عندما تصبح طبقة الموظفين مترفةّ! / الولي ولد سيدي هيبه

صحيح أن الحركة الاقتصادية تشهد منذ سنوات تحسنا مضطردا تبرز كل تجلياته في حركة غير مسبوقة للبناء و ارتفاع عمارات ذات الأدوار المتعددة في مشهد لم يعتد رؤيتها الموريتانيون إلا في الأشرطة التلفزيونية أو السينمائية أو الصحف المصورة. كما تأخذ هذه الحركة الجديدة تأكدها في تجارة 

الكماليات من ثياب و عطور و أجهزة منزلية و ترفيهية و شاشات تلفزيونية عملاقة في حوانيت تمتد على طول كل الشوارع الرسمية في قلب مدينتي نواكشوط و نواذيبو تحاكي في أضوائها و واجهاتها و محتوياتها أرقى مثيلاتها في الخارج.
كما أن البنى التحتية من إنارة عامة و شوارع معبدة شهدت هي كذلك تحسنا ملحوظا زادت وتيرته و حجمه مع انعقاد القمة العربية السابعة و العشرين و لأول مرة في نواكشوط حيث افتتح مطار نواكشوط الدولي "أم التونسي" ليلبي حاجة ماسة ظلت ماثلة منذ الاستقلال و يرفع الحرج عن عاصمة تفتقد إلى جل المعالم التي تصنع "هيبة" العواصم عبر العالم. حقيقة يصعب النطق بها لكنها حقيقة تفقأ العيون و تثير التعاليق و الاستغراب.
هي إذا بنى تحتية جديدة عمودها الفقري شوارع رسمية محفوفة بالأرصفة للراجلين و منارة بالأعمدة المزودة بالطاقة الشمسية ذات اللون الأزرق الخافت البهيج. و على الشوارع هذه تزداد حركة مرور حيوية تشف في وسط العاصمة و الأحياء الراقية عن أفخر و أحدث أصناف و نوعيات و ماركات السيارات العالمية في قيادتها صبية أغرار و نساء يافعات و شيوخ متصابون لا سعي لهم باد إلى بناء ينعش و يطور اقتصادا أو عمل خيري يردم الهوة الدنيا بين الفاقة و الكفاف. إنها مظاهر براقة في وجهها البارز علامات حركة التنمية و من قبلها حسر للأموال و تكديسها و تجميدها فيما لا ينتفع من فيض استثمارها و ريع نموها و مضاعفتها غير أصحابها.
صحيح أن مظاهر الفساد الصارخة قد اختفت بعد ما أعلن من حرب عليه و ما تم فعلا تحقيقه في ذلك الصدد لكن الدودة في التفاحة و إن الفساد ليس مكتسبا بل له أصل في السلوك و الطباع و مرتكز في عقلية "السيبة"  العامة. و إن رواسب الماضي و ما أبقته في لب عقليته العالقة في الأذهان و الملاصقة للفعال من مظاهر السطو بلا وازع و الظلم بلا رادع على خلفية سيادة القيم التقليدية والروابط القائمة على النسب والقرابة و اعتماد توازنات الطبقية و الشرائحية في قوالبها التي كسرت كل حواجز الماضي لتعيش الحاضر ما تزال غدة سرطانية عصية على الاستئصال الجذري، و هي التي تقيض بل و تجهض كل محاولات الالتحام بمنصة دولة القانون و المواطنة رغم أن البعض أراد لها أن تتحرك و وضع مساطر قانونية مفصلة، دقيقة و صارمة في نصوصها و وضوح آليات تنفيذها.
و لما أنها مساطر كبحت في الممارسات المعلنة "جماح" المفسدين و المسيرين المنحرفين إلا أنها لم تجد سبيلها إلى التنفيذ المطلق و الردع من غير تقييد من شدة ما أحيطت به من طرق الإفلات عن المعاقبة و من سلوكيات التحايل المبتكرة على الأدلة و البراهين في حيز:
- أوله القدرة المستحدثة على إخفاء مظاهر النهب بعدما كان يعلن غنائم بكل فخر و اعتزاز و يشاد بأصحابها ز تعتبر علامات بارزة على القوة و الوجاهة،
- و ثانيه تشابك مصالح المفسدين و تقاسمهم المال المغتصب من ناحية، و مسؤوليات أسباب غيابه حتى يتفرق دم النهب بين القبائل و رجال المال و اللبيات فيصعب الوصول إلى المتهمين و تستحيل محاسبتهم من ناحية أخرى.
و ليست أحياء الموظفين السامين و الأطر المتوسطين التي تنبت في المناطق الراقية و كأنها الفطريات في الخريف على أرض خصبة من توفر الفضلات إلا أقل هذه المظاهر التي أخذت أشكالا و ألوانا باذخة باستثناء أي وجود للمصانع و الورش الكبرى و التي لو أقيمت لكان لها الأثر المحمود و البالغ على تشغيل يد عاملة من الشعب في القاعدة فتمتص جزء من مظاهر البؤس و الفقر الموازية لترفهم وهنائهم.
و ها هو عيد الأضحى المبارك قد أطل ليرفع بعض غطاء عن هذا التباين فترى الأسواق الكبرى على ما أحيطت به من سياج أمني ضروري تستقبل فئتين كأنهما خطين متوازيين لا يلتقيان. فئة قليلة سياراتها فارهة و جيوبها متنفخة تقتني في السوق أجود ما فيه و إن الكثير من محتويات محلاته ملك لبعض أفرادها، و فئة كالسيل لا يكاد أفراها يقوون على شراء ما يعرض عليهم من البضاعة الرخيصة الصينية و التايلاندية و ما شابهها من دول آسيا المنتجة و لا أثر مطلقا لصناعة محلية تحمل عبارة صنع في موريتانيا.
و ما انتشار هذا الفقر الذي تعمل الدولة على محاربته إلا بسبب انتشار ظاهرة الفساد هذه و قد تقمصت أشكالا من السلوكيات الهدامة التي اعتمدها و يقوم بها في أعلى الهرم من يتولون المناصب العامة قبل أن تستشري عدواها إلى الأسفل في القاعدة فتغرق المصالح حتى لم يعد من الممكن عزل أصحابها في الوقت المناسب.
و لكي تُعطى محاربة الفساد حظا أوفر من النجاح و تمكن البلاد من الاجتياز إلى بر الأمان فإنه لا بد من تفعيل المسطرة المستحدثة الجيدة التي تم وضعها و سن قوانينها بعد ما يسبقها رصد جديد لمظاهر هذا الفساد خفية كانت أم ظاهرة و تحديد قوالب سلوكياتها من الرشوة (Corruption) أي الحصول على أموال أو أية منافع أخرى من اجل تنفيذ عمل او الامتناع عن تنفيذه مخالفةً للأصول، والمحسوبية (Népotisme) أي تنفيذ أعمال لصالح فرد أو جهة ينتمي لها الشخص مثل حزب أو عائلة أو منطقة…الخ، دون أن يكونوا مستحقين لها، والمحاباة (Favoritisme) أي تفضيل جهة على أخرى في الخدمة بغير حق للحصول على مصالح معينة، و الواسطة (Interventionnisme) أي التدخل لصالح فرد ما، أو جماعة دون الالتزام بأصول العمل والكفاءة اللازمة مثل تعيين شخص في منصب معين لأسباب تتعلق بالقرابة أو الانتماء الحزبي رغم كونه غير كفؤ أو مستحق، و نهب المال العام (Détournement des deniers publics) أي الحصول على أموال الدولة والتصرف فيها بغير وجه حق تحت مسميات مختلفة، و الابتزاز (Extorsion) أي الحصول على أموال من طرف معين في المجتمع مقابل تنفيذ مصالح مرتبطة بوظيفة الشخص المتصف بالفساد. و إنها الأوجه و القوالب كلها التي يتوزع عليها مصاصو دماء البلد و جلادو شعبه و مقوضو مسيرة نموه و موجهوه إلى بؤر الهوان و التلاشي. فلا بد من إيقافهم بعد تدمير أطرهم التي يحتمون فيها و يستظلون بسقفها من شمس العدالة و مطرقة المحاسبة.
و لأن فرص ممارسة الفساد تزداد  في ظل عدم اكتمال الإطار القانوني الذي يوفر بيئة مناسبة للفاسدين فيستغلون ضعف الجهاز الرقابي على الوظائف العامة في هذه المراحل ليعيثوا فسادا، و يزداد كذلك و على العادة في المراحل الانتقالية و الفترات التي تشهد تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية و كذلك، فإنه لا بد وجوبا من وضع خطة مناسبة للوقوف بالمرصاد لهذا الفساد و حماية البلد منه و من شر عواقبه.