نحن لسنا فرنسا ولا اليابان ولا الولايات المتحدة الأمريكية لننظر إلى "التربية الإسلامية" من زاوية أنها جزء من التعليم الديني، الذي ينبغي أن نتعامل معه بهذه الطريقة أو تلك.. علينا أن ننظر إلى هذه المسألة ضمن خصوصيتنا الحضارية والتاريخية، وأن نَطرح السؤال على أنفسنا قبل أن يطرحه علينا غيرُنا: أين نحن من هذه التربية؟ وما الذي ننتظر من تدريسها؟ وماذا تنتظر "هي" مِنّا لكي تقوم بالدور الذي عليها أن تقوم به؟
التربية الإسلامية هي جزء من التعليم العام في بلادنا، ما الهدف من تدريسها؟ هل هو التثقيف أم الممارسة؟ هل الغاية من تعليمها أن يعرف التلاميذُ أحكام الصلاة والصوم والميراث والصحّة النفسية والعقلية والتعامل مع الآخر... إلخ؟ أم ممارسة ذلك في حياتهم اليومية؟ وما الذي يحدث في الواقع؟ ومَن المسؤول عن عدم الالتزام بقواعد الإسلام التي يتمّ تعليمُها في المدرسة؟ هل المدرسة أم الأسرة أم المجتمع أم الدولة بمؤسساتها وهيئاتها المختلة؟ وكيف ينبغي علينا أن نجد حلا لهذه الإشكالات آخذين بعين الاعتبار التحوّلات التي يعرفها مجتمعنا والعالم مِن حولنا وكل تلك التداعيات التي أصبحت تتركها وسائل الاتصال والإنترنت على واقع وقيم مجتمعنا؟
يبدو أنه علينا عدم اختزال مثل هذه المسائل المتشعِّبة في قضية واحدة هي تدريس التربية الإسلامية، علينا أن نفتح النقاش واسعا عن كل المسائل المتعلقة بدور الإسلام في المجتمع وعلاقته بالدولة في ظل التطورات الحاصلة على الصعيدين المحلي والدولي وبخاصة منذ هجمات سبتمبر 2001 على الولايات المتحدة الأمريكية وموجة التصعيد والتشويه تجاه الإسلام والمسلمين في إطار ما عُرف بالحرب على الإرهاب، وما أفرزته العولمة من تطوّر على مستوى تكنولوجيات وسائل الإعلام والاتصال..
على الصعيد الدولي، علينا أن نتذكر في هذا السياق أن هناك المئات من التقارير، منها ما نُشر ومنها ما لم يُنشَر، التي باتت تتحدث عن كون التعليم في العالم الإسلامي ينبغي أن يتغيّر لأنه من أسباب الإرهاب! علينا أن نعرف أنه لم تسلم أيّ تجربة في أي بلد مسلم من هذا.. اتهمتْ "الوهابية" بأنها "تُمثل أحد المكوّنات الأساسية للإرهاب".. واُتهم الأزهر الشريف بأنه يقوم بتحفيظ القرآن "الذي يحمل عبارات صريحة تدعو إلى حمل السلاح والقتال والخروج إلى أراضي اليهود والمسيحيين؛ من أجل تخليص العالم من شرورهم" (انظر الوثيقة التي نشرها مصطفى بكري في كتابه: الفوضى الخلاقة أم المدمرة؟).
كما اتهمت الحوزات العلمية في إيران بأنها مصدر الإرهاب "الشيعي" الذي لا يتوقف عن رفع شعار "الموت لأمريكا"... وكان بعض المتطرفين العلمانيين في بلادنا قد اتهم المدرسة الأساسية بأنها هي من أنشأت الإرهاب إبان العشرية السوداء.. أي أن كل تجارب المسلمين لم تَسلم مهما كانت المدارس والاتجاهات التي انتمت إليها، واُعتبر أن ما قدّمته أو تقدِّمه من تعليم ديني "يُشكل خطرا على الحضارة"... ومنه بات هذا التعليم محلّ شبهة حتى وإن اقتصر على العبادات.
أما على الصعيد المحلي، فإن علاقة التربية الإسلامية بالممارسة تثير أكثر من تساؤل: هل نعرف تطابقا بين التعليم والسلوك؟ وإلى أيّ مدى يؤثر التعليم الذي نُقدّمه في المدرسة على سلوك أبنائنا؟ وما مدى قدرة هذا التعليم على الصمود أمام الممارسات المجتمعية التي هي في الغالب مناوئة لما يدعو إليه؟
لعلّ هذه هي أهم الأسئلة التي ينبغي أن تُطرح بغض النظر عن مَن يكون على رأس وزارة التربية، ذلك أن الموضوع يتعلَّق برؤيتنا المستقبلية لتربية أبنائنا، وضمن هذه التربية للقيم الإسلامية التي ينبغي أن نغرسها فيهم؛ هل يمكن للتربية الإسلامية أن تصنع المجتمع المتوازن إذا كانت ضمن إطار عام للتربية غير ملائم؟
ما الفائدة من ساعات أكبر للتربية الإسلامية ومعامل أعلى إذا كانت التربية في مجملها غير مُحدّدة الدور في المجتمع، والأهداف منها غير واضحة، ولا تَعرف أي نوع من الرجال والنساء تريد أن تَصنَع في المستقبل؟
بمعنى آخر، علينا إذا أردنا مناقشة موضوع التربية الإسلامية في بلادنا ألا نفصله عن مناقشة موضوع التربية بشكل عام في علاقته بالمجتمع المحلي والدولي.
إننا لا يمكن أن نغيِّر سلوك تلميذ بمجرد تحفيظه مجموعة من الدروس والمقررات، وإن حصل فيها على العلامة الكاملة. العلامة الكاملة في التربية الإسلامية لا تصنع التلميذ المتحلِّي بأخلاق وآداب الإسلام والمُحافِظ على أركانه؛ لذا علينا أن ننظر إلى هذه المسألة ضمن إطار أشمل من مادة تُدرَّس في مقرَّر وتجري حولها بعض التعديلات من المناوئين أو المؤيدين.
لقد كان التعليم في بداية الاستقلال أكثر توازنا لأن المجتمع كان كذلك والمحيط الخارجي لم يكن مناوئا لذلك. الكتاتيب القرآنية تلعب دورها، والأسرة تقوم بواجبها، وليس هناك تكنولوجيا جديدة لوسائل الإعلام والاتِّصال من إنترنت و"فيسبوك" وهواتف ذكية تشوش على الكل، ولا كانت هناك استراتيجية عالمية لمكافحة الإرهاب، ولا كان هناك ربط بين الإسلام والإرهاب... أما اليوم فإن كل هذه المعطيات ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار إذا ما أردنا تكوينا متوازنا لأبنائنا.
والبداية ينبغي أن تكون من المجتمع بمختلف مكوِّناته، ومِن السياسات العامة الموجَّهة نحوه؛ إذ لا يمكن أن تستقيم التربية الإسلامية ومخرجات المجتمع مناقضة تماما لها ولو ضاعفنا من ساعات تدريسها أو من معاملها في الامتحانات، ذلك أن القيم التي تسود أيَّ مجتمع إنما هي نتاج سياساته المختلفة بما في ذلك سياسة التربية كقطاع عام.
لا يمكن أن تكون القدوة في المجتمع جاهلة ونفلح في إقناع المتعلم أن العلم هو أساس النجاح، كما لا يمكن أن يكون تزييفُ الواقع هو السائد ونفلح في إقناعه أنه عليه أن يتحلى بالصدق والأمانة والإخلاص، ولا يمكن أن تكون الوسائل غير المشروعة في الكسب هي السائدة وتفلح التربية الإسلامية في تلقين الطفل أنَّ العمل هو أساس الثروة ومفتاح النجاح، وقس على ذلك باقي القيم الثقافية والعملية والعالمية التي تتحرك ضمنها أجيالُ اليوم، كلها تكاد تناوئ ما يسعى جزء من التربية إلى القيام به لتصحيحها وصدّها نُسميه التربية الإسلامية...
إذن، إننا بحاجة إلى النظر في هذه المسألة ضمن دائرتها الأشمل، وعلينا أن نضع المسؤولين عن هذه المسألة ضمن هذه الدائرة الأكبر.. عندها ستبدو لنا حقيقة التربية الإسلامية "المظلومة"، وحقيقة الدور الذي يلعبه كلّ منا في رفع هذا الظلم عنها، وقبل ذلك حقيقة القائمين عليها.. هل هو مجتمع أم هي وزارة أم دولة تقود مجتمعا أم عولمة أعلى من الدولة بما فيها من قوى كبرى وتكنولوجيا تريد أن تبسط نفسها على الجميع؟ ذلك ما ينبغي أن نعلم قبل أي حديث.
عن صحيفة الشروق الجزائرية