القصر الرئاسي بعث بخمس رسائل مع الحكومة الجديدة

أربعة أيام من الترقب وعدة ساعات من الانتظار، سبقت إعلان أسماء أعضاء الحكومة، وفق آلية غير معهودة بل إن الرئاسة في مؤتمرها الصحفي وصفتها بـ «الجديدة»، إلا أنها من الناحية الإعلامية نجحت في لفت انتباه الموريتانيين وإجلاسهم أمام الشاشات لعدة ساعات في انتظار معرفة الحكومة التي ستدير البلاد، وأمام هذا الترقب حاولت الرئاسة تمرير رسائل عديدة نحو جهات مختلفة.

جاءت هذه الرسائل في ما يشبه «البيان»، تلاه الوزير الأمين العام لرئاسة الجمهورية بلغة عربية ذات لكنةٍ أفريقية، محاولاً أن يزِن حروفه وكلماته، ويطوع نبرة صوته تماشياً مع كل «رسالة»، مستخدماً نظراته وقسمات وجهه التي تخفي حدةً على حياد.

كان تعيين الحكومات في موريتانيا حدثٌ يترقبه الجميع، ولكن عمره لا يزيد على دقائق معدودة تعرف فيها أسماء الوزراء وتذوب في أفواه الجميع، ولكن «الرئاسة» استغلت الحدث لتعلق على الأحداث التي واكبته.

إلى الرأي العام !

أول رسائل القصر كانت موجهة إلى الموريتانيين، حين أُعلنت تشكيلة الحكومة من القصر مباشرة ودون أي وسيط، وقد تعمد «البيان الرئاسي» أن يبرز ذلك في أول فقرة، فكان أول من خاطبه هذا البيان هو «الرأي العام»، حين قال إن الآلية الجديدة لإعلان الحكومة تعكس حرص الرئيس على «تكريس مبدأ وضع المعلومة في متناول الرأي العام، مباشرةً من مصادرها الرسمية، وفي الوقت المناسب».

من الواضح أن هنالك رغبة كبيرة لدى الرئاسة في تطبيع العلاقة مع «الرأي العام»، من خلال التفاعل معه، بالإضافة إلى إعادة ترميم العلاقة مع الصحافة المستقلة التي ظلت لسنوات طويلة ممنوعة من دخول القصر الرئاسي وتغطية أنشطته.

وقد أوضح «البيان الرئاسي» أن حضور الصحافة للمؤتمر يأتي ليعكس «انفتاحاً وتيسيرًا لنفاذِها إلى مصادر الأخبار»، وقد حاول البيان هنا أن يدرج واحداً من أهم المطالب التي ظلت ترفعها الصحافة الموريتانية، وفي ذلك رسالة موجهة إلى الصحفيين.

إلى القضاء !

بدا واضحاً أن «البيان الرئاسي» بدأ بالمجاملة، قبل أن يدخل في صلب الموضوع في فقراته اللاحقة، فكان صريحاً حين قال إن «المبدأ الموجه لتشكيل هذه الحكومة الجديدة ذو ارتباطٍ وثيقٍ بتحقيق اللجنة البرلمانية».

كان ذلك أول تصريح رسمي من الرئاسة حول تحقيق اللجنة البرلمانية بعد نهاية عملها، فحمل معه ما يشبه «المكافأة» حين اعترف ضمنياً بأن هذا التحقيق قاد إلى استقالة الحكومة السابقة، وكان ذو «ارتباط وثيق» بتشكيل الحكومة الجديدة.

لقد شكل تعيين الحكومة فرصة أمام ولد الغزواني لتأكيد موقفه من التحقيق في ملفات الفساد، الذي أعلنه بعد تشكيل لجنة التحقيق البرلمانية مطلع العام، حين قال في فبراير الماضي إنه لن يتدخل في عمل اللجنة ولن يعيقه، وبالفعل أكملت اللجنة البرلمانية عملها وسلمت تقريرها الذي أحيل إلى السلطات القضائية، وها هو مع الشروع في «التحقيق الابتدائي» يبعث بنفس الرسالة.

قال البيان إن ولد الغزواني بصفته حامي الدستور «لم ولن يتدخل في عمل السلطتين التشريعية والقضائية، وسيأخذ، على  

الدوام، بعين الاعتبار، ما يصدر عنهما»، كانت تلك رسالة واضحة إلى القضاء للقيام بعمله، وطمأنة للرأي العام والسياسيين المهتمين بالملف.

إلى الوزراء المغادرين !

حاول البيان الرئاسي في حديثه عن الوزراء الذين ذكرت أسماءهم في تحقيقات البرلمان، أن يكون حذراً متفادياً تثبيت التهمة أو نفيها، وهو حذر مبرر بخشية التأثير على عمل القضاء، وحساسية ملف ما يزال في مراحله الأولى.

في هذا السياق شدد البيان على «مبدأ أصالة البراءة حتى تثبت الإدانة»، إلا أنه في السياق ذاته وصف خروج هؤلاء الوزراء من الحكومة بأنه موقف «مناسب»، وبرره بحجة منحهم فرصة «التفرغ لإثبات براءتهم».

وإن كان البيان الرئاسي قد فتح الباب أمام الاستفادة من خبرة من تثبت براءته من هؤلاء الوزراء، إلا أنه صمت عن مصير من قد تمت إدانتهم بالفساد، وهو صمت يضعهم في خانة النسيان، تاركاً مصيرهم في يد القضاء.

مع إعلان تشكيلة الحكومة بدأت السلطات القضائية توجيه الاستدعاءات إلى الوزراء المستقيلين، وتوجه أفراد من شرطة الجرائم الاقتصادية نحو إقامة الرئيس السابق لاستدعاء بعض أفراد أسرته، كما استدعي مسؤولون آخرون.

إلى السياسيين !

رغم التغيرات التي طرأت على الساحة السياسية منذ تشكيل أول حكومة في عهد ولد الغزواني قبل عام من الآن، إلا أن الحكومة الجديدة لم تعكس هذه التغيرات، فلم تمثل فيها الأحزاب السياسية والكتل والشخصيات الوافدة من المعارضة.

وقد حاول «البيان الرئاسي» أن يبرز آلية تشكيل الحكومة على أنها كانت «فنية وهيكلية»، مع ما سماه البيان «مراعاة مختلف التوازنات داخل الخريطة السياسية والاجتماعية في البلد»، ولكن البيان لم يشرح هذه التوازنات.

تحدث البيان عن تشكيل الحكومة وفق «ضرورات» تتمثل فيما سماه «تعديلات فنية» خضعت لها هيكلة الحكومة نفسها، فاختفت وزارتان دُمجتا في وزارتين أخريين، وهو إجراء إن كان فنياً، إلا أنه يكشف رغبة في «التقشف» ربما فرضتها ظروف ما بعد «جائحة كورونا».

إلى الحكومة الجديدة !

آخر رسائل «البيان الرئاسي» كانت موجهة إلى الحكومة الجديدة، حين قال إن من ضمن الضرورات التي دعت لتشكيل هذه الحكومة «تنمية روح الفريق وترسيخ مبدأ التضامن الحكومي»، وكان مصطلح «التضامن الحكومي» جديداً على مفردات القاموس الرسمي الموريتاني.

ويحيل هذا المصطلح إلى «وثيقة التضامن الحكومي» في تونس، من أجل تكريس سبعة مبادئ رئيسية هي: نبذ الخطاب السياسي الهادر للكرامة، الابتعاد عن التخوين والإقصاء، الالتزام بالشفافيّة، النزاهة في التسيير، محاربة الفساد، مقاومة كل ما يعيق تقدم البلاد، مكافحة هدر ثروات البلاد ومقدراتها.

فهل حاول كاتب «البيان الرئاسي» الموريتاني أن يستلهم تجربة تونس، ويدخل مبادئ «التضامن الحكومي» إلى أجندات الحكومة الجديدة، خاصة وأن «البيان الرئاسي» ختم بالتأكيد على أنه سيتم «تكريس مبدأ المساءلة والمحاسبة».

أم أن «التضامن الحكومي» المشار إليه في «البيان الرئاسي» هو مجرد دعوة إلى تفادي «التنافر» بين بعض أعضاء الفريق، الذي قد يكون من الأسباب التي أثرت على عمل الحكومة السابقة، ولذا كان من مهام الوزير الأول الجديد «تنسيق عمل الحكومة».