الدعاة الجدد والسلطة والمعارضة والتطرّف والاستقطاب الطائفي / د. محمد بدي ابنو

لأن هاهنا طائفة تشبه العوام من جهة، والمجتهدين من جهة، وهم المسمون في زماننا هذا بالفقهاء، فينبغي أن ننظر في أي الصنفين أولى أن نلحقهم ؟ وهو ظاهر من أمرهم أن مرتبتهم مرتبة العوام وأنهم مقلدون.” ابن رشد

 

ـ1ـ

 

تَظهر بداهةً الترساناتُ الدعائية الحديثة التي تتمتع بها السلطات الحاكمة والقوى الحزبية المعارضة لها في أجزاء واسعة من العالم الاسلامي، في عدد من تجليات هذه الترسانات، نقضًا لما تعنيه الاستقلالية النسبية للهيئات التربوية والأكاديمية بالخصوص كسلطة توازن ُفترض قدرتها على رفض الاستتباع السياسي المباشر. ولعلّ في ذلك ما يفسر جزئيا وضعية المؤسسات التربوية الدينية. فهي مستهدفة بشكل مزدوج لتصبح أو لتظل هيئات تبويقية لصالح إيديولوجيا السلطة الحاكمة أو لصالح أيديولوجيا سلطة الحركات البديلة أو المعارضة. ومنْ هنا الدور المركزي الذي أصبحَ يلعبه ـ دعائيا وإعلاميا ـ بعضُ المحسوبين عليها (بشكل فعلي أو متوهّم) في الاستقطاب الطائفي الوبائي والشحن التعبوي المحايث له. إنها إذًا ساحةُ معركة مستهدفة من الطرفين لجعلها أو لإبقائها مؤسسات دعائية إيديولوجية تبريرية لا مؤسسات رصينة نسبيا بحكم مهمتها التربوية والعلمية.

 

ـ2ـ

 

من المهمّ أن نتذكّرَ بهذا الخصوص أن أغلب العلماء والفقهاء القدماء الذين كان لهم تأثير اجتماعي في التاريخ الإسلامي هم اللذون رفضوا ـ بشكل نسبي وجزئي بطبيعة الحال ـ أن يكونوا آلية تبويقية تبريرية. أي رفضوا الاستتباع الإيديولوجي من قبل السلطة السياسية سواء تعلق الأمر بالاستتباع من طرف أصحاب الحكم أي من طرف السلطة القائمة أو من طرف أصحاب الفرق المعارضة أي من طرف السلطة البديلة. ولا يخفى أن تلك النظرة الحذرة لدى بعض العلماء تجاه السلطة السياسية هي، في بعض جوانبها المركزية، إحدى الانعكاسات العميقة لتداعيات الفتنة الكبرى والصراعات السياسية والمذهبية الكثيفة التي تلاحقت تبعا لها والتي اختصرتْ دلالَتها عبارةُ الشهرستاني الشهيرة “وأعظم خلاف بين الأمة خلافها على الإمامة إذْ ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة في كل زمان”. (الشهرستاني، الملل والنحل، ج.1، ص. 31)

 

ـ3ـ

 

ويكفي للتدليل على هذا الموقف الحذر لدى عدد من العلماء القدماء التذكير بمواقف أئمة المدارس الفقهية الأربعة : كما يبينها مثال رفض أبي حنيفة لتعيينه قاضي الكوفة في عهد الخليفة الأموي يزيد ابن الوليد أو لمنصب قاضي بغداد في عهد الخليفة العباسي المنصور. بل إصرار هذا الفقيه بحسب الرواة على رفض المناصب التي عُرضتْ عليه رغم السجن والقمع الذين تعرض لهما لإرغامه على قبولها أو قبول بعضها (أبو زهرة ، أبو حنيفة حياته وعصره ـ آراؤه وفقهه، ص. 35ـ59). بل تذهب بعض الروايات إلى أنه قٌتل مسموما أو سجينا بسبب مثل هذه المواقف (هذا طبعا بغض النظر عن تبني العباسيين لاحقا في عهد الرشيد للمذهب الحنفي). وتُنسب لمالك ابن أنس مواقف شبيهة بعد سجْنه خلال حكم الخليفة العباسي المنصور ثم رفْضه اقتراحَ الأخير بأن يُصبحَ عالمُ المدينة ما يمكن أن نسميه المحدِّثَ والفقيه الرسمي والحصري للدولة العباسية عبر رفضه مشروع اعتماد مؤلفه المستقبلي في الحديث ـ أي الموطأ الذي ألفه مالك بعد هذه الحادثة ـ رسميا كالمرجع الوحيد المسموح به في الأحاديث النبوية. وهناك روايات ذات دلالة شبيهة عن رفض الشافعي لهدايا قدمها له هارون الرشيد (الغزالي، مقامات العلماء عند الخلفاء والأمراء، ص43 ؛ عطية رزق، العلم والعلماء في عصور الخلفاء، ص. 123) أما موقف ابن حنبل خلال ما عرف بمحنة خلق القرآن فهو أكثر من مشهور.

 

ـ4ـ

 

الروايات المتعدّدة بهذا الخصوص مهمة ظاهراتيا لما تكْشفه وتصدرُ عنه أكثر من أهمية فحص حقيقتها التاريخية بما الأخيرة كذلك. وأهميتُها هنا تصدر أساسا عما تُعبّر عنه داخل الذاكرة الكتابية الجماعية ـ وليس ضرورةً داخل التاريخ بالمعنى الحصري ـ التي احتفظتْ واحتفتْ بها. يمكن أن يقال عن هؤلاء كما تصفهم الذاكرة الجماعية إنهم لم يقبلوا أن يكونوا جزءا من سلطة المعارضة عكسا لعلماء الفرق المذهبية السياسية ولم يقبلوا أن يكونوا جزءا من الجهاز الدعائي لسلطة الحكم القائم عكسا لعلماء البلاط وظلوا نسبيا سلطة أدبية لا تتمتع بجهاز مؤسسي متعين. فاعتراف المجتمع التدريجي بمكانتهم العلمية ومن ثم بمكانتهم الاعتبارية هو ما به أساسا تَكرّستْ سلطتُهم الأخلاقية. بل يمكن أن نقول إن المجتمع انتصر ذاكراتيا لهم عبر تركيز الاهتمام على مدارسهم الخاصة وآرائهم الفقهية وعزوفه عن كثيرين غيرهم ممن كانوا يتمتعون بشرعية السلطة القائمة أو البديلة. ويكفي تمثيلا هنا أن نقارن بين المكانة التي مازال يتمتع بها فقيه كأحمد بن حنبل والإعدام الرمزي الذي تعرَّضَ له قاض مثلا بمستوى يحيى ابن أكثم الذي تكاد لا تستدعيه الذاكرة الجماعية إلا بخصوص الروايات غير الجادة التي تهتم بنمط حياة المأمون بن هارون الرشيد.

 

ـ5ـ

 

طبعا لا شكَّ أن علاقة السلطة بالمؤسسات العلمية والدينية علاقة معقدة بطبيعتها ولا يمكن اختصارها عبر عصور التاريخ الإسلامي في النماذج التي قدمناها. كما لا يمكن اختصار علماء السلطة والسلطة البديلة دائما في البعد الدعائي التبويقي أمام التعدد الطبيعي للمعطيات والأوجه. ولكن هذه النماذج وكثيرا غيرها تشهد أنه كانت هناك رغبة جلية في ابتعاد ممثلي العلم اجتماعيا عن الاستتباع السياسي من قبل السلطة الحاكمة أو معارضتها وإبقائهم في مستوى من الاستقلال النسبي يؤهلهم لأن يلعبوا دور أصحاب المعرفة التي تتميز إذا بمستوى ما عن الإيديولوجيا التعبوية. وهو الاستقلال النسبي الذي هددتْه وتهدده ترسانات الدعاية الإيديولوجية الحديثة في كثير من الدول العربية والإسلامية.

 

ـ6ـ

 

يجدر بنا أن نأخذ هنا معطيين بديهيين في هذا الباب على محمل الجد. أولهما أن ترتيب الجامعات العربية ومعظم الجامعات الإسلامية يأتي في آخر السلم العالمي وليست لها أي مكانة تُذكر في البحث العلمي سواء الإنساني أو البحت. وحتى البحث العلمي الذي يتخذ من العلوم الإسلامية والعالم الإسلامي موضوعه فإن مراكزه الأكثر جدية تحتضنها جامعات وهيئات أكاديمية خارج العالم الإسلامي رغم ما يمكن أن يعنيه ذلك سياسيا.

 

أما المعطى الثاني فيتعلق بالآليات التي تتشكّلُ عبرها معايير التمايز التخصصي كآليات ذات دلالات ثخينة وحاسمة عند المسلمين كما عند غيرهم. يتعلق الأمر تبعا لذلك بمختلف الميكانزمات السائدة الآن في الدول الإسلامية والتي يتم عبرها صراحة أو ضمنا مسلسل التمايز المدرسي والأكاديمي بين فئات الجيل الواحد والتي تُشكّل الخلفية المحددة لتوجيه أنماط معينة من التلاميذ ثم الطلبة ثم الدارسين أو الباحثين إلى حقل الدراسات الإسلامية. لا شك أن هناك اختلافات معتبرة وإرثا حديثا متمايزا بين الدول الإسلامية بهذا الشأن ولكن معطيات غير هامشية ودراسات ميدانية متعددة تسمح لنا بالقول بأن أصحاب القدرات العالية وذوي التميز العلمي والكفاءات الواعدة، يتمّ في معظم الأحيان الحرص على توجيههم خارج ميدان الدراسات الإسلامية، ويتم الحرص على ذلك مؤسسيا واجتماعيا بشكل مباشر أو عبر سلالم انتقائية رمزية متعددة الطابع ومتعددة القدرة التوجيهية. ولا ينتج الأمر هنا بالضرورة عن نيات مبيتة أو مخططات مبرمجة بشكل واع ولكن عن ميول عامة تعبر عنها، في مستوى أقرب إلى اللاوعي الجماعي، المجتمعات الإسلامية ككل. وهو ما ينتج عنه في عدد كبير من الدول والجاليات الإسلامية مفارقة لا فتة يجسدها كون الفئات الأكثر قدرة على التأثير في المجتمع أي الأكثر مركزية في إنتاج القيم الروحية والرمزية هي الفئات التخصصية التي لم تتمتع إلا بأقل مستوى من عناية المجتمع بالتربية والتكوين مقارنة بالفئات التخصصية الأخرى.

 

ـ7ـ

 

يمكن أن نخرُج من هنا باستنتاج أوّلِي في هذا الأفق لوضْعه للنقاش. فاستئناف التفكير في دوْر الفقهاء والعلماء يقتضي إذا صدقتْ المنطلقات السابقة استئناف التفكير في مدى تمتّعهم أو إمكانية تمتّعهم باستقلال مدني عن سلطتيْ الأنظمة ومعارضاتها وفي وضعية الجامعات الإسلامية عالميا وفي ميكانيزمات التوجيه التي تؤطر تحديد أو اختيار التلاميذ والطلبة والباحثين في حقل الدراسات الإسلامية. وهو ما يؤول بداهة إلى مساءلة مكانة الحقل التربوي في الخيارت المجتمعية الرئيسة في العالم الإسلامي.