أوروبا والعرب: الرصيد والفرص / د. السيد ولد أباه

من يقرأ هذه الأيام أعمدة الصحافة الأميركية ويقرأ تقارير مراكز الرأي وصنع القرار، يخرج بانطباع واضح أن الاتجاه الغالب حالياً على العقل الاستراتيجي الأميركي هو أن المصالح العليا للولايات المتحدة تقتضي توطيد الصلة بإيران على حساب التفاهمات التقليدية مع البلدان العربية المعتدلة.

قد لا يكون هذا الخيار سهلاً أو حتمياً، بيد أن العديد من الأقلام والوجوه الفكرية الأميركية تتبناه بصراحة لا شك فيها. إحدى الشخصيات الديبلوماسية العربية التي خبرت طويلاً السياسات الأميركية وتعرفت على مركز صنع القرار في واشنطن، قالت لي إننا في العالم العربي نبالغ كثيراً في تصورنا لإطلاع الإدارة الأميركية على الأوضاع العربية، ونعتقد أن السياسات الشرق أوسطية الأميركية منسجمة ومتناسقة، في حين أنها شديدة التنافر نتيجة لتعدد وتباين الأطراف الصانعة لها، ولذا نفهم حجم الأخطاء المتواصلة التي ارتكبتها الإدارات الأميركية في المنطقة خلال العقد الأخير.

 

في مقابل هذا الإحجام الأميركي وقصور السياسات والمقاربات الأميركية، لا أحد يشكك في الخبرة الأوروبية الطويلة والمتراكمة في القضايا العربية التي تستند لماضٍ مشترك ممتد لقرون بعيدة ولروابط جوار وتداخل بشري وثقافي كثيف، رغم تراجع الدور الاستراتيجي والدبلوماسي الأوروبي في المنطقة بصفة متدرجة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وانقضاء العصر الاستعماري.
في كتابه الأخير «العرب: مصيرهم ومصيرنا»، يحفر المؤرخ الفرنسي «جان بيار فيليو» في تاريخ هذه العلاقة، مبيناً على عكس الصورة السائدة، أن الروابط بين العرب وأوروبا في العصور الوسيطة اتسمت في الغالب بالقوة والتعاون الوثيق، ولم يكن المعيار الديني عائقاً لتوثيقها، بل إن الحروب الصليبية لم تكن سوى قوس قصير في ذلك المسار وحالة شاذة غذتها المجموعات الكنسية المتطرفة.

وفي هذا السياق يقف فيليو عند محطات كبرى من هذا التاريخ المشترك، من أهمها الروابط القوية التي جمعت بين أبرز خليفة إسلامي في العصور الوسيطة «هارون الرشيد» والامبراطور «شارلمان» الذي كان يحكم جل أوروبا الغربية، ولم تكن العلاقة بينهما مجرد نزوة عابرة لملكين ألهبا مخيلة الأدباء والمؤرخين، وإنما هي تعبير عن تحالف استراتيجي حقيقي بين الامبراطوريتين الكبيرتين في مواجهة خصمين مشتركين، هما الدولة الإسلامية الأموية والدولة البيزنطية الشرقية المسيحية. وفي السياق نفسه، يذكر الحلف الفرنسي العثماني الذي أرساه الملك «فرانسوا الأول» والخليفة «سليمان القانوني» في القرن السادس عاشر واستمر لقرنين كاملين، مجنباً أوروبا شبح الحروب الدينية ولم ينته إلا بغزو نابليون لمصر عام 1798.

فيليو يقف في الآن نفسه على حملة نابليون التي نُظر إليها إيجابياً من دعاة الإصلاح والتنوير العرب، معتبرين أنها الأثر الوحيد للثورة الفرنسية خارج أوروبا، وقد كانت بالفعل القوة الدافعة لمشاريع إصلاحية تحديثية قوية في بلدان عديدة في مقدمتها تونس ومصر. بيد أن الاحتلال الفرنسي لتونس (1881) الذي تزامن مع الاحتلال البريطاني لمصر (1882) كبح ديناميكية النهوض التحديثي في البلدين، فتحولت العلاقة بين النخب الإصلاحية وأوروبا من معجم التنوير والتحديث إلى معجم المقاومة ضد استعمار مدمر قوض النسيج الأهلي للمجتمعات العربية ومزّق أوصال المنطقة. في الاتجاه نفسه تندرج الخيانة الأوروبية للأطراف العربية التي تحالفت معها في الحرب العالمية الأولى، ما خلَّف شرخاً مكيناً في العلاقات العربية الأوروبية تفاقم مع وعد بلفور وإقامة الدولة الإسرائيلية واتفاقية سايس بيكو، كما تندرج سياسة دعم الديكتاتوريات العسكرية والأمنية التي حكمت العديد من البلدان العربيةو فأججت بؤر العنف والتوتر في الجسم السياسي العربي.

هل يمكن تجديد أواصر الثقة والعلاقة بين أوروبا والعالم العربي الجريح الذي يتعرض لتحديات جوهرية، لعل أخطرها اليوم التقارب الإيراني الأميركي في مرحلة يتفاقم فيها الاختراق الإيراني للمنطقة؟ وهل يمكن لأوروبا أن تسد الفراغ الاستراتيجي المتولد عن تقلص الاهتمام الأميركي بالمجال العربي؟

ليس من همنا في هذا الحيز الرد على هذا السؤال المطروح بقوة راهناً، وإنما حسبنا التنبيه إلى طبيعة الإرث المسترك الطويل الذي يبين أن عصر الامبراطوريات الدينية لم يكن عائقاً أمام قيام تحالف أوروبي عربي قوي خارج منطق الاصطفاف الديني، ولذا فإن الخطوة الأولى لاستعادة الثقة بين الطرفين هي إبعاد الورقة الدينية عن اعتبارات المصالح الاسترتيجية المشتركة بين الطرفين. ما نريد أن نبينه هو أن للنظام العربي هويته الاستراتيجية الخاصة ضمن النطاق الإسلامي الواسع التي تتعين مراعاتها، كما لابد من كسر النموذج التحليلي الذي فرضته حركات التطرف الديني باختزال أوضاع المنطقة في صراع وهمي حول الشرعية الدينية، في الوقت الذي يتمثل التحدي الأكبر الذي تواجهه البلدان العربية في توطيد بناء الدولة وحماية أمنها وتدعيم نسيجها الداخلي وتحديث بنياتها السياسية والمجتمعية في مواجهة مخاطر التطرف والإرهاب والثوران العدمي.