نساؤنا .. بين فكي كماشة العنوسة و "الزواج" السري/عثمان جدو

                                                              سم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى : { ومن آياته أن خلق لكم من انفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} الروم -الآية-21.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما بني بناء في الإسلام أحب إلى الله من التزويج "

من المعروف أن الزواج رابطة شرعية ؛تربط بين الرجل والمرأة ؛يحفظ بها النوع البشري من الانقراض ،أجازتها الشرائع السماوية المتقدمة بأجمعها وأكد الإسلام عليها ورغب فيها وحبب.

-أهمية الزواج ومكانته الشرعية

ونظرا لما لهذه الرابطة من مكانة وأهمية في النظام الاجتماعي .. تولي الشارع -جل وعلا-رعايتها بدقة وتفصيل ؛ حيث فصل قواعد الزواج وحدد أحكامه من أول لحظات التفكير فيه وحتى إتمامه والانتهاء منه ، وأولاه عناية خاصة وأحاطه باهتمام بالغ من بداية الشروع فيه إلى نهايتة بالموت أو الطلاق أو غير ذلك.
ولم يفسح الشارع المجال للناس ؛ليضعوا له ما شاءوا من أنظمة وأحكام ويقيموا له ما يرضون من قواعد وأصول ويحكمون فيه ما بدا لهم من عادات ، بل تولاه تفضلا منه وحرصا على مصالح العباد لحكمته -جل وعلا- ولعجز البشر عن وضع التصميم المتقن الصالح المحكم الذي يجب أن يبنى عليه الكيان الاجتماعي الرصين ؛الذي لا يداخله ضعف ولا يعتريه وهن ، ليكتسب الزواج بهذه الرعاية المقدسة التامة والحماية الفعالة ؛ ما يشعر الطرفين بأنهما يرتبطان برباط مقدس يشمله الدين بقدسيته في كل لحظة وحين ويجعله موجدا للسكن الآمن وباعثا للاطمئنان النفسي.

ولما كان الزواج يحتل هذه المكانة العظيمة ؛ لما له من دور فعال في إصلاح المجتمع وقيام الدين ؛كان لزاما علينا مراعاة ذلك وإعطاءه الأولوية الشرعية التي أعطيت له وأحيط بها ؛ إذ بنجاح الزواج وانتشاره يصلح المجتمع ويحصن ، وبفساده والعزوف عنه يفسد المجتمع ويتفكك نسيجه ..

-عوائق أمام الزواج

وفي مجتمعنا بالذات أحيط الزواج بمكاره ووضعت دونه عراقيل وأشواك ؛ سواء بفعل تراكم العادات وسيادتها في الميدان أو بفعل اللهث خلف الماديات والتباهي في الجمع والتحصيل .. مما ولد -فيما بعد- عزوفا لدى الشباب عن الزواج ؛ ترتب عليه انتشار "العنوسة" ؛ المرض المؤرق للنساء عموما وللفتيات خصوصا ، القاتل للمستقبل، المبدد للأماني، المخيب للآمال ،القاضي على الأحلام ..

-انتشار ظاهرة العنوسة وآثارها السلبية

لقد انتشرت العنوسة في بلادنا بفعل غلاء المهور واستفحال البطالة وإغلاق قفص الزوجية على أبناء العمومة إن وجدوا وإن تعداهم فإلى أصحاب الحظوة بالمال والسلطة والجاه ..!

إن الانتظار الطويل للزواج ؛ الذي فرض نفسه على الفتيات بفعل انتشار العنوسة جعلهن عرضة لمجموعة من الظواهر السلبية تبدو آثارها جلية على كل فتاة على حدة وعلى المجتمع ككل .. ولعل أظهر هذه الآثار تلك *النفسية* التي تتجلى في الشعور بالإحباط والحرمان لأن المرأة ميالة إلى الالتقاء والأنس بشريك حياتها أسوة ببنات جنسها وحرمانها من ذلك يؤدي بها إلى الاحباط وخيبة الأمل ، ومنها "العدوانية" حيث تلقي العانس باللائمة على رجال المجتمع الذين أعرضوا عنها وتشعر بالغيرة من بنات جنسها المتزوجات ؛ ولهذا تنظرغالبا إلى المجتمع نظرة حقد وكراهية ، ومن الآثار النفسية "العزلة والانطوائية" فملاحقة الفتاة العانس بالأنظار ومبادرة البعض إلى مجاملتها بتمني زواجها (دون أمل ) ؛ يدفعها إلى الهروب من مواجهة الناس ، كما أن الحرمان من الإشباع الفطري والعجز عن تلبية حاجات ونداء الفطرة كلها تزيد من التعقيدات النفسية التي تجتاح الفتاة العانس ؛ فمشاعر الأمومة والحب الزوجي .. من صميم فطرة كل فتاة ؛ وفيها الرحمة والسكن والمودة والمتعة والسعادة ، وعدم الزواج يحرم العانس من جميع الآثار الصحية للحياة الجنسية الشرعية والمتعة المباحة ، هذا بالإضافة إلى "فقدان التوازن النفسي" حيث تصاب الفتاة بنوع من عدم التوازن في شخصيتها ويظهر ذلك في سلوكها المتناقض في تعاملها مع الآخرين .. وقد تدفع ظروف العانس بها إلى "الانحراف الأخلاقي" في حال غياب الوازع الديني ، وقد يدفع بها ذلك أيضا إلى تدبير المكائد والمؤامرات لتنكد على منهم سعداء ومستقرون في حياتهم الزوجية ، وقد يدفع بها ذلك أيضا إلى السفور والتبرج والسلوك الإجرامي بتقبل الصور المنحرفة والمشوهة للتعويض عن المفقود ..! ، كما أن لهذه الظاهرة آثارا وتبعات صحية لعل منها : التوتر العصبي الدائم وما يتولد عنه من أمراض ضغط الدم والقولون والقرحة وحموضة المعدة والمزاج العصبي الثائر ..وكذا الأمراض الجنسية واختلال وظائف الغدد بفعل التوتر والاكتئاب المؤديان إلى إضعاف النشاط الحيوي والذهني للجسم ، كما لا تخفى على ذي بال العلاقة بين انتشار العنوسة وقلة النسل والتفكك الأسري بفعل تدافع المسؤوليات وزيادة الأعباء ، وما لها من تأثير على الروابط الاجتماعية بفعل عدم الزواج وبالتالي قطع الروابط الناتجة أصلا بفعل المصاهرة والنسب ..

-ظاهرة الزواج السري وأسباب بطلان المتداول منها

ومما لا شك فيه أيضا أن ظاهرة {الزواج} السري المنتشرة في مجتمعنا لا تقل خطورة عن سابقتها (العنوسة) ولا تقدم بدائل ناجعة عنها ، فعادة ما ينتشر الزواج السري بسبب فقدان الأمل بالزواج الشرعي المعلن ؛ وطبعا تنعكس تبعات الزواج السري سلبا على المجتمع من خلال تولد النزاعات بين أطراف هذا الزواج بين الفينة والأخرى ؛ سواء بظهور عائلة إلى جانب العائلة الأصلية بعد *وفاة الوالد* أو من خلال التغرير بها (الضحية) ؛ لتكون طرفا في لعبة زيجات متعددة في السر ؛ تكون هي الضحية وصاحبة "القيمة الأرخص" ، هذا بالإضافة إلى حدوث {العملية} غالبا في تجاوز كبير للحدود الشرعية التي تجعلها حرام في حرام وما نتج عنها مجرد "زنا" ومحض دعارة..! ، لأن "الشهود" غالبا ما يغيبون عن هذه العمليات ومعروف هو إلزام وجود"الشهود" لصحة *العقد* -عند أغلب المذاهب وخاصة المالكية- هذا بالإضافة إلى الاتفاق الثنائي بين الزوج والزوجة على الإخفاء غالبا قبل حدوث العقد ..! ؛ الذي يعتبر مخلا هو الآخر حتى وإن حضر الشهود ؛ الذين غالبا ما يستغني *المتسارون* في بلادنا عنهم جهلا وحماقة وسوء فهم لكنه المسألة وحقيقتها التي تضمن لها السلامة والموافقة الشرعية ..

-المساهمون في تنامي الظاهرتين

صحيح أن هناك من ساهموا بشكل كبير في تفشي ظاهرتي "العنوسة" و "الزواج السري" من خلال اعتمادهم لزواج أبناء العمومة فقط وإغلاق قفص الزوجية عليهم دون غيرهم إن لم يسعفه الثراء الفاحش والعطاء بإسراف ، وتحكيم رواسب العادات على مقاصد العبادات في صورة اجتماعية قاتمة سلبية ورجعية ..!
ومن الغريب أن بعض الفتيات تكون لهم خيارات مفضلة؛ بل حصرية لكنها تصطدم غالبا برفض واحتقار ذويهم بفعل الرضوخ والتشبع بالتراكمات المتولدة عن رواسب العادات ؛ وبالتالي عدم تفضيل هذه الخيارات كما حصل مع الفتيات وتفضيل ما لا يرقى إلى مستوى القبول عند الفتاة نفسها وغالبا ما يكون من أبناء العمومة ؛ ممن فشلوا في التعليم والتحصيل ! ، وهنا تحدث المشكلة في كون الفتاة قد تظل محتفظة بعهد المواعدة أو التلاقي ، أو ،أو، أو .. لخياراتها هذه وقد يصل ذلك إلى حدوث أشياء لا تحمد عقباها ، وفي بعض الأحيان يكون الأهل على علم تام بكل ما يحدث مما لا يرضون لسمعتهم ، وما لا يرضي الله لانحرافه عن جادة الصواب ، ولمخالفة تلك الالتقاءات للمقصد الشرعي ؛ الرافض للسفور واتخاذ الأخدان..
لكنهم يفضلون التغاضي عن ذلك ؛ ما دام الأمر لم يصل إلى حد الزواج والمباركة الرسمية المعلنة التي يعتبرونها منقصة لهم ..! ؛ وإن كان ذلك التصامم والتغاصي على حساب شرفهم وشرف ابنتهم المنتهك سرا بالإضافة إلى ما للأمر من بعد وتبعية شرعية .. المهم عندهم هو الحفاظ على الوجه المجتمعي لا الشرعي!!

-المسؤولون عن إيجاد الحلول ومعالجة الظاهرتين

أما والحالة هذه فإن المسؤولية الجسيمة تقع أولا على عاتق فقهائنا ودعاتنا ووجهائنا وساستنا وإعلاميينا وكتابنا وقادة الرأي فينا من أجل التصدي لهذه الظواهر ومعالجة المشاكل والآثار المترتبة عليها وإيجاد الحلول والبدائل الناجعة .. فلماذا لا يأخذ هؤلاء زمام المبادرة في معالجة المشكل المترتب على العنوسة وتبعاتها المتجلية في استرخاص المرأة من قبل الانتهازيين و استكانتها ورضوخها لأنصاف الحلول والبدائل الترقيعية..!؟ ؛
لماذا لا يتكلم دعاة المنابر عن هذه القضية بشكل صريح ؟ ؛ لماذا لا يبذلون جهدا من أجل توضيح سلبيات هذه القضية ويقدمون بدائل معالجة أو تكييف حتى تتحول من السلبية إلى الإيجابية !؟ ؛
لماذا لا يسيل الحبر المهدور في قضايا أقل حدة ؛ في هذه القضية؟ ؛ خدمة للمجتمع ومساعدة للأمهات والأخوات والخالات والعمات !! ؛
إلى متى تتقاعس الشخصيات الوازنة والهيئات المتخصصة والمنظمات الناشطة عن النشاط في معالجة هذه القضية وتوفير حلول وبدائل ومساعدات تقلل من المخاطر المترتبة على الفرد والجماعة ؟ ؛ ليس بالنقاش والإثراء النظري فحسب ؛ بل بالمبادرات العملية والمساعدات الميدانية والاتصالات المباشرة..!
لماذا لا يتجاوز الكثير منا "عقدة" انحصار الكفاءة في أبناء العمومة ؟ .

-مسؤولية الجميع تجاه القضية

علينا جميعا أن نسعى في إذابة جليد الطبقية أمام القضايا الزوجية ، وعلينا أن نزيل قشور وأوضار الشرائحية وأدران الانعزالية الإثنية أمام هذه الظاهرة التي تعيق تقدم وانسجام المجتمع وتقلل من فاعلية نسيجه في مواجهة الأزمات ، والتصدي للهزات واللكمات التي يسددها أعداؤه بين اللحظة والأخرى

المصدر : عثمان جدو

نقلا عن موريتانيا المعلومة