لايكاد يمر شهر إلا و فيه ذكرى أليمة أو أكثر، من واجب القوميين احياءها لتذكير شعبهم و ابنائهم بحيثياتها حتى يستخلصوا منها الدروس والعبر ، عسانا نهتدي لطريق المستقبل العربي المشرق فنحطم قيود الاستبداد و الاستغلال و نكسر حواجز سايكس بيكو الاستعمارية ونسقط حرسها وخدمها الإقليميين.
غير أن الأمة العربية قد عاشت في تاريخها الحديث نكبة من أكبر النكبات التي عرفتها الأمم باقتطاع أرض فلسطين و تقتيل و تشريد شعبها وتسليمها للعصابات الصهيونية الغازية حتى تقيم عليها دولتها العنصرية رأس حربة للمشروع الصهيوني الهادف للسيطرة على الأمة بأسرها. في الخامس من جوان حزيران 1967 ، نكبت الأمة العربية ثانية، في نكبة لا تقل عن الأولى وهي مرتبطة بها أيما ارتباط، عندما تمكنت دولة العصابات الصهيونية مدعومة بأعتى القوى الامبريالية العالمية و بتواطؤ رجعي غير خاف، من سحق جيش جمال عبد الناصر وضرب مشروعه العظيم لبناء دولة العرب الواحدة الديمقراطية الاشتراكية بما يعنيه من استرجاع فلسطين من النهر إلى البحر. إن الأمة العربية.
اليوم، بعد مرور 46 عاما على رحيل عبد الناصر، لاتزال تعاني تبعات نكبتها في فلسطين و إقامة دولة الكيان الصهيوني عليها و نكستها العسكرية في حرب 1967 و هزيمتها السياسية بعد حرب 1973 بزيارة السادات للقدس المحتلة وإبرامه معاهدة كامب دافيد الخيانية و هي لا تزال تتخبط في أزمة سياسية- اقتصادية- اجتماعية خانقة في ظل نظام إقليمي مهترئ وهجمات صهيونية واستعمارية متواصلة... حتى جاء 17 ديسمبر 2010، عندما انفجر الشارع العربي. قضية فلسطين وما سمي بالربيع العربي
إن هبة الشعب العربي في سيدي بوزيد يوم 2010.12.17 كانت الشرارة الأولى لانطلاق ثورة شعبية عارمة مازالت موضوعيا مستمرة لم تستكمل أهدافها بعد أو كانت القطرة التي أفاضت الكأس فانتشر لهيبها إلى باقي مناطق القطر معلنة أن الشعب لم يعد له ما يخسر بعد سقوط الشهداء. استمر الوضع إلي يوم 2011.01.14 ، ذلك اليوم شكل حدثا مفصليا بأتم معنى الكلمة، بغض النظر عن حيثيات ما جرى في الكواليس. فهي المرة الأولى في التاريخ العربي المعاصر، التي ينجح فيها الشعب في إسقاط حاكمه باحتجاج جماهيري كاسح بعد أن تحدى الآلة الأمنية و حتى العسكرية... فقد سقط النظام البوليسي و سقطت منظومة الاستبداد إلى الأبد و لن يقدر أي نظام لاحق أن يعيدها. إنها الحرية... أول المكاسب... حرية الرأي، حرية الإعلام حرية التنظم... ملاحقة المجرمين والفاسدين...القطع مع منظومة الحكم مدى الحياة و المناشدة و التوريث...
نفس الأحداث شهدتها أقطارعربية أخرى مما كان يبشر فعلا بعصر جديد و مستقبل مشرق للشعب العربي كافة بعد إسقاط نظم الاستبداد... غير أن تلك الانتفاضات لم تتجاوز حدودها الإقليمية ولم تتجاوز عفويتها في غياب قوة سياسية ثورية منظمة يمكن أن تقود حركتها وتنير لها الطريق فتكون ثورة عميقة جذرية منتصرة تحقق ما عجزت عنه كل الأجيال السابقة. إن عدم الاستقرار والتطورات الدراماتيكية في تلك الأقطار قد قلص إلى حد ما اهتمام الرأي العام العربي بالقضية الفلسطينية وان كان لفترات قصيرة، فقد جاء العدوان الصهيوني الثاني على غزة ليعيد الأمور إلى نصابها، بل و الأهم أن يكشف تورط الحكام الجدد وارتباطهم بالمشروع الاستعماري الصهيوني القديم الجديد... فهل تستمر تلك الانتفاضات في الاتجاه الثوري الصحيح فتستحق صفة الثورة ؟ أم تتحول إلى مسرحية سخيفة بعد سطو التحالف الامبريالي الصهيوني الرجعي عليها ؟
إن المشهد السياسي في الساحة الفلسطينية لا يشذ كثيرا عما نشهده في غيرها من الساحات وما التجاذب الحاد الذي تشهده فصائل المقاومة إلا مقدمات لسيناريو لازال يطبخ في الخفاء، إلى أن جاءت الإحداث في سوريا لتضع الجميع أمام محك قاس.
التيار القومي والطريق الصعب لتحرير فلسطين ومحو آثار النكبة والنكسة أو الوديعة الناصرية.
إن الحديث عن النكبة الأولى أو عن النكبة الثانية لا يمكن أن تكون له أي فائدة إذا لم يكن مقدمة لاكتشاف الحلول لمحو آثارها و التقدم بالمشروع النهضوي العربي- نقيض المشروع الصهيوني. لأجل ذلك ارتبطت قضية تحرير فلسطين، في الفكر القومي العربي، بقضية الوحدة العربية، وارتبطت قضية الوحدة العربية بقضية بناء أداتها، فكان الهدف المرحلي للتيار الناصري منذ ستينات القرن الماضي هو بناء تلك الأداة. إن قضية فلسطين هي قضية قومية بامتياز أو هي أم القضايا القومية وان كان رواد الفكر القومي الأوائل و أجيال المقاومين في فلسطين وحول فلسطين قد نبهوا منذ زمن طويل إلى أن التحرير لن يكون إلا بالأداة القومية، فقد سارت الأمور بإفراز حركات مقاومة مشتتة إقليمية المنشأ إقليمية التنظيم إقليمية البرامج، وقد عجل تداعي الأوضاع بعد رحيل عبد الناصر، وانخرام التوازنات داخلها، إلى السقوط المدوي في أوسلو بعد كامب دافيد... حتى وصلت القضية إلى ما نعيشه اليوم.
إن منظمة التحرير الفلسطينية قد هزمتها الإقليمية بداخلها قبل أن تهزمها الأنظمة الإقليمية المحيطة بها... فلم يبق إلا الشعب المقاوم و فصائل المقاومين المتمردة على المنظمة والتي ، إن كان لها الفضل في مواصلة الاشتباك مع العدو لحرمانه من الاستقرار على الأرض المغتصبة، فانه من التعسف مطالبتها بتحرير فلسطين. فنعود ونقول أين التيار القومي، طليعة الأمة، من معركة التحرير. إن هذا التيار لن يكون له شأن ما لم يتوكل على الله و يعتمد على نفسه فيتحول إلى قوة جماهيرية عابرة لحدود سايكس بيكو الاستعمارية، مبشرا بفكر مستنير، يستجيب بالكامل لاستحقاقات المرحلة في كل الأقطار، لاسيما حيث سقطت نظم الاستبداد، ملتحما بالجماهير العربية المنتفضة، فيحمي انتفاضات شعبه على الاستبداد من الانتكاس و يحمي المقاومة في فلسطين و العراق و غيرها من الانكسار، متجاوزا حالة التشتت الأزلي الذي يعيشه. عندها فقط يستحق صفة ''الطليعة العربية''، الأداة العلمية القادرة على تحرير كل أجزاء الأمة العربية و بناء دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية. فكيف نبدأ؟
فكيف يقدر فعلا أبناء التيار القومي على تحمل هذه المسؤولية ؟
كيف نبدأ ؟
لا شك أن أبناء التيار القومي التقدمي يشكلون اليوم العمود الفقري، ان صح التعبير، لقوة سياسية محترمة صاعدة، ذات مشروع فكري سياسي مختلف جذريا عن غيرها من الاحزاب المتصارعة يمينها و يسارها، تجمع بين ارتباطها الوثيق بهويتها العربية الاسلامية وبمصالح المفقرين و المعطلين عن العمل وبرفضها لاقتصاد السوق الرأسمالي و الاهم بوعيها و ادراكها لشمولية الواقع الموضوعي لشعبها و اعتبار ثورة الشعب اعلان افلاس مرحلة الدولة الاقليمية وأن لا حل للازمة الاقتصادية و الاجتماعية إلا باختيار نهج الوحدة العربية و التكامل الاقتصادي العربي وإرساء اقتصاد الاشتراكية العربية والعدالة الاجتماعية بعد سقوط نظام الاستبداد والفساد والاستغلال والتبعية. فهل تنجح هذه القوة الصاعدة في ايصال أفكارها و رؤاها لشعبها فتكسب ثقته في أي انتخابات قادمة وما بعد الانتخابات القادمة ؟
إن التيار القومي ، إن أراد أن يكتسب امتدادا جماهيريا و شعبيا حاسما مطالب اليوم قبل الغد بتطوير أدائه و أدواته لتبليغ أفكاره وآرائه لأوسع قاعدة جماهيرية ولن يتسنى له ذلك إلا بتبسيط المضامين الفكرية التي يدعو اليها وبتنزيلها في الواقع الثقافي و الاقتصادي و السياسي للمجتمع وهو ما يتطلب مجهودا استثنائيا عبر النشاط في المنظمات والجمعيات بمختلف تخصصاتها للتعريف بهذا الفكر وكسب ثقة المواطن بمشاركته همومه و مشاغله واهتماماته و العمل على مد يد العون له كما أن الحضور الدائم في منابر الحوار المرئية و المسموعة و المكتوبة لا شك يساهم في الارتقاء بالخطاب السياسي و تطوير الوعي العام، ثم هو مطالب بالإسهام الفعال في بلورة كل المشاريع المستقبلية، من اصلاح التعليم و المنظومة التربوية الى تصور الحلول الاقتصادية و التصدي للمخاطر الخارجية و الداخلية التي تتهدد المسار الثوري و الأمة العربية جمعاء.
لأسباب موضوعية لن ندعي أن إقامة حوار آني ، على عجل، كفيل بتوحيد القوميين في حزب قومي قادر على تحقيق الأهداف الإستراتيجية المعروفة. إلا أنه من الممكن جدا توحيد النشاط السياسي لكل القوميين في مواجهة الاستحقاقات الآنية دون إبطاء في إطار تنسيقي مركزي وفق أرضية فكرية سياسية مشتركة ومتميزة، تعبر فعلا عن روح المشروع القومي و تعكس عراقته.
سوف يكون ذلك حقيقة إذا توفرت أيضا الأطر التنسيقية الجهوية والمحلية وتحدد جدول زمني يتماشى والاستحقاق المنتظر ولن نكون عندها في حاجة للتبعية لقوى يسارية أو يمينية معادية للمشروع القومي... وأول الغيث قطر... كما يقولون.
د.الناصر المدوري.