من شاهد على القهر إلى شاهد على النصر! بقلم الأستاذ محمدٌ ولد إشدو*

كم كنت في حياتي شاهد عيان على القهر! فقد عشت النكبة بتفاصيلها الفظيعة يوم قرأت عنها باهتمام بالغ كتاب العقيد الأردني البطل عبد الله التل "كارثة فلسطين" وأنا يومئذ بـ "مونبلييه" في جنوب فرنسا سنة 1963؛ وقبل ذلك اصطليت بخيبة وإحباط انفصال أول وحدة عربية معاصرة؛ وذلك عبر إطلالاتي الأولى على ما هو متوفر يومئذ من الإعلام، وهو جد ضئيل. ثم عايشت بحزن وأسى انقلاب الجزائر الرجعي سنة 1965 على الثورة التي آمنتُ بها وعلقتُ عليها آمال التغيير والنهضة في المغرب الكبير. وبعد ذلك رأيت بأم عيني وعشت بكل جوارحي هزيمة حزيران المدمرة سنة 1967 يوم انهار الأمل الذي بعثه جمال عبد الناصر في نفوس العرب، وضاعت زهرة المدائن وكامل فلسطين وسيناء والجولان، وجاءت صفقة كامب ديفد الخاسرة فأخرجت مصر من ساحة النزال مع العدو، وانفجرت حرب الصحراء العبثية وانقلاب 10 يوليو 1978 في موريتانيا، وما صاحبهما من مآس عصفت بما بناه شعب موريتانيا بالدماء والدموع. وها هم أحراره تعج بهم سجون تيشيت وولاتة وبومديد ووادان وباسكنو، وتكتظ بهم المنافي في الخارج! واجتاحت إسرائيل لبنان وعاثت فيه فسادا ودمارا ومجازر (صبرا وشاتيلا وقانا) واشتعلت حرب عبثية وكارثية أخرى بين العراق وإيران، وغزت أمريكا وبريطانيا العراق واحتلتاه ودمرتاه! إلى آخر قائمة مآسي أمتنا في هذا العصر الهمجي؛ عصر هيمنة رعاة البقر والمرابين على العالم!

* وحين يستبد بي الحزن والأسى، أتساءل في نفسي مع المتنبي:

أصخرة أنا، ما لي لا تحركـــــني ** هذي المدام ولا هذي الأغــــاريد؟ 

لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي ** شيـــــئا تتيـــمه عــين ولا جــــيد

يا ساقــــييَّ أخمر في كــؤوسكما ** أم في كــــؤوسكما هــــم وتسهـيد؟

إذا طلبت كميت اللون صـــــافية ** وجــدتها وحبيب القلب مفـــــــقود

ثم أبتهل إلى الله، فأقول: ربِّ، أما حان أن ترحم هذه الأمة، وتختم لي بأن أكون شاهدا على النصر لا شاهدا على القهر؟ وأنشد:

"ألا أيها الليل الطويل ألا انجل ** بصبح وما الإصباح منك بأمثل"

... وفجأة تتنزل الرحمات وينجلي الليل! فأكون من الشاهدين على نصر رأيته رأي العين وسمعته ملء الدنيا يوم 25 مايو (آيار) سنة 2000 حين أخذت تباشير فجر لبنان الجديد تمزق سجوف الليل وتزيح جحافل الظلام جحفلا بعد جحفل! لقد هزمت المقاومة اللبنانية إسرائيل وحررت الجنوب ورفعت هامات الأمة بعد عقود من الذل والهوان!      

عائـــد إلى لبنــان

لم أتردد لحظة واحدة في تلبية داعي المحامين العرب إلى مؤتمرهم المنعقد في بيروت نهاية مارس سنة 2001 بعد هزيمة إسرائيل وعملائها وتحرير الجنوب.. وها أنا ذا عائــد إلى لبنان بعد فرقة 33 سنة!

وعندما دخلت لبنان كانت آثار الدمار ما تزال بادية على جسد بيروت الحبيبة! ومع ذلك فقد كانت جميلة وعزيزة ومتألقة وبشوشة ومتلهفة إلى أصدقائها، وطامحة ومتحفزة إلى الحرية والنماء والتقدم!

لم أجد صديقي الأستاذ أحمد مخدر (رحمه الله) فقد كان يومها في السنغال، وكان صديقي خليل الحاف (رحمه الله) وهو مهاجر لبناني آخر عائد من موريتانيا، يوجد في قرية أنصار بصيداء. وقد اتصلت به بعد نهاية المؤتمر فجاءني في بيروت وأخذني معه "ع الضيعة" بأنصار؛ حيث قضيت أياما في جنة وكرم الجنوب!

تجولت صحبة صديق مصري طيب نزل معي في فندق نوفوتيل، في ميدان رياض الصلح وأروقة وشوارع الحمراء، وسرنا في نزهة على كورنيش بيروت، وزرنا - صحبة المحامين العرب- الجنوب المحرر البطل: وقفت منتشيا على بوابة فاطمة، في مواجهة الصهاينة المحتلين، وتفقدت زنزانات وسراديب سجن الخيام اللعين المحرر، واعتليت إحدى دبابات الجيش الإسرائيلي السليبة وهي جاثمة أمام سجن الخيام! وقلت في "تحية الأرز" والتنويه  بالنصر، وفي شجون الأمة أيضا: 

من حنايا شنقيط.. من أخت نجد ** جئـــت أهـــدي للأرز باقة ورد

جئت أهدي إكليل مجـــد وغــار ** للنـــــــشامى في كل غور ونجد

يا هوانا وقبلة الروح عـــــــــدنا ** فــــــسلام.. وكيف حالك بعدي؟

أيها الأرز أنت رمز الســــــجايا ** وصمــود الإنسان في كل عهـد

كربلاء التي بعيــــنيك منـــــــها ** ومـــضات تنــــير درب التحدي

أيقظت في النفوس ثأر اللــــيالي ** فانتفـــــضنا للقدس نفدي ونهدي

أنتمُ في الجنوب فتح ونــــــــصر ** والحـجارات في فلسطين تردي

أيها الجمع..

إن للــــفرد في العـــــــروبة حقا ** أزلـــيا في أن يعـــــيد ويـــــبدي

هل من العدل أن يعــــيش غريبا ** تائـــها في بـــــلاده دون رشــــد

أيها الجمع..

أنتمُ في الجنوب فتح ونــــــــصر ** والحـجارات في فلسطين تردي

زهـــرة في العــــراق ترنو إليكم ** من يداري جرحي ويمسح خدي؟

من لديه الجواب؟ هيا أجــــــيبوا ** صــــرخة الرافدين: عرب وكرد

إن عجزنا، فمن سينــــصر حقا؟ ** أو كـــبونا، فــــمن يقود ويهدي؟

أيها الجمع...

أنتمُ في الجنوب فتح ونــــــــصر ** والحـجارات في فلسطين تردي

كــــان لبـــــــــنان للجميع ويبقى ** شامـــــخ الــرأس.. لا يدين لفرد

خسئ المبـــطلون فالحــــقـد ولّى ** لا تَــــقالٍ، ولا تـــــداع لـحــــقد. 

 

        لم يكن الأمين العام لاتحاد المحامين العرب يومها يعي كنه علاقتي الحميمة بلبنان، أو يدرك مثلي معاني هذا النصر ومدى أهميته للأمة أو يعتز به اعتزازي به، وقد تابعته يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة ودقيقة بدقيقة. ولم يكن له – كذلك- إلمام بالشعر والثقافة؛ فقد كان نموذجا حيا للبيروقراطي المعاصر الذي يعيش في آخر العمر على منصبه و"علاقات" ذلك المنصب بالأنظمة، وعلى ثقافة الصورة، والخطابات الخشبية المحنطة المرتجلة. ولذا فإنه لم يسمح -على الإطلاق - بإلقاء قصيدتي في أي مناسبة من مناسبات المؤتمر، فظلت المسكينة موءودة كصبية جاهلية، إلى أن قيض الله لها النشر بعد ذلك بسنوات ضمن ديوان "أغاني الوطن" بأيد لبنانية وإرادة لبنانية وتمويل لبناني كريم!

وها أنا والمحامين في طرابلس في ضيافة الرئيس الحريري رحمه الله هذه الليلة، وسنكون غدا في ضيافة الجامعة اليسوعية! وقد اقتحم علينا أمس الرئيس الياس الهراوي منتدانا متوكئا على أحد أحفاده وقد أصبح شيخا ضريرا، وهو يحث المحامين العرب على التوجه جوا إلى العراق وكسر الحصار الظالم المفروض عليه، ويقسم إنه لو كان ما يزال رئيسا للبنان لفعل ما يدعونا إليه اليوم!

        كانت أيامي في لبنان (بيروت وأنصار) وسوريا (دمشق) بمثابة استراحة محارب؛ فقد كانت موريتانيا يومئذ تغلي: فالمادة 104 التي أضيفت إلى الدستور بعد مصادقة الشعب عليه قد أفرغته من مضمونه وقيدت الحريات التي سنها، والمادة 11 من قانون الصحافة كانت تخول وزير الداخلية مصادرة الصحف ووقفها بجرة قلم. وقانون الأحزاب ينيط تجميدها وحلها بإرادة الوزارة الوصية. والآفاق مسدودة تماما، والهدر والقمع خبز يومي للشعب، والسجون مكتظة بالأحرار، والمحاكمات السياسية تترى.. والعلم الصهيوني يرفرف في سماء انواكشوط المستباحة والمغلوبة على أمرها!

يتبع