"أهم ما في السياسة هو فهم اللحظة التي تعيشها واقتناص الفرصة التي تتاح لك. الفرص إذا لم تقتنصها في اللحظة والمكان المناسبين، لن تعود اليك، ومن الممكن أن تقتنصك أنت، وهناك فرق بين ان تقتنص الفرصة وبين أن تقتنصك، أن تبلعك، وتقذفك على حاشية الطريق" / عبد الحكيم مفيد
ولأنه لا حوار مطلقا للشارع بحكم تعارضهما، فإنه لا يجوز أيضا أن يكون الحوار بمقصده الرفيع هدفا في حد ذاته و غاية لأي طرف إذا لم يكن السعيُ في مبتدئه و منه في الصميم من المبدئية إلى تجنب الصدام وتَعمد البعد عن منطق "البراغماتيةPragmatisme " أي العَمَلانِية التي أوصلت الولايات المتحدة الأمريكية إلى ما هي عليه من التوازن و المنعة، وسكانها الذين يتجاوز تعدادهم الثلاث مائة مليون نسمة من البيض، و السود، و الملونين من اللاتينيين، و السكان الأصليين من الهنود الحمر، و المنحدرين من أصول آسيوية، إلى الانتظام جميعهم في حزبين "الجمهوري" و "الديمقراطي" لا ثالث لهما، يهتمان بكل المصالح أيا كان موطنها و نوعها و بعدها؛ حزبان يتناوبان على المسرح السياسي الأمريكي منذ العام 1856 في شد و جذب السياسة من أجل السلطة و تسيير الأمور بكل شفافية الديمقراطية المستوية العود و الناجحة في الأداء بعيدا عن الطوباوية و الشطط؛
نعم إنها البراغماتية التي تأثرت بها من بعد وبطرق شتى كل الدول الغربية واليابان وعديد البلدان في آسيا كالصين على طريقة وزن ومكيالين Un poids Deux mesures وأمريكا اللاتينية بعد معاناة شديدة من الاحكام الدكتاتورية الأحادية المريرة حتى هدأت في جميعها الأحوال واستتبت الأمور واستقرت الأوضاع للعمل والبناء في أجواء من السلم والحرية المسؤولة والعدالة الشاملة ونفاذ سيادة القانون. وليست البراغماتية إلا مذهبا فلسفيا سياسيا يعتبرُ نجاح العمل المعيارَ الوحيد للحقيقة رابطا بين التطبيق والنظرية.
وأما المطلوب من العمل المرحلي في بلد يشظى على نار خلافات بيزنطية تنتمي في نهجها ومحتواها ومراميها إلى زمن تجاوزه الآخرون منذ أمد ومنهم أهل الجوار وقد طووا صفحاته الصفراء باستثناء من لم تُفلتهم براثن الماضي البغيض ولم يؤمنوا بعلمية الفكر المستنير والتجارب السياسية الرصينة التي أسفرت عن بلدان متوازنة ومستقرة، وتقاطع وتكامل هذه التجارب لصالح رسوخ الديمقراطية وإمكانية تجاوز عقد الدونية والاستعلائية التي تقيد الحراك وتوسع الهوة بين أقطاب الساحة المذبذبة.
فهل يبرهن سياسيو البلد من المخضرمين والمنظرين والمتمرسين والمعارضين عن وعي والمصطفين عن قناعة والحائرين من تأمل وتحر على مدى عقود والهواة المتطفلين والحشريين أنهم قادرون في هذه المرحلة الدقيقة التي تفتح القراءات السياسية على مضامين وعناوين ترسم ملامح حقبة جديدة يغير فيها السجال السياسي توجهاته ومنهجياته ووسائله، على التحول ولو مرحليا إلى التكيف مع هذا المنعرج لتصحيح بعض الاختلالات الأكثر تعقيدا خلال المرحلة وإنقاذ الموقف المتدهور من جراء سجال النقيضين وحوار الطرشان؟
وإذ كل المؤشرات لا تبدوا مبشرة بناء على ما يتكشف تباعا من ملامح التشنج وعمق تعارض الرؤى واتساع الهوة، بإمكانية حصول ذلك.
ويدعم هذا المد التشاؤمي الذي يزيد احتراقه ما يفتقده الخطاب السياسي في مجمله من مرونة وأهله من لين جانب وسوء تقدير الرأي الآخر، لكن وعلى الرغم من كل ذلك فإن السياسة التي تعني في أدق تعريف لها "فن الممكن" قادرة على أن تفرز على حين غرة من يُغير بتوجه مبتكر وفي لمح البصر كل تعقيداتها ويضع مسارا جديدا منقى من الأشواك وممهدا للانطلاق يرى فيه الجميع ذاته ويلمح مكمن دور له طالما أراد الاضطلاع به. ولا يستبعد أن يكون الذي تعده الأقدار لهذا المنعطف الذي يحمل تباشير الخروج من عنق الزجاجة من اللاعبين من أهل المرحلة لأن المسألة تكمن في الإرادة التي هي سر النجاح في حين أن النجاح هو غاية الوجود.