إعداد: د. سيدي محمد/ المصطفى/ بنّاصر
– تخصص: علوم التربية والقيادة
– مفتش تعليم أساسي
لا مراء في أن قطاع التربية من أهم قطاعات الدولة الحافظ لماضيها المجيد، القائم على حاضرها والضامن لمستقبلها؛ وقد شهد بذلك كل من ترقى في مراقي التقدم على مختلف الصعد، معيدا سبب تقدمه إلى المعلم أو لنقل:النظام التربوي بصفة عامة. ويشكل النظام التربوي الذي يتبناه أي المجتمع مرآة عاكسة لما سيكون عليه ذلك المجتمع في المستقبل من رقي وتقدم أو تخلف وتأخر حتى قال أحدهم ذات مرة: “أخبرْني عن نظامك التربوي أ خبرْك من أنت”.
والنظام التربوي الموريتاني – كأي نظام تربوي – يمكن أن يحدثنا عما عليه مجتمعنا وما سيكون عليه في المستقبل من خلال الرؤية الفاحصة والتحليل السليم لمكونات هذا النظام ومدخلاته وعملياته ومخرجاته والإجراءات المتبعة في تسييره. ومع أن المقام لا يتسع للغوص والبحث والتحليل لكل تلك الجوانب، إلا أن نظرة فاحصة لمسيرة نظامنا التربوي تبين لنا بوضوح ما يتسم به هذا النظام من ارتجال وعشوائية تصل حد التخبط الأعمى، ومن شعارات لا طائل من ورائها يلهث الجميع خلفها لفترات طويلة من حياة هذا المجتمع ليجدها في الأخير سرابا بقيعة عكس ما كان يبشر به أصحابها، بل طالما خلفت وراءها مشاكل مزمنة كما سنرى، فضلا عما يهدر من أموال طائلة أثناء رفعها.
وحول تلك العشوائية التي طبعت تسيير النظام التربوي (على الأقل خلال الأربعين سنة الأخيرة) والشعارات الاستهلاكية التي ترفع من وقت لآخر، سنحاول هنا الحديث بشيء من الاختصار عن نماذج من كل ذلك، مركزين على التعليم الأساسي باعتباره أهم لبنة في صرح نظامنا التربوي إذ هو الأساس، آملين أن نساهم في إنارة الجميع حول هذا الموضوع الهام. ومن أجل تيسير ذلك قمنا بتقسيم هذا المقال إلى جزءيْن:
I النظام التربوي الموريتاني وخبط العشواء :
يجدر بنا أولا أن نعرف، بشكل مختصر جدا، معنى النظام التربوي وماذا نعني بخبط عشواء؛ حيث يعرف النظام بأنه “مجموع عناصر في تفاعل دينامي منظمة حسب غرض معين”. أما التربوي فهو نسبة إلى التربية التي تعني في أشمل معانيها وأكثرها اختصارا: “عملية تنمية جميع جوانب الشخصية ( الجوانب: العقلية والجسمية والجمالية التذوقية والروحية والاجتماعية والأخلاقية والانفعالية أو الوجدانية ) المتكاملة والمتوازنة”.
أما خبط العشواء: فخبَطَ تأتي بعدة معان منها: خبَطَ الليلَ: سار فيه على غير هدى، وخبَطَ في عمياء: ركب أمراً بجهالة، والخَبْطَة: المرة من خبط؛ والعشواء مؤنث الأعشى وهي الناقة التي لا تبصر أمامها لضعف في بصرها، ومنه قول زهير بن أبي سلمى:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب*** تمته ومن تخطئ يعمًّر فيهرم
وخبَطَ خبْط عشواء: تصرف في الأمور على غير هدى؛ وهذا التصرف على غير هدى هو ما نعنيه بالضبط في مجال حديثنا عما حدث وما يزال يحدث، حتى وقت قريب، في نظامنا التربوي. ونظرا لكثرة وتعدد أوجه التخبط التي عرفها نظامنا التربوي الموريتاني في مختلف مراحله مع التركيز، في هذا المقال، على التعليم الأساسي، ولكي لا أطيل كثيرا على القارئ الكريم، فإنني سأقوم فيما يلي بسرد ثلاثة أمثلة فقط من أمثلة ذلك التخبط، على أن أذكر البقية مستقبلا -إن شاء الله – متى سنحت الفرصة واتسع المقام لذلك.
1 – ما عرف ب “إصلاح” 1979 م:
وللأمانة فإن واضعي هذا الإجراء الخاص بالنظام التربوي الموريتاني لم يسموه إصلاحا وإنما “إجراءات انتقالية” تتم مراجعتها بعد ست سنوات، غير أنها استمرت لعشرين سنة (حتى 1999). وهذا الإجراء الذي قيم به سنة 1979 يظهر بجلاء قمة التخبط الذي عرفه النظام التربوي الموريتاني. فبعد مظاهرات لطلاب التعليم الثانوي في انواكشوط بإيعاز من تيارات سياسية وقومية متصارعة بعضها يطالب بترسيم اللغة الفرنسية وبعضها الآخر يطالب بترسيم اللغة العربية، كانت الاستجابة من السلطة آنذاك بأن يدرس الذين يريدون العربية بالعربية ويدرس الذين يريدون الفرنسية بالفرنسية، وقد تم ذلك من خلال إصدار المداولة رقم 0040/79 عن اللجنة العسكرية للخلاص الوطني، ليتم تقسيم الشعب الواحد في الدولة الواحدة إلى فئتين تدْ رسان بلغتين مختلفتين وتنهلان من ثقافتين متباينتين !!
وبموجب هذا الإجراء تم التخلي عن إصلاح 1973 الذي تم تبنيه في ظروف عادية وجرى الإعداد له لفترة قبل اعتماده، وهو الإصلاح الذي كرس ازدواجية التعليم لجميع الموريتانيين ومحض السنة الأولي ابتدائية للغة العربية…إلخ. والذي كان يسير بخطى ثابتة وإن شابه بعض النواقص التي يمكن تداركها مثل: نقص التعبئة والتحسيس به في أوساط المصالح المعنية به (أنظر بهذا الخصوص الرسالة رقم: 088 بتاريخ: 24 فبراير 1975 من رئيس الجمهورية الأستاذ المختار ولد داداه إلى معالي وزير التهذيب الوطني). وهكذا ظل إجراء 1979 ساري المفعول لمدة عشرين سنة، علي ما فيه من تقسيم خطير للشعب الواحد، وهو الإجراء الناجم عن القرارات الارتجالية التخبطية التي لا تثمر سوى هذا النوع من الإجراءات الخطيرة التي تم إقرارها سنة 1979 ولكن أيضا سنة 1999 .
2 – إصلاح 1999 :
مع أن إصلاح 1999 حاول أن يتدارك الوضع السائد منذ عشرين سنة من خلال القانون رقم 012/99 الذي و حد النظام التربوي لجميع مواطني البلد الواحد، حيث ينبغي أن تكون المدرسة وسيلة لصهرهم في بوتقة واحدة لخدمة الوطن وليس العكس؛ غير أن الارتجال الذي جرى خلاله اعتماد هذا الإصلاح والتخبط الذي أعقبه أصابا النظام التربوي بصدمة كبيرة ما زال يعاني من تبعاتها السيئة حتى يومنا هذا، حيث لم يتم الإعداد لهذا الإصلاح ولا تجريبه … بل صار ضربة لازب بين عشية وضحاها.
ومع أن له حسنة توحيد النظام التربوي في عموم البلاد إلا أنه قرر تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية بعد أن كانت تدرس باللغة العربية؛ ودون الخوض في الجدل المحتدم حول مدى الجدوى من تدريس المواد العلمية باللغات الأجنبية على أنها هي لغة العلم، أو أفضلية ونجوع تدريسها باللغة الأم كما هو سائد في الدول المتقدمة، فإن المشكل الحاد الذي واجه منظومتنا التربوية هو كيفية تغطية تدريس تلك المواد من المدرسين القادرين على تدريسها باللغة الفرنسية، حيث لا يكاد يوجد من يدرسها من المدرسين المفرنسين، وهو ما أدى إلى إرباك النظام التربوي والقائمين على تسييره، فعملوا على مستوى التعليم الثانوي على تنظيم ملتقيات لتكوين أساتذة المواد العلمية المعربين ليدرسوا موادهم – التي كونوا عليها بالعربية – بالفرنسية، ومن لم يستجب أو يتمكن من التدريس بالفرنسية يتم تحويله إلى وظائف أخرى غير التدريس، بينما الذين استجابوا على مضض فقد ظل تدريسهم للمواد العلمية بالفرنسية دون المستوى نتيجة ضعف امتلاكهم لوسيلة التواصل (اللغة)، ومعروف أن العملية التعليمية – التعلمية- هي بالدرجة الأولى عملية تواصل بكل مكوناتها، وليظل النقص في مدرسي المواد العلمية حادا إلى اليوم.
أما في التعليم الأساسي، والذي يتميز بكونه المرحلة التي بدأ منها تطبيق إصلاح 1999 ، فقد عاني أكثر ولا زال يعاني. فبعد اعتماد الإصلاح بقليل بدت الحاجة ماسة لاكتتاب 1371 معلما للفرنسية، تقرر اكتتاب 400 منهم للعام 2000 م؛ غير أن مخزون الاكتتاب لم يسعف إلا ب 60 عنصرا معظمهم ضعيف في الفرنسية، فقررت اللجنة المشرفة تكملة البقية من الشعبة العربية (كما ينص عليه مقرر المسابقة) عكس الحاجة المعلن عنها !!! وليبدأ من هنا مسلسل الدفعات السريعة التي لم تحظ بتكوين إلا لمدة لا تكاد تذكر: ما بين 15 يوما إلى ثلاثة أشهر، وأطولها ما وصل إلى سنة دراسية، ليكتمل بذلك عقد الضعف المهني حيث ينضاف الضعف الأكاديمي للمكتتبين إلى الضعف البيداغوجي، وقد يظل النظام التربوي يستقبل هذا النوع من المكتتبين ضعيفي المستوى ليزداد الطين بلة، ويصبح التعليم فوضى ومسرحا يأوي إليه الباحثون عن الإعتمادات المالية لدخول الوظيفة العمومية ممن ليس لديهم قدرة ولا حتى ميْل لمهنة التدريس، ليرتبط بهم بعد ذلك مصير الأجيال الصاعدة في هذا الوطن و” ظن خيرا ولا تسأل عن الخبر”. ولا يزال هذا الوضع مستمرا بعد عشرين سنة من إصلاح 1999 ، مما يجعل هؤلاء أغلبية العاملين في مدارسنا اليوم.
ومما يؤكد استمرار هذا الوضع ما بينته دراسات صادرة في فترات مختلفة من عمر هذا الإصلاح، سنوات: 2004 – 2007 – 2010 – 2014 ، بإشراف جهات وطنية رسمية وبعضها بمشاركة أجنبية. فمثلا تلاميذ مدرستيْ تكوين المعلمين سنة 2004 (وهم مزدوجون بحسب المرسوم المسير لمدارس التكوين آنذاك) ليس من بينهم من يستطيع التدريس سوى 12 % بشرط حصولهم على تكوين إضافي مكثف في اللغة الثانية (وهو ما حاول مركز ترقية اللغات الحية CREL الإطلاع به)، بل إنه يذكر أن إحدى الدراسات السابقة توصلت إلى أن مستوى التلاميذ المعلمين أفضل عند دخولهم لمدرسة التكوين منه عند تخرجهم منها ! .
وفي مجال اكتتاب المدرسين نجد دراسة أجريت العام 2013 – 2014 تصل إلى “أن نسبة 90 % من القابلين للنجاح في مدارس تكوين المعلمين في الشعبة المزدوجة التي تسود فيها العربية (A dominante arabe) لم يحصلوا على معدل 10/20 اللازم الحصول عليه كما في مقرر (أو بلاغ) المسابقة؛ وأما الشعبة المزدوجة حيث الفرنسية هي اللغة السائدة فإن نسبة 93% من القابلين للنجاح لم يحصلوا على العتبة المطلوبة (10/20)”، ومن بين الناجحين بشكل نهائي من لم يحصلوا على معدل 07/20 ، وليست الشعبتان العربية والفرنسية بمنأى عن ذلك ولكن المقام لا يتسع لسرد المزيد من الأرقام.
ومن المؤكد أن سبب كل ذلك هو خبطة 1999 . ومن المعلوم أن الإصلاحات التربوية لا يتم تبنيها هكذا، فلابد من فترة كافية لتصورها وتجريبها من قبل المتخصصين، ورصد الموارد البشرية والمادية اللازمة لها… إذا تقرر تبنيها. هذا إذا أردنا -حقا- الإصلاح وتجنب ما سبق أن وقعنا فيه من تخبط، غير أن الواقع هو أن التخبط لم يتوقف حتى الآن ولا زلنا نشهد، حتى في السنوات الأخيرة، الكثير من القرارات التخبطية التي تزيد وتعمق مشاكل منظومتنا التربوية، ومنها المثال الثالث والأخير من الأمثلة التي اخترناها نموذجا لخبط العشواء في نظامنا التربوي.
3 – مقاربة الكفايات:
مقاربة الكفايات هي مقاربة تربوية حديثة تهدف حسب منظريها إلى أن تكون لدى المتعلم أو المتكون استعدادات كافية لمواجهة المواقف المختلفة وذلك من خلال امتلاكه الكفاية اللازمة لذلك، والكفاية عندهم هي: ” مجموعة منظمة من القدرات (الأنشطة) التي تمارس على محتويات داخل وضعيات من درجة معينة وذلك لحل مشكلات تطرحها تلك الوضعيات”.
ودون التعمق في المجال النظري لمقاربة الكفايات (لأن المقام لا يتسع لذلك)، فإننا نقول: إن مقاربة الكفايات تجد مسوغاتها من خلال المآخذ المسجلة على مقاربة المحتويات وهي المقاربة التي تعتمد على شحن الأدمغة بالمعلومات دون أن يكون المتعلم قادرا على توظيف ما تعلم في حياته اليومية؛ وهو ما أدى لظهور مقاربة أخرى هي مقاربة الأهداف التي تلح على رسم هدف لكل حصة تعليمية، إلا أنه تم رصد مآخذ عديدة على هذه المقاربة أيضا، من أبرزها أنها تعمل على تفتيت (تذرية) المعرفة التي هي في الأصل كلُّ وليست أجزاء ذرية مفرًّقة تصبح – بمفردها – لا معنى لها بالمرة…، ومن هنا جاءت مقاربة الكفايات كبديل لمقاربة المحتويات وكذا لمقاربة الأهداف أو مكمل لها على قول من يعتبر مقاربة الكفايات لا تعدو كونها الجيل الثاني من مقاربة الأهداف، وأنها جاءت للتغلب على سلبيات المقاربتين اللتين سبقتاها مع الاحتفاظ بإيجابياتهما.
غير أن مقاربة الكفايات دخلت إلى موريتانيا دون سابق إنذار، عليه من تبعات، فإن مقاربة الكفايات قد دخلت إلينا من النافذة، دون حتى مجرد تعميم رسمي من أية هيئة مخولة تعلن فيه دخولها قبل أن نباشر العمل وفقها؛ ولا أجد لذلك تفسيرا سوى الجرْي وراء أي نشاط يمكن أن يجلب التمويلات التي قد تكون،أحيانا، مكلفة لميزانية الدين الخارجي للبلد، لكن ها قد تدر تعويضات آنية للعاملين في القطاع في ذلك الحين، ولو على حساب نظام تربوي بأسره.
ولسوء الحظ فإن خبطة الكفايات (مع احترامي الكبير لمقاربة الكفايات كمقاربة تربوية لها مسوغاتها التي تبررها كما سبق أن رأينا، لكنها مثل إصلاح 1999 لم يتم الإعداد لدخولها بشكل مقبول) تزامنت مع خبطة إصلاح 1999 مما أربك عمل المدرسين، حيث كان أغلبهم يعمل وفق مقاربة المحتويات عدا المتميزين أو الأكثر اطلاعا منهم ممن كانوا يستخدمون مقاربة الأهداف والتي كانت جديدة نسبيا على مدرسينا الذين كان يعمل أغلبهم وفق مقاربة المحتويات، ليفاجأ كل أولئك المدرسين بمقاربة أخرى تفرَض عليهم دون أن يكون لديهم أي إلمام بمبادئها ناهيك عن تطبيقاتها المختلفة، بل إن أغلب المكونين المحليين الذين أسندت إليهم مهمة تكوين المدرسين على هذه المقاربة في بداية دخولها كانوا يجهلونها في الغالب الأعم، وقد صرح الكثير منهم بذلك أمام المدرسين في الملتقيات التي نظمت لنشر المقاربة المذكورة، ليجد المدرسون أنفسهم في حيرة من أمرهم أمام مقاربة لم يستوعبوها، ويطلب منهم العمل وفقها والتخلي عن طرقهم التقليدية في التدريس، مما جعل أغلبهم يتخذ موقف المتفرج على العملية التربوية التي تتخبط في مشاكلها الجمة، فحدثت لديهم شبه استقالة من العمل في خضم وضعية لم يقدروا على مسايرتها، لتصبح هذه المقاربة – على وجاهة طرحها من الناحية البيداغوجية – معضلة وعبئا ثقيلا ينوء به النظام التربوي المتضعضع أصلا.
تلك أمثلة من الإجراءات التخبطية التي عرفها نظامنا التربوي والتي مازال يعاني من تبعاتها السلبية.. تلك الإجراءات التي لا ترجع في أصلها إلى نية مبيتة لدى القائمين على النظام لإفساد المنظومة التربوية.. ولا إلى عدم المسؤولية أو الوطنية، وإنما ترجع – من وجهة نظرنا -إلى إسناد مهام القطاع لغير أهلها أي إلى غير المتخصصين الأكفاء، وهو أمر طبع تسيير القطاع في العقود الأخيرة، حيث يعين الوزير ،غالبا، من خارج القطاع (خصوصا التعليم الأساسي)، أما من يحيطون به في ديوانه وفي الإدارات المركزية فهم في الغالب الأعم أناس لم يعينوا تبعا لمعايير موضوعية، وإنما هم ثمرة التدخلات السياسية والجهوية و… في قطاع التعليم، وإن تصادف أن من بينهم صاحب كفاءة فهو لم يعين في منصبه لكفاءته وإنما لذراعه السياسية أو النقابية أو الجهوية أو غيرها من المعوقات التي تتدخل في تسيير النظام لتحيد به عن المسار الذي ينبغي أن يسلكه، بل إن بعض من عينوا في مناصب قيادية في وزارة التهذيب لم يصححوا وضعياتهم الإدارية إلا بعد تعيينهم، حيث كانوا “هاربين من الخدمة” وبقدرة قادر تقلدوا المنصب من خلال التدخلات المذكورة أعلاه..أما أصحاب الكفاءات والمتخصصون ممن ليست لديهم تلك الوسائل للوصول إلى مراكز القرار أو الذين لاتخولهم قناعاتهم الشخصية أن يسلكوا تلك المسالك المهينة لهم وللمبادئ التي آمنوا بها طوال حياتهم، فإنهم يبْقون على الهامش مغيًّبين إلى أن يتوفاهم الموت أو المرض أو التقاعد.
وهكذا لا تكون لدى معالي الوزير – في الغالب – خلفية ميدانية عن القطاع، فهو ينتظر من يزوده بمقترحات بشأن تسيير النظام التربوي دون أن تكون له إمكانية الحكم عليها بالدقة المطلوبة، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، أو متابعتها بشكل مثمر، لأنه ليس لديه خلفية عن القطاع في الغالب، ثم إن تلك المقترحات تأتيه في الغالب من دائرته المحيطة به، والتي ذكرنا المعايير التي يتم بها، عادة، تعيينهم في وظائفهم لقيادة القطاع، وبالتالي فإن فاقد الشيء لايعطيه. غير أن الوضعية التي وصل إليها نظامنا التربوي اليوم لم تعد تحتمل المزيد من التخبط والتسيب والعشوائية، فهل بعد كل ما ذكرنا آنفا، سنظل نتفرج على منظومتنا التربوية المتهالكة وهي مع ذلك المسؤولة عن تكوين أهم ثروة يمتلكها أي مجتمع ألا وهي الثروة البشرية؟ وإلى متى سنظل نسير في هذا السبيل المظلم؟ أما آن لليل نظامنا التربوي أن ينجلي؟
تلك أسئلة، من بين أخرى، ينبغي أن يكون ما ذكرنا محفزا للتفكير الجاد للبحث لها عن أجوبة مقنعة؛ وذلك قبل أن ننتقل بكم إلى الجزء الثاني من هذا المقال وهو المتعلق بالنظام التربوي الموريتاني والشعارات الجوفاء.
– يتواصل –