هي المجموعات القبلية التي تنقسم إلى سابقة و لاحقة و تستأثر بالجاه و المال و تحوز قصب السبق في كل مدرك نعمة؛ فأما السابقة فعن طريق صفوة أولادها التي التحمت بمشروع الدولة المركزية عند النشأة و في صميم الفكرة، فأطلقت للبلد الأم Métropole عنان الانصياع و تبنى الانتماء لدول حيزها ما وراء البحار Outre-mer فكانت ضمن الرعيل المؤسس و الحكومة الأولى و نواة التحضر فتحولت سريعا من فضاء التعامل البدوي و ترحاله إلى حضن المدنية و استقرارها ليكون لأفرادها اليد الطولى و الباع الواسع في التحصيل و التمكين و الحضور الغالب بمنطقها مدنية حديثة و الالتحام بالتوجهات التعاملية الجديدة المنفتحة على العالم المتحضر و مفاهيمه و أساليبه، فجمعت بكل هذا بين "الحضورين" في مركز القرار و منطلق الحظوة بالريادة في الوجود و القيام.
استمر الحال مستتبا لهذه القبائل تخوض و تمرح، تنظر و تشرف على كل جزئيات السياسة التنموية بكل أوجهها و أبعادها حتى حل الجفاف على غير ميعاد في نهاية الستينات و ما تسبب فيه من هجرة غير مسبوقة من الريف إلى العاصمة الغير مؤهلة لذلك، و لتندلع في خضم سنوات هذا الجفاف الماحق حربُ الصحراء الضروس سنة 1975 فتزيد الأوضاع مأساوية و يأخذ يتدخل العسكر المرهق بزمام الأمور و يؤرخ لحقبة جديدة من تاريخ الكيان.
هنا يصيب الانقلاب القبائل السابقة بنكسة الوجاهة الكبرى و لكنها و إن ترنحت فستبقى واقفة بفعل السبق المعرفي و الحضور المادي و الفعلي ليستعين بها العسكر و منه أبناء القبائل الجديدة وجهاء و أطرا و ضباطا و مثقفين متدثرين بشتى الأيديولوجيات ومشاربها و فلسفاتها و خطاباتها لتبدأ صفحة جديدة لمسار الدولة و بالرغم من كل هذا في ظل إقطاعية تستجيب لعقلية لم تغب يوما من ناحية و في حل من مستلزمات الانخراط في مسار توجه العالم العام الذي وقعت على معظم بنوده و لبست من وشي تجلياته. هو الباب فتح لقبائل جدد كان حضورها باهتا و نصيبها متواضعا كفلته فقط المواثيق و التحالفات و المعاهدات القبلية المستجيبة لموازين القوة المتقلبة بتقلب حربائية الزمن المتحلل من دثار العدل الذي يفرضه الدين الحنيف.
و فيما نحتت مرحلة الاستقلال و تأسيس الدولة جزء من واقع الإقطاع المتمدن الجديد و حفر أخاديده جفاف بقدر ما هز أسس البنية الاجتماعية إلى حد خلخلة ثوابتها و التضييق على مساطرها التعاملية، بقدر ما أتاح لحواشيها و توابعها في أسفل الهرم التراتبي أن يطلقوا صرخات الانعتاق و يطالبوا في نضال مستحق بحقوقهم المهدورة و أولها كرامتهم الإنسانية.
و أما الحقيقة المؤلمة و إن كانت نتيجة حتمية لكل الاختلالات التي ما زالت قائمة بشتى تشكلاتها و تنوع و تقلب تجلياتها، فإنها تتمثل بحضور القبلية العملية في مفاصل الحياة و تشوه المسارات السياسية و التنموية فلا تنكرها عين من رمد التخلف و لا فم من سقم الواقع الذي كرس هوة سحيقة بين كل المكونات قبلية و إثنية و جهوية و طبقية لا يسلم منها وجه حتى التنقيب عن الذهب الذي فتح أمام الراغبين من الأفراد و الجماعات و في منطقة معلومة المساحة.
فمن هم "المتقدمون" في مشوار البحث عن الذهب الذين يجنون ثماره كتقدمهم في شتى المشاوير الأخرى التي أدت بهم و ما زالت توصلهم بحساباتها المرحلية و توازناتها المحسوبة على الفعل السياسي إلى الوظائف و الصفقات و مراكز النفوذ و القرار؟ إنهم بطرح حسابي ابتدائي يجيده الجميع قلة من أفراد السابقة و قلة من أفراد اللاحقة، و أما "المتأخرون" فإنهم ثلة من شرائح كل القبائل الدونية في الذيل و المتحررين دون صكوك من ربقة عموم ارستقراطية المنظومة القبلية و الاثنية المانعة عمدا و تغافلا توقيعها و المغالطة لفظا و غاية بشأنها في حديث السياسة و حراكها.