ذلك مكيجة ويشفع بمكسجة ودبلجة وتبث وقائع وتحجب أخرى وينتهي الموضوع نهاية غير سعيدة من الناحية الإعلامية على الأقل، وكأن الجمع الوزاري الصحفي التأم لإفراغ الخرجة الإعلامية من محتواها وحولها إلى استعراض روتيني آخر.

كأنهم والماء من حولهم *** قوم جلوس حولهم ماء

كيف الخروج من هذا العبث؟

يتطلب الخروج من هذا العبث الروتيني إعادة النظر على مستويات عديدة:

المستوي الأول:

مستوي الإستراتيجية الإعلامية العامة للحكومة، فالنطق الرسمي هو أداة تنفيذية لهذه الإستراتيجية ويمكن أن يتخذ أشكالا عديدة، فلدى الحكومة خيارات إعلامية متعددة ومتغيرة حسب السياقات منها إصدار البيانات ومنح التصريحات وتنظيم الإيجازات وإجراء المقابلات العامة والحصرية، ومنها ممارسة حقوق الرد والتصحيح والتعقيب والتصويب.. ومنها تسريب المعلومات والوقائع ومنها التغريد والتدوين وتدبيج المقالات..إلخ

التعددية الإعلامية تتيح خيارات عديدة يشد بعضها بعضا، فلماذا لا توظفها الحكومة أو توظف حزمة منها حسب السياقات لتفعيل النطق الرسمي وتطوير معناه ومبناه وتمكينه من إيصال الخطاب الإعلامي الحكومي لقطاعات أوسع من الرأي العام؟ ما معني أن يحاط الناطق الرسمي بأعضاء حكومة هو الناطق الرسمي باسمها دون سواه؟ ألا يحتاج الموضوع إلى تقسيم ممنهج للأدوار؟

المستوى الثاني: مستوى توظيف البيانات الوزارية والوثائق الحكومية بما يخدم التوجه الإعلامي ويعضد الخطاب الحكومي، على هذا المستوى يمكن إدخال تحسينات من قبيل:

– تحسين صياغة بيان مجلس الوزراء فهو في شكله الحالي وثيقة نمطية غامضة جامدة لا يفك طلاسمها إلا الراسخون في سيميلوجيا المجريات الإدارية غير المصنفة وهم قلة.

– إيجاد آلية آنية لنشر البيانات الوزارية التي تعتمدها الحكومة بصورة مفصلة على الموقع الالكتروني للوكالة الموريتانية للأنباء وعبر صفحات الشعب وHorizons وعلى موقع الحكومة فهذه البيانات رغم أهميتها تظل مغيبة وقل ما يصل فحواها إلى الجمهور المتلقي ونادرا ما تكون في متناول القطب الإعلامي الخصوصي.

المستوى الثالث: يتعلق بتحسينات يمكن إدخالها على المؤتمر الصحفي منها على سبيل المثال:

– إعادة النظر في الدورية والتوقيت، فيمكن أن يعقد المؤتمر الصحفي في نفس يوم اجتماع الحكومة كما هو الحال الآن أو يؤخر لليوم الموالي وتأخيره يتيح للصحفيين الاطلاع أكثر على ما تمت المصادقة عليه وتحضيرهم لأسئلة مفيدة.

– وحدة الموضوع، بحيث يخصص المؤتمر الصحفي للمواضيع التي أقرتها الحكومة في اجتماع مجلس الوزراء والتقيد الحدي بهذه المواضيع.

– بإمكان الناطق الرسمي تنظيم مؤتمرات صحفية وخرجات إعلامية أخرى حول قضايا خاصة وعامة حسب السياقات وعند الاقتضاء.

– المؤتمر الصحفي الحالي يبدو كما لو كان موجها لجمهور داخلي بل لبعض الموريتانيين دون سواهم فاستخدام اللهجة الحسانية في الأسئلة والأجوبة عائق لغوي تواصلي حقيقي، فلماذا لا يكون الأداء بلغة عربية مبسطة سليمة يفهمها الموريتاني وغير الموريتاني؟

– لماذا لا تنشر خلاصات المؤتمر الصحفي مترجمة للغات دولية بهدف إيصال مضامينه لجمهور خارجي يكتسي الوصول إليه أهمية بالغة؟

– لماذا لا تعتمد ترجمات إذاعية وتلفزية رسمية لوقائع المؤتمر باللغات الوطنية للتأكد من إيصال محتواه لكل المشاهدين ولكل المستمعين على عموم التراب الوطني؟

المستوي الرابع: يفترض أن تكون هنالك اعتمادات خاصة للمؤتمر الصحفي تتم وفق معايير مهنية صارمة وتلزم أصحابها بالتقيد بترتيبات متعلقة بالجوهر وأخرى متعلقة بالشكل، فالوضع الحالي لا يمكن الحكومة من تمرير خطابها ولا يمكن الصحفيين من طرح أسئلة مفيدة، وفي وضعية كهذه يتسع العجز الإعلامي وتحجم انشغالات الرأي العام ويتم التعاطي معها كما لو كانت مختصرة على الإجراءات الخصوصية المسربة قبل انعقاد المؤتمر الصحفي الذي لا يأتي بجديد.

أخلص إلى القول إن تفعيل المؤتمر الصحفي يحتاج إلى إجراء مراجعات جوهرية وإلى اتخاذ قرارات حاسمة تمس الشكل والجوهر، فالوزراء بحاجة إلى تأهيل إعلامي يحسن أداءهم ويجعلهم أكثر مصداقية وأكثر قدرة على الإقناع وأكثر إحاطة بالملفات التي يدافعون عنها، والحضور الصحفي يحتاج إلى غربلة وميز وإلى تمهين وتأطير، ووسائل الإعلام بحاجة إلى تعامل أكثر مهنية مع وقائع المؤتمر الصحفي، والرأي العام المتلقي يستحق خدمة إعلامية نوعية تنافسية تنقل الأمر من خانة المسرح العبثي إلى خانة العمل الصحفي الاستشرافي المحكم المعقلن المواكب للواقع الموار وللتغيرات الإعلامية المتسارعة، فالرأي العام دائما يبحث عن الجديد والتعاطي مع الجديد يتطلب توظيف قنوات “الإعلام الجديد” لتعميم وقائع المؤتمر الصحفي على أوسع نطاق وإعطائها جرعة تفاعلية آنية.

ويظل دور الناطق الرسمي محوريا فينتظر منه أن يستحضر دائما ما هو كائن على مستوى العمل الحكومي وما ينتظر أن يكون، وينتظر منه الإقناع والتواصلية والتفاعلية واللباقة والأريحية الإعلامية والنبرة الكارزمية ومعرفة شيء عن كل شيء والإحاطة بكل ثوابت ومتغيرات العمل الحكومي، كما تنتظر منه البلاغة السيميائية لتكريس المصداقية فلكل مقام مقال وكما يقول الجنرال فرانكو “ليس للمرء من كلامه إلا ما لم يقله بعد”.