فوضى التاريخ .. أو… مُشاعية كتابة الأحداث – ناجى محمد الإمام

التاريخ هو هذا السجل الحافل بالأحداث الذي يظل الشغل الاول ل”لإنسان” والشاغل الأبدي للأفذاذ من بنيه، لا ينفك يمارس سطوته عليهم و يمارسون صناعته و روايته منذ وجدوا على هذا الكوكب العجيب ،وهم لمَّا يتجاوزوا المحكي إلى المنحوت و بعد أن تجاوزوهما إلى المكتوب ليظل الحرف يهيمن على صفحاته مذ ذاك إلى الآن…

فهل سيصبح الكناش المصور والشريحة و التدوينة المرئية و اللقطة “إضبارةَ “التاريخ القادمة الأكثر و ضوحا والأقل صدقا بحكم ما تتيح من عبث بمحتوياتها و تزوير لمقتنياتها وتعدد لمستعمليها و فُشُوٍّ لاستعمالها و غزارة في مادتها؟

و هل يعني انتفاء الموثوقية وانتهاء المرجعية العلمية و غياب الحجة القاطعة وانتشار العبث وسيادة الفوضى في كل مناحي المعرفة البشرية ،العودةَ إلى اللحظة الأولى البدائية التي تتيحها القدرة على التدمير و شمولية مفعوله الرهيب؟ كنا ، قبل هذا التساؤل المفزع ، قد حاولنا الإجابة ، في مقاربة سابقة ،على سؤال شَرْطي رعفت فيه ملايين الأقلام وأعملتْ لفك طلاسمه الأفهام ، ألا وهو: تُرى من يصنع التاريخ؟؟

وغاية ما تُتيحه القراءة المتأنية الفاحصة لمنتوج الأسلاف :أن التاريخ صناعة أفراد … ولكنَّ السؤال ـ التوأمَ الملاصق “السيامي” الذي يشبهه في كل ملامحه هو: تُرى من يكتب التاريخ ؟؟

ومن حيثُ الأساس فإن الجواب هو :ان التاريخ يكتبه المتغلب ، ولكن استحالة الاحتكار في مجال الكتابة و الرواية و سطوة “العلم بالقلم” مكنت المغلوب في الكثير من الصراعات من أن يترك للزمن والأجيال اللاحقة وجهة نظر مغايرة لرواية الغالب،و إن أحكمتْ قاعدة: “استحالة إعادة تصنيع التاريخ” فقد جفت أقلام الرواية بما سطر المنتصِرُ “أنه كائن ” و طويت الصحف.. هذا إلى حد “حدِّ قرن” القرن الحادي و العشرين الحالي الذي يشهد ملامح انقلاب مذهل في كل شيء بحيث لن يعود مسلما بأي شيء سوى تعدده و قابليته لنقيضه ليس بسبب تعدد الرؤى في حد ذاتها فقط ، وإنما الأدهى قدرةُ المتحكم القابع وراء الأفق كمنظومة مالكة، على العبث بالمعطيات التي من خلالها تتشكل قناعة “الراوي” الذي يكتب أو يصور أو يركب أو يوّالف أو يحقب “المنتج” الذي يؤرخ للأحداث والمحدثين (بفتح و كسر الدال)..

فهل جاز لنا أن نسأل : لمن سيكتب التاريخ عندما أصبح بمقدور أي مستعمل لتقنيات التواصل أن يكتب أحداثه من وجهة نظره أو يصوره أو يسجله بالأدوات التي تتيح “الشك” ولا تضمن “اليقين”؟ فكما يستطيع فاشل في السنة الإعدادية الأولى أن يصلح لعالم لسانيات حاسوبه العاطل ،فإن باستطاعته و ببساطة أكبر، أن يُعيدَ، بالقص و اللصق ،ترتيب أي مرجع معتمدٍ وينسبه لمن شاء ليتلقفه باحث آخر ويستدل به على ما شاء، ولاشرعية لمن يقيمُ حجة على آخر… إن العاصفة التقانية الهوجاء التي يجتاح بها الإنسان شواطئ إيمانه بالثوابت ،كل على طريقته ،بقدر ما توفر من وسائل و وسائط التعمير.. فإنها تنذر بفوضى عارمة في المفاهيم و القيَّم و المعارف و المرجعيات. ولو تحكم في دفق المعلومات/المجهولات “سيد” واحد ـ اليوم ــ فإن “سادة” آخرين ينتظرون “دورهم” في “الدورة” التقانية الكونية لإعادة “تدوير” نفس “المنتوج” “المستعمل” لممارسة “السيطرة”…لأنهم “المتغلبون” و إن تعدد الموهومون بالتعددية…فهل في ذلك “برهان” متجدد على أن “الغالب” هو الذي “يصنع التاريخ” و “يكتب” منه النسخة الأكثر رواجا ؟؟ باستطاعة كل فلاسفة ومفكري كل الدنيا من يوم الصرخة الأولى إلى الطامة أن يُنَظِّرُوا للعدل و السلم والرخاء والعيش الرغيد والجور و الشر و البؤس، ولكنهم لايستطيعون أن يغيروا “قاعدة فريدة من حقائق الأشياء” هي أن القوي ــ في النهاية ــ هو الذي يحكم” .