أكجوجت أنفو تنشر سيرة الفقيد أحمد بابا ولد أحمد مِسكة

وُلِدَ أحمد بابا ولد أحمد مسكة في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين، في عامٍ يُخمِّنُ أغلب مترجميه أنّه إما 1932 أو 1933، (رغم أنّ أوراقه الرّسمية تُحيل إلى 1935)، في مدينة شنقيطي بآدرار لأسرة تتكوّن من أربعة أشقّاء وأختان وأخ لأم. كان أبوه هو أحمد مسكة ولد العتيق، وأمّه هي سْويْعيدو بنت بزيد ولد اللّيّ. وإضافة إلى الأصول الزّاويّة، الدِّينيّة العِلميّة، لأسرتِه فإن أباه كان مضطلِعاً باللغة الفرنسية وتقاليدها الدِّراسيّة. ويبدو أنّه قد نشر مقالاً عن التفاصيل النسبيّة والانقسامية والتاريخية لقبيلته، أهل بارك الله، في مجلّة أنثروبولوجية استعمارية مهتمة بالحياة العشائرية لمنطقة غرب إفريقيا، المستعمرة فرنسياً هي مجلة Bulletin du Comité d’études historiques et scientifiques de l’Afrique occidentale française  وذلك في 1937. ولا نعرفُ هل كلُّ المقال مجهوده أم أنّه كان مزودُّه الرئيس، كما كان يحدثُ أحياناً في هذه المجلات.


كان جده لأم بزيد ولد السالك، وهو من عاشَ معه أحمد باب أكثرَ من أبيه، ترجماناً مُعتبَراً، تنقّل من الجنوب الغربي إلى الشمال الموريتاني. ولم يكن المترجمون في النظام الاستعماري مجرّد مُوصِّلين؛ بل كان لهم نفوذ إداري وسياسي معتبر، رغم أنّ نخبةً منهم كانت فنيّة وبيروقراطيّة، بل وأحياناً ثائرة، بدءً من الأربعينيات (كما كان حال أحمدو ولد حرمة مثلاً). وقد صارَ منزل بزيد مقصداً للزائرين والمقيمين من مختلف الأنحاء. في هذه الأجواء المتشعِّبة ثقافياً تنقّلَ أحمد بابَ بين بيوتات وخِيّام جده وجدّته في أطار وافديرك وأزوكَي (التي توجد له بها صورة يقرأ اللوح إلى جانب أخيه وتحت إمرة جدِّه في 1950) وبوادي الصّحراء. وحفظ القرآن الكريم في وقت مبكر وتابع الدراسات والتلقينات التقليدية النحوية والأدبية الرائجة في عهده، فمرّ على ألفيّة ابن مالك ورسالة أبي زيد القيرواني والمُعلّقات.

في أطار، التي أصبحت عاصمة الشمال ومركزاً مدنياً مهماً، التحق أحمد بابَ بالتمدرس الفرنسي الابتدائي، الذي كان أيضاً يُقدِّمُ خدمة تدريس العربيّة وبعض العلوم الدِّينيّة، لإغراء المقاطعين. وهنالك التقى كثيراً ممن سيكونون من أعيان موريتانيا وعلمائها، لم يكن أقلّهم شهرة محمد عالي (1889-1980) ومحمد سالم (1929-2009)، ابنا عدّود، اللذين زارا أطار وأقاما به لفترة وجيزة في أربعينات القرن العشرين. واصل دراساته الإعداديّة في لكَوارب (روصو) وبوتلميت. ثمّ درَس في ثانويّة “فيدرب” بـ”اندر” (سان لويس السنغاليّة). ثمّ انتقل إلى السنغال ودرس لفترة قصيرة الباكالوريا في فرنسا، التي حلّ عليها في 1954 وتواصل فيها مع الجاليّة الموريتانيّة. وعادَ إلى جامعة دكار بالسنغال (جامعة الشيخ أنتا جوب منذ 1987). بدأ أحمد بابا وعيَه بميولٍ ثقافيّة، فقرَضَ الشِّعر الفصيح والملحون (لغنَ)؛ وتصادق مع أهل العلم والأدب. وتشير مراسلاتُه إلى تواصل مع المؤرخ الموريتاني المختار ولد حامدن (1898-1993)، الذي درّسه لوقت وجيز في أطار (حيثُ عُيِّنَ أستاذاً للغة العربيّة منذ 1943، بُعيدَ عودتِه من رحلته التِّجاريّة الأدبيّة في السنغال). وقد قرضَ ولد حامدن شعراً في أحمد بابَ يُنوِّهُ فيه باهتمامِه بالدراسة والثقافة. كما تراسل أحمد بابَ مع الرّحالة والإثنولوجيّة الفرنسية المهتمة جداً بالثقافة الموريتانيّة، أوديت بويغادو (1894-1991)، ومع المؤرخ الرّائد محمد مولود ولد داداه (1922-2012).

***


بيدّ أنّه سرعان ما رجع إلى السنغال لإكمال دراسته. في أواخر 1955، وهو في موريتانيا، اختطفته السياسة عندما اتصّلَ به وجهاء انشيري، وخصوصاً أكجوجت، لتمثيل وفدهم في روصو في مؤتمر لـ”الاتحاد التّقدمي الموريتاني”، الذي كان حزب المؤسّسة الاستعمارية المتفقّة مع وجهاء المجتمع وأعيانه من أمراء وشيوخ وممثليات قبليّة وزعامات دينيّة. لم تكن لأحمد بابَ ميول سياسيّة في هذه الفترة؛ ولكن وجهاء أكَجوجت اختاروه لحاجتِهم لنبيل متعلِّم يخطب عنهم. بيْدَ أن حياتَه العامة ستتغيّر كُليّةً عندما التقى على هامش هذا المؤتمر بخليّة شبابيّة مُتذمِّرَة ناقشت بديلاً سياسيّاً للأوضاع القائمة. ضمّت الخلية كلاًّ من محمد ولد الشيخ ولد أحمد محمود (1928-2013)، اليساري المتحمِّس، صاحب الأفكار التنظيميّة الهامة، ويحيى ولد منكوس (مولود 1930) وأخا أحمد بابَ، بزيد ولد أحمد مسكة، ولاحقاً يعقوب ولد أبو مدين (1923؟-1975)؛ وقد بدأت الخليّة تُفكِّرُ في الانشقاق عن “الاتحاد التّقدمي” لارتباطاته المخزنية والاستعماريّة. اتّسمت أفكار المجموعة بالمثاليّة ورفضت النمط القائم من السياسة الذي سمّتهُ بـ”بُولَتيك”، الإصطلاح الكِلبي الشّعبي السّاخر من خبائث السياسة وتقلُّباتِها.

كانت السياسة الموريتانيّة آنذاك منقسمة بين اتجاهين كبيرين: محافظ مثّلّة “الاتحاد التقدمي الموريتاني”: بقيادة سيدِ المختار ولد يحيى انجاي (1916-1997) ولاحقاً المختار ولد داداه (1924-2003)؛ وقد جمعَ الأعيان والوجهاء وموظّفي الدّولة؛ وحزب استقلالي اشتراكي، ولاحقاً وحدوي شبه قومي عروبي، ضمّ المتعلمين و”الطبقة الوسطى” المدنيّة، وطبعاً قواعده العشائريّة، وقد مثلّهُ “حزب الوفاق” (أو “الوئام” بحسب الترجمة) بقيادة أحمدو ولد حرمة ولد ببانا (1907-1979). كان “حزب الوفاق”، رائد شعلة النضال الوطني الدِّيمقراطي، في هذه الفترة قد بدأ يتضعضع بفعل ضربات الاستعمار وبدأ يفقد نواتّه القديمة؛ كما أنّ غياب أحمدو ولد حرمة الدّائم في فرنسا، وعدم اهتمامه بحزب شعبي اجتماعي، ومواقفه الأخيرة، ونزوعه اللاحق إلى فيدراليّة مع المغرب، لم تنل إجماعاً وسط جيل الشباب وجعلته متجاوزاً في السياسة المحليّة. وبدأت تتبلورُ في المدن الموريتانيّة، وخصوصاً في روصو وأطار، نواة سياسيّة راديكاليّة. ورغم أن بعضَ أعضاء “الوفاق”، كالمناضل الكاريزمي بوياكَي ولد عابدين، كان ما تزالُ برّاقة في المشهد السياسي الثوري (حيثُ ضربته الإدارة الاستعماريّة وكسّرت أضلعه ونفته إلى باماكو)، إلاّ أنه سرعان ما أصبح يُمثِّلُ شخصيّة مستقِلّة، وإن بقيّ مخلصاً لولد حرمة. استغلّ أحمد باب فترة تأجيل في أيام مؤتمر “الاتحاد التّقدمي” فانشقّ عن الوفد الذي بعثَه والتحقَ بالخلية الشبابيّة، التي قرّرت تنظيم نفسها في”رابطة الشباب الموريتاني” وتبنّت موقفاً حيادياًّ تجاه الحزبين الكبيرين (مع معارضة أبين طبعاً  لـ”الاتحاد التقدمي”)، في أواخر 1955. بل وإن الرابطة تقاربت كثيراً مع “الوفاق”، بل وناصرته انتخابياً بعد ذلك، بحيثُ أن الكثيرين، بمن فيه بعض أفراد الرّابطة (كبمبة ولد سيدي بادي مثلاً) لم يروا فيها غير جناح داعم لولد حرمة.

***

رغم مثاليّة رابطة الشباب وعزوفها الابتدائي عن الطرفيّة السياسيّة إلاّ أنها أرادت أن تجد لنفسها موقع قدم في السياسة القائمة. فقد رامت رخصة لتنظيم سياسي من العاصمة الإدارية للقطرين الموريتاني والسنغالي، “سان لويس”. وهو ما توّفر لها سريعاً (رغم أنّها “تعرّضت لمضايقات شديدة من الاستعمار”، بحسب تعبير المختار ولد داداه)؛ وصار أحمد بابا، على صغره، أمينا عاماً للحركة. وسرعان ما مرّرَت الحركة أفكاراً عندما بدأت بالدعوة للقضاء على ظاهرة تسمين البنات القسري (لِبْلوح) وإلغاء العبودية، وهو ما جعل القوى التّقليدية تُكفِّرُها. ورغم أن الجمعيّة لم تُحقِّق نتائج انتخابيّة كبيرة في انتخابات “الجمعيّة الفرنسية”، التي دعمت فيها “الوفاق” ضد سيدِ المختار ولد يحيى انجاي، مرشّح “الاتحاد التقدمي”، المُموّل جيّداً، في يناير 1956 إلاّ أنّها سرعان ما أثارت قلق الإدارة الاستعماريّة التي وضعت أعضاءها في الرقابة؛ وطاردت أحمد بزيد ولد أحمد مسكة وتابعتُه في دكار، حسب ما يحكي المختار ولد داداه في مذكِّراته.

أعطى استعداء الاستعمار للرابطة قبولاً شعبياً للرابطة. وقد اعتبر أحمد بابا أن المختار ولد داداه نفسه كان متأثراً بأفكار الجمعيّة وكان نصيرا، إن لم يكن منتسباً للرابطة. وقد نقل المختار ولد داداه نفسه كيف أن مناصرتَه للرابطة قد أثارت امتعاضَ رفاقه في “الإتحاد التّقدمي الموريتاني”، الذين استخدموا تلك العلاقة مع حركة مشبوهة لعرقلة صعود المختار ولد داداه. وكان من دعاية هؤلاء ضدّ “رابطة الشباب” هو أنها “فرقة مناوئة للدين”، كما نقل ولد داداه. أما في الممارسة فلم تمنع هذه الوصمات من تزايد شعبيّة الرابطة، وخصوصاً في أوساط المعلمين والطلاب والنخب المدنيّة المستقِلّة. وسيتعاطف معها من سيكونون أهم رجالات الدولة الموريتانية من المختار ولد داداه حتى معاوية ولد سيد أحمد الطايع، مروراً بالمصطفى ولد محمد السالك.

***


بعد 1957 حدثت تغيّرات سياسيّة مهمة في حزب السلطة الاستعماريّة. فقد صعد محامٍ شاب هو المختار ولد داداه، الذي استفادَ من علاقاتِه الفرنسيّة ومن منبره الدِّعائي، أول جريدة موريتانية جدلاً، جريدة “الإتِّفاق”، في تكريس نفسه بديلاً لسيدِ المختار انجاي. وسرعان ما سبّبَ هذا خلافاً بين الرئيس القادم للبلاد وأمين عام “الجمعيّة الشبابية الموريتانية”. وكانت فيه مرارة شخصيّة، ذلك أن المختار ولد داداه وأحمد بابَ مسكة كانا قريبين جداً من بعضِهما البعض. فقد قدِم المختار، الذي كان صديقاً لخال أحمد بابَ للإقامة مع جدِّ أحمد باب، بزيد ولد السلك في أطار، وسكن لوقتٍ مع آل أحمد مسكة في الأربعينيات. وكان أحمد بابَ يعتبِرُه بمثابةِ خاله. وعندما درسَ أحمد بابَ في بوتلميت ظلّ بقرب عائلة ولد داداه. وفي 1954، أثناء دراستِه الوجيزة في باريس بقيّ أحمد بابَ قريباً من المختار ولد داداه. وتُظهِرُهما الصورة أعلاه في وقفة تذكاريّة وديّة. ويذكر المختار ولد داداه وأحمد بابّ ولد مسكة رحلةً لهما سويّة في نفس العام في رحلة في سيارة R4 من فرنسا إلى النرويج. ورغم أن المختار كان أكبر بحوالي ثماني سنوات من أحمد بابَ إلاّ أنّه صارَ صديقاً قريباً ونصيراً له بعد ذلك. وخصوصاً بعد الظهور السياسي لأحمد بابَ وأخاه أحمد بزيد، الذي ربّما كان حتى على صداقة أوثق مع المختار. وقد بدأ المختار يتحدّثُ مع أحمد باب منذ وقتٍ مبكِّر بشأن ترشُّحه للنيابيات. واقترَحَ عليه التّرشحَ لـ”مجلس الاتحاد الفرنسي” في 1954.

بيدَ أن خياراتهما السياسية فرّقتهُما. فبعكس أحمد بابَ، المثالي الحالِم والثائر، فإن المختار ولد داداه كان واقعياً ومراحِلياً. وقد اختار الدّفعَ بحظوظِه السياسيّة من داخل حزب السُّلطة. وهو ما جافى بينَه وبين أحمد بابَ على المستوى السياسي، وأحياناً الشّخصي. وزاد من هذه الخلافات اعتبار “الرابطة الشبابيّة”، كغيرِها من الحركات السياسيّة، أن فوز المختار ولد داداه بانتخابات “الجمعيّة الترابيّة” في 31 مارس 1957 كان مُزوّراً، على عادة الإدارة الفرنسيّة، التي فرضت تصويت العناصر الأمنيّة في اللحظة الأخيرة وعبأت القبائل لصالحها. وزادَ الطِّين بلّة أن أحمد بابَ ولد أحمد مسكة، إلى جانب آخرين، قادَ احتجاجات “الجمعيّة الشبابية” في مايو 1957 على تعيين المختار ولد داداه لفرنسِيّيْنِ في الحكومة.

وإضافة إلى أن المختار ولد داداه كان أصلاً يؤمن في فلسفتِه السياسيّة بأن الحزب الواحد، والنظام الرئاسي، لا البرلماني، هو الأفضل لبناء الدُّول الفتيّة فلعلّه كان لهذه الاحتجاجات والمضايقات التي قامت بها حركة الشباب عميقَ الأثر في بلورة هذه الفكرة لديه. وهكذا بدأ في الدّعوة لتوحيد السياسيين في حزب وطني كبير في 1958. وبدأ ضربتِه السياسيّة التي عُرِفت بـ”مؤتمر آلاك” في مايو 1958. كانت الإدارة الفرنسية، التي حوّلت المشهد السياسي إلى أحزاب وجماعات متنافرة ذات بعدٍ قبلي وجهوي، وخصوصاً بعد “قانون الإطار” في ابريل 1957، قد بدأت تستشعِرُ الخطر والقلق من الطائفيّة السياسية. وقد استطاع المختار ولد داداه حلّ هذه المشكلة مؤقّتاً عندما أقنع بقايا حزب “الوفاق” و”الكتلة الديمقراطيّة لغورغول” (حزب هالبولاري تأسّسَ في 1957) برئاسة ممادو صنبولي با في حلِّ نفسِها، جنباً إلى جنب حزب السلطة “الاتحاد التقدمي الموريتاني”، وإعادة التأسيس والتوّحد في حزب وطني هو “حزب التّجمع الموريتاني”. أما “رابطة الشباب الموريتاني” فقد رفضت مشروع الوحدة الذي اقترحه حزب “الاتحاد التقدمي” في 26 ديسمبر 1957. وبقيّت، على امتعاضِ ولد داداه، خارج مؤتمر ألاك.

***

ورغم أن بعض أعضاء الرابطة الشبابيّة التي نشطَ فيها أحمد باب ولد أحمد مسكة قد انضموا للصفقة السياسيّة في ألاكَ إلاّ أن المختار ولد داداه الذي فرضَ إرادته وحنكته السياسيّة على “التّجمع”، وكان أمينَه العام ذا الصلاّحيات الموسّعة، سرعان ما طردَهم من الحزب بعد شهرين (في مؤتمر الحزب بنواكشوط في مايو 1958) بسبب معارضتِهم لسياساته ولشخصه. وهكذا اضطّر شباب الرابطة بقيادة أحمد بابَ إلى إيواء المطرودين وتأسيس حزب يحقُّ له أن يمارِس السياسة بحسب تشريعات “قانون الإطار”؛ فكان أن أسّس أعضاؤها “حزب النّهضة الوطنيّة الموريتانيّة”، في 25/26 مايو 1958 بكيهدي، وأصبَح أحمد بابا ولد أحمد مسكة أمينَه العام.

كان “حزب النّهضة” أول حزب موريتاني مُعارض (إذا استثنينا الجهود التاريخيّة لولد حرمة)؛ وسرعان ما اتجه أفرادُ هذا الحزب إلى استدعاء بوياكَي ولد عابدين، ممثّلَ الاتجاه الراديكالي في “الوفاق”، الذي رفض الاندماج في حزب السلطة، عكس بقيّة المناضلين، وكان شبهَ منفي إلى باماكو آنذئذ، ورأّسوهُ على حزبِهم. وكانت لبوياكّي سمعة نضالية وراديكاليّة. وكان قد بدا يوطِّدُ نفسه في الأوساط الثورية بديلاً، وإن مُمثِّلاً أحياناً، لولد حرمة، الذي غادر البلاد. وإضافة إلى الفراغ الذي خلفه غياب ولد حرمة فقد ساعدّ انتصارُ المختار ولد داداه على خصمَيْهِ التّقليديَيْن، سيدِ المختار انجاي وسليمان ولد الشّيخ سيديا، على إزاحة “المعارضة” القديمة لصالح الصّاعدين من “حزب النّهضة”. وقد ظهرت من بين هؤلاء الشباب، إضافة إلى بوياكّي وأحمد بابَ، أسماء كلٌّ من هيبة ولد همّدي ويحيى ولد منكوس وبمب ولد اليزيد والشيخ ماء العينين ولد محمد اشبيه ويحيى ولد عبدي ولد مكي ويعقوب ولد أبو مدين وبمبة ولد سيدي بادي وابنُ ولد ابنُ عبدم وغيرهم. ورغم أن حزب “النّهضة”، اتُهِّم بمركزيّة بيضانيّة جعلته يفقد شعبيته في أوساط الضفة، إلاّ أنّه حظيّ بممثِّلين وقيادات من الضفة أمثال بوبكر ألفا با وسومارى كي سيلا وكوني علي بري. بيدَ إن وشائج من رفض “الرابطة” للدعم السنغالي لحزب “الوفاق”، ومعارضتِها لنفود سنغور ولمين غاي في موريتانيا، الذي كان طبيعياً في ظلِّ توحد القطرين في إدارة استعمارية واحدة، انعكست أحياناً على حظوظ “النهضة” وسط الزنوج الموريتانيين.

بدأ حزب النهضة نشاطاً خطابياً قوياً وجال أفراده في المدن الموريتانيّة داعين إلى رفض الانضمام إلى الاتحادية الفرنسية؛ وإلى الاستقلال الفوري بدل انتظار الخطة الفرنسية لتسليم السلطة؛ وفي نفس الوقت دعا خطابه الخارجي إلى توحيد الجهود مع المغرب، وإلى استقلال موريتانيا عنه. ولعلّ هذا ما دعا الكثيرين يربطون بين سياساته وسياسات المغرب. بل ووُجِّهت له، دون أدلّة، اتهامات بالتموُّل من المغرب. وفي هذه الفترة سافر أحمد بابَ إلى المغرب وقابل قياداته الوطنية، بما فيها الزعيم التاريخي لليسار المغربي، المهدي بن بركة (1920-1965). واستفاد من علاقات “حزب الوفاق”، وخصوصاً فال ولد عمير (1920-1965) ومحمد المختار ولد اباه (-1924)، اللذين وصلاه بالملك محمد الخامس في جنيف.

على أن الحزب ظلّ قوياً؛ وبقيّ شوكة في خاصرة حزب السُّلطة. وكان له حضورٌ قويٌّ في لعيون وأطار وشنقيطي. وصارت له خلايا في مالي وغينيا حيثُ وصل خطابه للجاليّة البيضانيّة هنالك. واستطاع تنظيم موارده وشراء سيارة “لاند روفر” جال بها أحمد بابَ في حملته الانتخابيّة ووصل بها حتّى كيفة. وقد صارَ للحزب لسان حال هو جريدة كان أحمد بابَ يطبعُها في دكار ويُوزِّعُها في نواكشوط. وقد اضطّر لاستخلاف الشيخ ماء العينين ولد محمد اشبيه للقيام بمهامه النواكشوطيّة في غيابِه. وفي مرحلة لاحقة سيتولّى بوياكَي ولد عابدين، الذي انتقلَ من باماكو إلى دكار، مهمة إصدار وتوزيع الجريدة. انتخابياً، أظهر الحزب قوّة في مواجهته لحزب السلطة في انتخابات أطار، التي لم ينهزم فيها إلاّ بحيلة إرفاق كنوال بأطار وإغراق العملية الانتخابيّة بالقوى التّقليدية. وهكذا انتصر عبد الله ولد عُبيد (المقتول بتاريخ 8 نفمبر بلكصر) على حزب “النّهضة”.

وفي 1959 وجّه فريق المختار ولد داداه ضربة للحزب عندما استغلّ خلافات سياسيّة داخل “النّهضة” أمر إثرها بحلِّ الحزب على خلفيّة اتهامِه بالتورط في قضيّة فساد مالي، وذلك قُبيلَ انتخابات الجمعية الوطنيّة الموريتانيّة الأولى في 1959. ورداً على هذا الإقصاء دعت أطرافٌ من “النّهضة” إلى عصيان مدني واحتجاجات في أطار. وعلى خلفيّة عمليات إطلاق نار نُسِبَت للنهضة أو اشتباكات بين أنصار النهضة وعناصر الأمن (حسب الروايات المختلفة) اعتقِل ولد أحمد مسكة وقيادات “النّهضة” (وأولّهم بوياكَي ولد عابدين) بينما كان أحمد بابَ في حملة انتخابيّة في كيفة واستيقَ إلى سيلبابي ثم إلى الحوض حيث قضى، الفترة ما بين مايو 1960 وفبراير 1961 (فترة إعلان واحتفالات الاستقلال) في السجن. وبعد إطلاق سراح قيادات “النهضة”، الذين سُجِنَ بعضهم أيضاً في تيشيت، دخل حزبُهم انتخابات سبتمبر 1961، التي أدّت إلى تمثيل بعض أعضاء الحزب في الحكومة.

***

بيد أن عدّة مشاكل بدأت تظهر لنظام دولة الاستقلال الفتية، فإضافة إلى المعارضة القويّة لحزب “النهضة” فإن مجموعة من نخب القبائل الحسانيّة استطاعت تنظيم نفسِها في “الحزب الاشتراكي للموريتانيين المسلمين” الذي طالب بـ”إعادة الحكم لأهله”، وهي النخب المعقليّة الحسّانيّة مع غيرها من التكتّلات الأميرية والرئاسيّة (غير الحسّانيّة أصلاً في باطن آدرار وتكّانت واركّيبة ولعصابة). وفي نفس الوقت، في 1959، انشقّ فصيل من نخب القبائل الشرقية عن “حزب التّجمع” وتسّمى بـ”الاتحاد الوطني الموريتاني”، محقِّقاً تحالفات مع الحراطين ومُطالباً بفيدراليّة مع مالي. وقد بدا مع مطلع 1961 أن مشروع الوحدة الوطنية الذي رامه “حزب التجمع” من خلال الحزب الواحد قد بدأ يتضّعضع. ردّ المختار ولد داداه بمرحلة جديدة من المصالحة الوطنيّة ستعرف بـ”الطاولة المستديرة”، التي كان أمينها العام هو محمد ولد الشيخ، الشبيبوي أصلاً، وإن كان خالف حركته السياسيّة في الانضمام للمختار ولد داداه.

كان هدف “الطاولة” الأساسي هو تذويب المعارضة الشابة، وإن بتقاسم السلطة معها. واقترح المختار ولد داداه حلّ الأحزاب المعارِضة واندماجَها في حزب موّحد، وذلك في دعوته لـ”مؤتمر الوحدة” في اكتوبر 1961.  وقد مثّل “النهضة” في الطاولة المستديرة كلٌّ من أحمد بابَ ولد مسكة وهيبة ولد همّدي. وبعد مفاوضات أشهر قبل أعضاء حزب النّهضة، بعد استجابة الحكومة لمطلب طرد الوزيرين الفرنسِيّيْن، حلّ أنفسِهم والإنضواء، جنباً إلى جانب مع “الاشتراكيين المسلمين” و”حزب التّجمع”، في حزب جديد سيُعرَفُ بـ”حزب الشعب”، وأصبح أحمد بابا أمينه الدّائم. وهكذا تحقّقَ مشروعٌ سلطوي بتأسيس نظام رئاسي بدل النظام البرلماني ودولة الحزب الواحد (وإن بقيّ متعدِّدَ الأقطاب). ورغم أن “الطاولة المستديرة” لم تُقصِ رسمياً التعدديّة الحزبية من موريتانيا، وإن أقصتها عملياً، إلاّ أن الاقصاء الرسمي سيحدُث في مؤتمر كيهيدي في يناير 1964، بعد إقصاء قيادات النّهضة ومنعِ بوياكّي ولد عابدين من تأسيس حزب خارج “حزب الشّعب”.


ورغم أن أحمد بابا ولد أحمد مسكة قد عُيِّنَ أميناً عاماً لحزب الشّعب إلاّ أن نواة حزب النّهضة ظلت متمايزة عن بقيّة أطر حزب الشعب. وقد بدأ أفرد “النهضة” سابقاً، وخصوصاً أحمد بابَ، بناء قاعدة سياسيّة داخل مؤسسات حزب الشعب أثارت القلق من طموحه السياسي. وسرعان ما أصدر ولد داداه مرسوماً بتعيينِه سفيراً في واشنطن وممثلاً لموريتانيا لدى الأمم المتحدة في 1964، في خطوة اعتبِرت نفياً سياسياً له. وفي نفس الوقت تابع المختار ولد داداه أعضاء حزب النّهضة واحداً واحداً فقد أُقيل بمبة ولد اليزيد، وزير المالية، في 1966؛ واستُدعيّ يحيى ولد منكوس في 1967 وأُقيل من منصبه باعتباره سفيراً في فرنسا، ومُنِعَ بوياكَي ولد عابدين، الذي كان وزير البريد والنقل والمواصلات، من تأسيس حزب. واضطّرَ لقيادة حملة ساميزدات ضدّ النظام، بعد إحراق مطبعتِه التي كان يُصدِرُ منها جريدة “صرخة الشّعب” التأجيجيّة.

ولم يكن حال أحمد بابا أفضل. بيد أنّه ربح وقتاً قليلاً. ففي الولايات المتحدّة، التي صار أول سفير لموريتانيا بها وسفيراً بالأمم المتحدة، بدأ موجة سياسيّة جديدة عندما بدأ يُدافِعُ عن الموقف الموريتاني المُطالِب بحقِّ تقرير المصير للصحراء الغربيّة، بدل الموقف اللاحق المطالب بجزء منها، والذي تبنّاه المختار ولد داداه. وبتاريخ 1966 وُجِّه استدعاء للسفير مسكة وبعيد وصوله نواكشوط التقى بولد داداه. وبعد اللقاء أودِع السِّجن بتهمة سوء التسيير. بعد شهر حكمت المحكمة ببراءتِه وأُطلِقَ سراحه. وغادر بعدها السياسة مختاراً المنفى في باريس.

ولكأنّما كان عام 1966 عاماً رمزياً رحلت فيه القوى التاريخيّة لـ”حزب النّهضة” وانقشعت. فبعد أربع سنوات سيرحل بوياكَي ولد عابدين، ولمّا تتحقّق أحلامه بعد. وسيتصالح المناضلون الأصغر حجماً مع الدولة التي اعتبروها غير منقطِعة كليّة عن إرث المستعمر، ومع الحكومة التي خاصمتهُم مؤّقتاً. وقد ظهرت حركات قوميّة، عربيّة وزنجية، بديلة سرعان ما اختصمت في 1966 قبل أن تروم التوّحد في مدٍّ يساري وطني. وفي غيابِ أحمد بابّ أُقصيّ الجيل الثاني من المقاومة الموريتانيّة وستُحملُ الشُّعلة النضاليّة المعاديّة للاستعمار من قبل حركة وطنيّة جديدة تبلورت لاحقاً في “حزب الكادحين” و”الحركة الوطنيّة الديمقراطية”، التي ستحمل على عاتِقها النضال السياسي والحقوقي والوطني على مدى العقود القادمة.

***

في باريس عادَ أحمد بابَ لمقاعد الدراسة الجامعيّة، مُتابعاً دراساته العليا. وتعاون مع مجلّة “جون أفريك” التي أسّسها بشير بن يحمد. وكان لمقالاتِه في المجلّة صدىً، خصوصاً أنّها حملت نقداً داخلياً للأمم المتحدّة وتكريسها للإرث الاستعماري. وكانت لماضيه المهني، باعتباره مندوباً أممياً، مصداقيّة لانتقاداته، كما كان شأن مقالٍ نشره في المجلة وأعادت مجلة “وار بيس ريبورت” (War/Peace Report) نشره مترجماً في ابريل 1967 بعنوان “دولٌ سيادية لكنها ليست متساويّة”. حملَ المقال على الأمم المتحدّة أنّها لا تساوي بين أعضائِها وأن إفريقيا مهمّشة فيها. وانتقدَ هيمنة الولايات المتحدة على المنظّمة. وإضافة إلى هذا فقد التحق أحمد بابا بالأجواء الثقافيّة والنضالية الفرنسية وشارك في الاحتجاجات اليساريّة ضدّ ديغول في 1968. وفي 1969 أسّس، إلى جانب سيمون ماليَيْ ، مجلّة “إفريقيا آسيا” (AfricAsia التي ستصبِحُ لاحقاً Afrique-Asie) التي تبنّت خطاً يسارياً معادياً للامبرياليّة. كان مالَييْ تحرُّرياً عالم-ثالثياً، وقد عمل رئيساً لتحرير جريدة “الجمهورية” بنيويورك، التي أيّدت النهج الناصري. وفي إطارِ هذه المجلّة حاك أحمد بابا علاقات صداقة ونضال مع قدماء المحاربين في فيتنام والجزائر ومختلف مناضلي حركات التحرّر. وقامت المجلة بتغطيّة النضالات التحرُّريّة التي لا تظهر في الإعلام الرّسمي وأجرَت مقابلات مع فيدل كاسترو وياسر عرفات وأوليفر تامبو. واتسّمت بخطٍ انتقادي للملك الحسن الثاني وموبوتو سيسوكو (الزّايير)؛ وعُرِفت بتأييدِها لـ”منظمة التّحرير الفلسطينية” وانتقدت التدّخلات الاستخباريّة الفرنسيّة في إفريقيا.

في هذه الأثناء، وفي 1970، كتب أحمد بابَ رسالة تخرجه الدكتوراه عن التاريخ الموريتاني: “الوسيط: خريطة لموريتانيا في بداية القرن العشرين” (Al Wasit: Tableau de la mauritanie au début du XXe siècle ). كان هذا المشروع في جزءٍ منه تخريج لكتاب محمد بن الأمين الشنقيطي (تـ1913)، المعروف بالوسيط في تراجم أدباء شنقيط. وكانت ترجمات هذا الكتاب والتعليقات عليه بالفرنسية التي قام بها كلٌّ من   الباحث الجزائري تفاحي ثم الحاكم الفرنسي بي بايريي (B. Beyriès) اجتزائية. فأراد أحمد باب تقديم “الوسيط” في جزء من كتابة الوجيز، ذي الـ126 صفحة. وفي الكتاب وظّف أحمد بابَ قراءة سوسيولوجيّة للدين عند بيضان صدر القرن العشرين، منبِّهاً إلى أن قارئ الأدب العربي البيضاني يصطدم بتطبيع مبدأ “الحرام” من خلال تبني تصنيفات الشعر الجاهلي. ونبّه إلى البعد التعبوي للدين، دارساً قصيدة بابَ ولد الشيخ سيديا، “حماة الدّين”. وتناول لأيضاً السيرة الذاتيّة لأحمد بن الأمين باعتباره مثالاً على حياةٍ زاويّة مرابطيّة تقليديّة.

***

ومع اندلاع حرب الصّحراء اتخّذَ مسار أحمد بابا منعرجاً جديداً. فقد دخل على الخطِّ بقوّة رافضاً مشروع المختار ولد داداه ضمّ جنوب الصّحراء الغربيّة لموريتانيا. وقد بدأت مقاومتَه لهذه السياسة أولاً في السياق الموريتاني. كان المختار ولد داداه يعبئ حزب الشّعب لتبني سياستِه الحربيّة في الصّحراء في مؤتمر وطني هو المؤتمر الرابع لحزب الشعب في 15-20 أغسطس 1975. وفي هذا المؤتمر بعثَ أحمد بابا برسالة مفتوحة للحزب حذّر فيها من الأطماع المغربيّة، مُحاجِجاً أن خطّة المغرب هي أكل موريتانيا لاحقاً. سطّر ما ترجمتُه: “ليست لموريتانيا أيّة مصلحة في تقسيم الصّحراء وتشتيت شعبِها. فليس فقط أنّه سيخفق بمأسوية في واجب التضامن تجاه أقربائها.  بل إنّه سيدعم الإلحاقيّة (annexionism) بين الجيران وستخلقُ به لنفسِها سابقة خطيرة؛ وستتعرّضُ لخطر أن تكون الضحيّة القادِمة المُختارة “. بتاريخ 14 نفمبر 1975 وقّعت موريتانيا “اتفاقيّة مدريد” مع إسبانيا والمغرب، المرعيّة أميركياً وفرنسياً، والقاضيّة بتقسيم الصّحراء بين موريتانيا والمغرب. رفضَ أحمد بابا ولد أحمد مسكة الموقف الموريتاني والمغربي. وفي آخر العام انضم إلى جبهة البوليساريو، لتأييد المطالب بدولة صحراويّة مستقِلّة.

نافح أحمد بابا عن استقلال الشعب الصحراوي وحقّه في تقرير المصير. وألّف كتابه “جبهة البوليساريو: روح شعب”( Front polisario, l’âme d’un peuple). وفي 1976 عيّنته البوليساريو ناطقاً باسمِها، فتنقّل بين الجزائر وباريس، واشتهرَ بلقاءاتِ المقاومة الصّحراويّة مع الصحافة الدّوليّة. وقد انتخَبَه المؤتمر الثالث (26-30 أغسطس 1976) للحركة في مكتبِها السياسي. وظلّ رفيقاً وملازماً للمناضل الولي المصطفى السيد (1948-1976)، بطل الوطنيّة الصحراويّة وأول رئيس للجمهورية الصحراوية. وكان لموقفه المتقدِّم في القضيّة الصحراويّة دورٌ في إثارة امتعاضاتٍ منه من قبل الجمهوريين الموريتانيين، الذين نسبوا له مقولات معاديّة للدولة والجيش الموريتاني وأقاموا بها حملة كلاميّة ضدّه.

بيْدَ أنّه على وفائه للقضيّة الصّحراويّة لم يتخلّ عن اهتماماتِه بمستقبلِه السيّاسي في موريتانيا، وهو ما بدأ يتضِّحُ بُعيد الانقلاب على المختار ولد داداه في العاشر من يوليو 1978، وأسفَر عن تململ داخل جبهة البوليساريو التي لم ينتخِبه مؤتمرُها الرّابع (25-28 سبتمبر 1978). في أواخر 1980 عادَ إلى نواكشوط لأول مرّة منذ 14 عاماً من المنفى.

***


لم تكن العودة لنواكشوط سهلة، وإن تمّت في سريّة، وعن طريق السنغال. فرغم أن أحمد بابا عادَ لموريتانيا في ظلِّ قيادة المصطفى ولد السالك، الذي كان متحمِّساً قديماً لـ”رابطة الشباب”، وقد التقى في أجواء سريّة مع أحمد بابا (الذي قيلَ لاحقاً إنّه رام رئاسة الحكومة)، إلا أن جو ما بعد الإنقلاب كان مشحوناً. فقد وصلت للحكم لجنة عسكريّة سرعان ما دخلت في صراعات فيما بينها وتخلّلَتها الولاءات الإقليمية، المغربيّة والجزائرية والليبيّة والفرنسيّة؛ وقد صار جوُّ المؤامرات والصراعات غالباً؛ لذا لم يتباطأ نظام هيدالة، الذي تمكّن بعد أشهر، من تسويقَ أنّه أتى مدعوما من قبل ليبيا للاستيلاء على السلطة، تُهمٌ اعتبّرَ أحمد بابَ أنّها في غاية السذّاجة، ذلك أنّه كان يعمل في هذه الفترة على مشروع تأسيس مكتب دراسات موريتانيّة عندما اعتقلته فجأة السلطات الأمنيّة في ديسمبر 1980 حيثُ أودِع في السجن في أكَجوجت بدون توجيه تُهمة له.  ولم يُطلَق سراحه إلاّ في مارس 1981. بُعيدَها غادر موريتانيا إلى فرنسا، ونشر في هذه الفترة كتابه “القهر الحضاري” الذي تُرجِمَ إلى الفرنسية بعنوان “رسالة إلى نُخب العالم الثالث” (Lettre ouverte aux élites du tiers monde).

1768/3- Sahara occidental – Mai 1976- Admed Baba Miské un dirigeant Front Polisario
©gerald Bloncourt

وأثناء إقامتِه في فرنسا التقى أحمد بابَ مع المقدم محمد خونة ولد هيدالة في جلسة وديّة فشجعّه الأخير على العودة لموريتانيا ومواصلة مشروعه الدّراسي فيها، معتذراً عن اعتقاله. طوى أحمد بابَ الصّفحة وأقفل عائداً إلى نواكشوط. بيْدَ أن شكوك نظام هيدالة بقيّت قائمة فيه فاعتُقِلَ مرّةً أخرى في ابريل 1984. وظلّ سجيناً حتّى اُطلِق سراحه في 16 ديسمبر في جملة إطلاق سراح المساجين السياسيين الذي قام به العقيد معاوية ولد سيد أحمد ولد الطايع، بُعيد انقلابه في 12-12.

ورغم أن ولد مسكة حمد المواقف الحياديّة لولد الطّايع في شأن الصّحراء إلاّ أنّه اعتزل العمل السياسي وحاول بعض المشاريع التجاريّة. بيد أنّه سرعان ما عادَ للواجِهة عندما اعتُقِلَ في عام 1986 تزامناً مع اعتقالات الحراك الزنجي. وفي 1995 عاد إلى فرنسا حيثُ بقيّ يعمل في “المنظمة التربوية والعلمية والثقافية التابعة للأمم المتحدة” (اليونسكو) باعتباره مديراً مكلّفاً بالدول الأقل نمواً. ظلّ يعودُ دورياً لموريتانيا، التي التقى فيها في عام 2003 بالرئيس الأسبق المختار ولد داداه قبيل وفاتِه. وكانت جلسة صداقة وأنس بعد جفاء استمر عقودًا.


يمكن القول أن أحمد بابَ تخلّى منذ خروجه من السياسة الموريتانيّة عن أي عمل شعبي قاعدي. وصارت علاقاته السياسيّة نخبوية. ولعلّه أخذ خاتمة سياسيّة مغايرة لبدايتِه السياسيّة. وبرغم ما قيل في 1986 عن عمله السري ضدّ نظام ولد الطايع إلاّ أنّه دعمه في أواخر أيامه. وسيدعم بعدها تلقائياً أي نظام وصل للسلطة. وفي 2007 عاد إلى موريتانيا حيثُ دعم الرئيس المنتخب سيدِ ولد لشيخ عبد الله وعُيِّنَ مستشاراً له. وفي 2008 انشّقَ عنه ودعم النواة السياسيّة لما سيُصبِح انقلاب السادس أغسطس 2008. قضى أيامه المتبقية في الترحل بين البادية والعاصمة. وكانت هذه فترة صفاء ذهن كتب فيها كتابه le mal africain، الذي حاول فيه شرح أسباب “تخلُّف” إفريقيا. كما عمل على كتابة مذكراته وزيارات المنتجعات البدوية وظهر من حيت لآخر في برامج استذكاريّة في الإعلام.

 أبو العباس ابرهام