كان اختيار رسول الله محمدٍ صلى الله عليه وسلم لسفرائه وَفق معايير، وكانت هذه المعايير في غاية الدقة والعناية، وهي القاسم المشترك للمواصفات الخاصة بهؤلاء السُّفراء، والسفراء الذين اختارهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هم:
1- دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه إلى قيصرَ ملكِ الروم، واسمه هِرَقْل.
2- عبدالله بن حذافة السهمي رضي الله عنه إلى كسرى أبرَويز بن هرمز، ملك الفرس.
3- عمرو بن أمية الضَّمري رضي الله عنه إلى النجاشي ملك الحبشة.
4- حاطب بن أبي بَلتعة رضي الله عنه إلى المقوقس عظيم القبط.
5- عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى جَيْفَرٍ وعَبْد ابنَي الجُلَنْدَي الأَزْديَّيْنِ، ملِكَي عمان.
6- جَرير بن عبدالله الْبَجَلي رضي الله عنه، إلى ذي الكَلاعِ الحِمْيَري وذي عمرٍو.
7- العَلَاء بن الحَضْرَمِيِّ رضي الله عنه إلى الْمُنذِرِ بنِ سَاوَى العَبْدِي مَلِكِ البَحْرَين.
8- سليط بن عمرو رضي الله عنه إلى هوذة بن علي ملك اليمامة، وإلى ثُمامة بن أُثال، الحنفيين.
9- الحارث بن عمير الأزدي رضي الله عنه إلى عظيم بُصْرَى، وكان عاملاً على البلقاء من أرض الشام من قبل قيصر.
ومن خلال دراسة سِيَر هؤلاء السفراء نجد أنهم يشتركون في مجموعة من المواصفات يمكن أن تكون معيارًا ثابتًا لسفراء الدول:
1- الإيمان المطلَق بالقضية؛ لأن فاقد الشيء لا يُعطيه؛ لذلك فقد كان مَنْ اختِيرَ من السفراء من أصحاب السبق في الإسلام، وممن لهم مواقفُ متميزة، ومَشاهدُ لنصرة دولة الإسلام، فعلى سبيل المثال فإن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه كان ممن شهد بدرًا، وعبدالله بن حذافة السهمي رضي الله عنه ممن هاجر إلى الحبشة وقد شهد غزوة أحُد.
ولقد كان هؤلاء السفراء يعلمون يَقينًا أن هذه المهمات الموكلة لهم يمكن أن تكون نهايتها الموت، ولكنهم على استعداد للتضحية بحياتهم من أجل قضيتهم، وبالفعل فقد قدم السفير الحارث بن عمير الأزديُّ رضي الله عنه حياته من أجل هذه المهمة؛ حيث عَرضَ له شُرَحْبِيل بن عمرو الغسَّاني فأوثقه رباطًا، فضرب عنقه.
2- العلم والحكمة؛ فالسفير حين لا يَكون عالِمًا بما هو ذاهب ليدعو له، فسيكون مِعول هدمٍ لقضيته من حيثُ لا يشعر، ولقد كان السفراء المسلمون أصحابَ علم ودينٍ وحكمة، ونضرب هنا مَثلاً بالعَلاء بن الحضرمي رضي الله عنه؛ “قَدِم على المنذر بن ساوى، فقال له: يا منذرُ، إنك عظيمُ العقل في الدنيا، فلا تَصغُرنَّ عن الآخرة، إنَّ هذه المجوسية شرُّ دين ليس فيها تكرم العرب، ولا علم أهل الكتاب، ينكحون ما يُستحيا من نكاحه، ويأكلون ما يتكرَّم على أكله، ويعبدون في الدنيا نارًا تأكلهم يوم القيامة، ولستَ بعديم عقلٍ ولا رأي، فانظر هل يَنبغي لمن لا يكذب أن لا تُصدقه، ولمن لا يخون أن لا تأمنه، ولمن لا يخلف أن لا تثق به؛ فإن كان هذا هكذا، فهو هذا النبي الأمي الذي والله لا يَستطيع ذو عقل أن يقول: ليتَ ما أمر به نهى عنه، أو ما نهى عنه أمر به، أو ليت زاد في عفوِه أو نقَص من عقابه! إن كان ذلك منه على أمنية أهل العقل وفِكر أهل البصر.
فقال المنذر: قد نظرت في هذا الأمر الذي في يدي، فوجدتُه للدنيا دون الآخرة، ونظرتُ في دينكم فوجدتُه للآخرة والدنيا، فما يَمنعني من قَبول دينٍ فيه أمنية الحياة وراحة الموت، ولقد عجبتُ أمسِ ممن يَقبله وعجبتُ اليوم ممن يردُّه، وإن من إعظام مَن جاء به أن يعظم رسوله وسأنظر”[1].
ثم أسلم المنذرُ على إثر ذلك وحَسُن إسلامه.
يقول محمود شيت خطاب رحمه الله: “وقد تميز سفراء النبي صلى الله عليه وسلم بالحكمة، فلا بد أن يكون السفير مقنعًا، حسَن التصرف، متَّزنًا غير متهور، عاقلاً ذكيًّا، حاضرَ البديهة قويَّ الحجة، سليم المنطق هادئ الطبع مجرِّبًا، إلى غير تلك المزايا التي تجعل السفير حكيمًا في تصرفه، ينطق بالحكمة ويدعو إلى الحكمة”[2].
3- الشجاعة والصبر؛ فالمكلف بمثل هذه المهامِّ لا بد أن يتمتع بشجاعة فائقة، وصبرٍ عظيم، وعزمٍ لا يَلين؛ لأنه سيَسير آلاف الكيلومترات ذهابًا وإيابًا، وسيَقطع الفيافيَ ويَمشي على أرض صخرية ورملية، وسيَلتقي بالسباع والهوام، والأعداء والغادرين، وسيمر عليه الليل الطويل والنهار الشاقُّ، وربما جاع وعطش، وسيَلتقي بالملوك ذَوي القوة، والأمراء ذوي البطش، والجنود ذوي البأس، ممن يَحتاج في لقائهم إلى رباطة الجأش، فربما عُذِّب وربما سُجن؛ لذلك فمن لم يكن شجاعًا وصَبورًا فلا يمكن أن يُباشر هذه المهمة، ولقد كان جميع السفراء يَمتلكون هذه الصفات؛ لأنهم مجرِّبون، فقد خاضوا معاركَ شرسة كثيرة، ومَرُّوا بمواقفَ أثبتوا شجاعتهم وثباتهم.
4- الدهاء واللباقة وحضور البديهة، فقد عُرف عن عمرو بن العاص رضي الله عنه بأنه من دهاة العرب، إن لم يكن داهية العرب الأول، وكان عمرُو بن أمية الضَّمري رضي الله عنه لبقًا ذكيًّا، وكذا باقي السفراء؛ لأن المهمة الموكلة إليهم تحتاج إلى الدهاء وحضور البديهة.
لقد تعرَّض حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه إلى مثل هذا الموقف؛ فقد سأله المقوقس عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فيحدِّث حاطبٌ رضي الله عنه فيقول: “بعثَني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس ملك الإسكندرية، قال: فحيَّيتُه بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزلني في منزله وأقمتُ عنده، ثم بعث إليَّ وقد جمع بَطارقته، فقال: إني سأكلِّمك بكلام، وأحبُّ أن تفهمه مني، قال: قلت: هلم، قال: أخبرني عن صاحبك، أليس هو نبيًّا؟ قلت: بلى، هو رسول الله، قال: فما له حيث كان هكذا لم يَدعُ على قومه حيث أخرَجوه من بلده إلى غيرها؟ قال: فقلتُ: عيسى ابن مريم أليس تَشهد أنه رسول الله؟ فما له حيث أخَذه قومه فأرادوا أن يَغلبوه ألاَّ يكون دَعا عليهم بأن يُهلكهم الله عز وجل، حتى رفعه الله إليه في السماء الدنيا؟! قال: أنت حكيمٌ جاء مِن عند حكيم”[3].
5- المظهر اللائق وجمال الشكل؛ وهذا لمتطلَّبات هذه المهمة حصرًا؛ لأن الإسلام في الأصل لا ينظر إلى شكل الإنسان، ولكن ينظر إلى قلبه وعمله وجوهره، ولكن في بعض المهمات يحتاج الأمر إلى ذلك من باب: (حدِّثوا الناس بما يعرفون)، وهي قاعدة بليغة في السياسات الخارجية.
لقد كان الكثير من سفراء الدولة الإسلامية على درجة من الجمال والأناقة والوسامة، ومنهم دحية الكلبي رضي الله عنه، فقد كان من جماله أن جبريل عليه السلام يأتي النبيَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم بصورته؛ فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “رأيت رجلاً يوم الخندق على صورة دحيةَ بنِ خليفة الكلبي رضي الله عنه على دابة يُناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه عمامة قد أسدَلها عليه، فسألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((فإن ذلك جبريل عليه الصلاة والسلام أمرني أن أخرج إلى بني قريظة))[4].
وأما جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه فلم يكن أقلَّ جمالاً؛ فعن “جرير بن عبدالله قال: لما قدمتُ المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: ((يَدخل عليكم من هذا الباب أو من هذا الفجِّ مِن خير ذي يمَن، ألا وإنَّ على وجهه مِسحةَ مَلَك))، قال: فحمدتُ الله على ما أبلاني”[5].
وكان المسلمون يقارنون بين جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه وبين دحية الكلبي رضي الله عنه في الجمال؛ فهذا عوانة بن الحكم يُسأل: أجمل الناس جرير بن عبدالله؟ فقال: بل أجمل الناس مَن ينزل جبريلُ على صورته؛ يعني: دحية الكلبي رضي الله عنه.
6- لم يحدد رسول الله صلى الله عليه وسلم سفراءه من قبيلة واحدة أو بيتٍ واحد، بل نوَّع بينهم، وكأنه اختار من كل بطن أو من كل قبيلة واحدًا، والمثير أنه لم يكن من بين هؤلاء السفراء أحدٌ من بني هاشم، وفي ذلك دلالات سياسية جميلة بأن رئيس الدولة يُعيِّن سفراءه على أساس الكفاءة والنوعية وملائمة المهارات، وليس على أساس القَرابة والنسب.
________________________________________
[1] الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام، أبو القاسم السهيلي، ج 7 ص 515.
[2] سفراء الرسول، محمود شيت خطاب، ج2، ص 302.
[3] دلائل النبوة للبيهقي – باب ما جاء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني – باب الحاء- من اسمه حاطب – حاطب بن أبي بلتعة، واللفظ للبيهقي.
[4] المستدرك على الصحيحين للحاكم – كتاب اللباس.
[5] صحيح ابن خزيمة – كتاب الجمعة المختصر من المختصر من المسند على الشرط الذي ذكرنا – جماع أبواب الأذان والخطبة في الجمعة.