تنويه ((يصعب على هذا القلم بالذات أن ينعى الأستاذ محمد يحظيه ولد ابريد الليل، أبرز قادة العمل السياسي الوطني والقومي، الثائر المناضل الصلب، السياسي المتمرس، صاحب المعرفة الموسوعية في التاريخ، والسياسة، والاجتماع، والاستراتيجية. رجل المواقف الصعبة، وصوت العقل، والاتزان داخل المشهد الوطني، وما يسطر هنا ليس نعيا - وإن كان مستحقا – بقدر ما هو وداع لازم، ودين واجب الأداء))
ورحل الأستاذ في عز المرض
في الثالث من يناير الماضي تعرضت والأستاذ الراحل محمد يحظيه ولد ابريد الليل لمرض توقعناه عارضا، وأخذنا العلاجات الموصوفة من الأطباء، وظلت الأمور تتدهور لغاية الحادي عشر من يناير، تم تشخيص المرض أنه حمى ضنك، واستخدمنا العلاجات الخاصة بالمرض.
في الثالث عشر من يناير أسلم الأستاذ الروح لبارئها، وكنت في عز المرض، الابن أحمد ولد الشين كان مع أصدقاء الأستاذ وأفراد عائلته في المستشفى العسكري، حيث طلب منه الصديق داود ولد احمد عيشه الذهاب إلي، لإبلاغي قبل أن أعرف الخبر من وسائل الإعلام، أو من الآخرين.
خاطبني أحمد، طالبا مني الدعاء بالرحمة للأستاذ محمد يحظيه، فكان الخبر ثقيلا، والوصف المناسب لما شعرت به هو أن رمحا طويلا يخترق الأحشاء ويمزقها، لينتهي الموقف بدوار شديد، منعني من الوقوف، وأسلمني لغيبوبة، وموجة جديدة من المرض، شخصت لاحقا بعد عدة تحاليل أنها كوفيد 19 وقد تماثلت للشفاء دون العلم بها.
لا يوجد مرض أصعب من فقدان الأستاذ، ولا يوجد فقد أو غياب أكبر من غياب الأستاذ، إن المكان الذي كان يشغله في حياتي وفي حياتنا كرجال سياسة وهم عام، لايمكن شغله، ولا يمكن تعويضه، إنه غياب بحجم نكبة، وإن كان للمرض من جميل فهو منعي من مرافقة الأستاذ في رحلة لا يعود منها أبدا.. لقد تعودت على مرافقته أكثر من 50 سنة، ولن يكون من السهل توديعه في رحلة لا عودة منها مطلقا.. لقد كنت أمني النفس بالرحيل قبله، لكنه قضاء الله وبه سلمت.
بداية العلاقة بالأستاذ
في العام 1969م وبعد عام واحد من تأسيس حزب البعث في موريتانيا، تعرفت على الأستاذ، وكانت علاقتي في بداية الأمر بشقيقه المرحوم حمادي ولد ابريد الليل في انواذيبو، وهي العلاقة التي استمرت حبا وأخوة حتى رحيل حمادي في العام 2018.
في ذلك العام أشعرنا الأستاذ بخطواتهم في تأسيس حزب البعث، والتحقت بالحزب عن طريق الأستاذ مباشرة، ومنذ تلك اللحظة بدأت العلاقة مع الأستاذ، والتي طبعها الصدق، فطوال هذا العمر الممتد، والعامر بالأحداث، والمشحون بالعمل النضالي، والسياسي - وطنيا وقوميا - لم أسجل على الأستاذ قولا غير دقيق، أو موقفا لا تحكمه المصلحة العامة، وتحدد أبعاده، لقد كان الهم الوطني والقومي بوصلته التي لا يحيد عنها.
الأستاذ وموريتانيا
كان الأستاذ الراحل مسكونا بحب موريتانيا والتعلق بها.. مسكونا بصحرائها، وبجبالها، ووديانها، وسهولها، وعارفا بتفاصيل مجتمعها، وحياة رحلها، وتاريخ التحضر والتقري في مدنها، ومختلف مناطقها.
وعلى مر مساره النضالي كان، رحمه الله، مشغولا بمستقبل الكيان الموريتاني، ومآلات استمراره، وتكامل التعايش بين مختلف أهله، وبذل في سبيل ذلك ما بذل من تضحيات ونضال، حيث سجن وحوكم 12 مرة، وفرضت عليه الإقامة الجبرية مرة واحدة في اكجوجت عام 1971، ورغم كل هذا لم يتخلف يوما، ولم يقصر في لعب دوره الوطني كلمة، ورأيا، وعملا سياسيا أصيلا.
البادية والقراءة... من عادات الأستاذ الثابتة
مع أن الأستاذ من أوائل الموريتانيين الذين درسوا في الخارج، وفي أرقى الجامعات الفرنسية، ومع أنه من مواليد أكجوجت والتي كانت يومها من كبريات مدن البلاد، فإن علاقته بالبادية لم تنقطع، وظل هذا الرجل رغم أناقته وتحضره حين يكون في المدينة، هو نفسه البدوي الذي يسامر الرعاة، ويسأل عن المراعي، وعن مراتع الكلأ، ومظان المطر..
هو نفسه البدوي الذي ينام تحت القمر، ويعرف كيف يهتدي بالنجوم، ويعرف المواضع بالنبات، وبنوع ولون التربة .. هو نفسه البدوي العارف بالصحراء حضارة، وتاريخا، ومجتمعا، ورموزا، وأعلاما.
والأمر ليس غريبا على تكوين الرجل في بيت والده باب ولد ابريد الليل، والذي كان يرفض لأبنائه قضاء العطل المدرسية في المدن، ويرسلهم إلى البوادي، وقد جسد ذلك بُعدا آخر في تكوين الأستاذ، حيث كان والده رحمه الله رجلا عربيا أصيلا، يقدر عادات المجتمع، ويحترم الأخلاق العربية الأصيلة، وعليها ربى أولاده بشكل صارم.
عادة أخرى ثابتة للأستاذ وهي القراءة، والتي لم تنقطع منذ بدايات شبابه، وظلت لازمة في حياته حتى توفاه الله، ولم يمنعه عنها السجن، ولا العمل الحكومي، ولا السياسي، وظل يخصص ساعتين من يومه للقراءة في مكتب خاص به، ليس متاحا مكانه للجميع، وليس معروفا حتى لأقرب مقربيه.
علاقة الأستاذ برفاقه وأصدقائه
قبل فترة قصيرة اتصلت بالأستاذ وأخبرته بوفاة أحد الرفاق من القيادة القومية، وهو الراحل زيد حيدر، انتابت الأستاذ موجة حزن وتأسف، وبادر بالسؤال عن أخباره منذ فترة، وأين كان طوال الفترة الماضية؟ وكيف كانت حياته؟ وأبدى الكثير من الحسرة على رحيله، والأمر ليس مستغربا لدى من يعرف الأستاذ، ويعرف طبيعة العلاقة القائمة بينه وبين أصدقائه ورفاقه. علاقةُ الأستاذ بالجميع طيبة، يحكمها التقدير والاحترام، لكن حين يتمسك الأستاذ بشخص فإن الفكاك من هذه الصداقة مستحيل.
يذكر رفاق الأستاذ أنه عند دخولهم مهه السجن في العام 1987 وجدوا أمامهم قيادات "افلام" فوقف الراحل "جيكو تفسيرو"، رحمه الله، معانقا الأستاذ محمد يحظيه وقائلا: إن كان من أطر الدولة الموريتانية من له جميل علينا أو يستحق التقدير لوطنيته، فهو هذا الرجل (يقصد الأستاذ)،
إن هذا الكلام ليس مجاملة وليس ترحيبا خاصا، بل هو شهادة وتزكية لطريقة الأستاذ في بناء علاقاته، ورسم حدودها مع الجميع، أصدقاء، ورفاقا، وخصوما، أو مخالفين سياسيين.
ثقة الأستاذ في النخب الموريتانية
في مساره السياسي ظل الثابت لدى الأستاذ هو أن الموريتاني حين يتحتم عليه العمل الوطني، ويفرض عليه الواجب أداء دوره، يؤديه على أحسن وجه، ولم يقبل يوما لمظاهر عدم الانضباط السائدة، والانشغال في الهم اليومي أن تغير هذه النظرة القائمة لديه، ويذكر في هذا السياق أنه في أيام دراسته الثانوية في روصو تشكلت منظمة طلابية سرية رافضة للسياسات الاستعمارية الفرنسية، وعلمت بهم الإدارة، وحصلت على أسمائهم جميعا، واستدعتهم، وكان يرأس المنظمة الدبلوماسي الدولي الأخ والصديق أحمدو ولد عبد الله، والذي خاطب المدير قائلا: "هؤلاء لا علاقة لهم بالأمر، وأنا من يرأس المنظمة ومن يتحمل كامل المسؤولية، ويجب إطلاق جميع الطلبة والتعامل معي بوصفي مسؤولا عن تصرف الجميع" لقد كان موقف الأستاذ أحمدو ولد عبد الله هنا مثار إعجاب الأستاذ طوال حياته، وكان يستشهد به في أن الموريتاني قادر دائما على أداء واجبه، وتحمل دوره التاريخي مهما كانت طبيعة الظروف المحيطة به.
الأستاذ.. المشروع المستمر
في سنوات عمره الأخيرة كان شغل الأستاذ الشاغل وسؤاله اليومي هو كيف يتعايش الموريتانيون؟، وأية آلية يمكن أن تضمن استمرار الكيان الموريتاني؟ واستمرار التعايش الاختياري بين مكوناته وإثنياته؟ وقدم في ذلك جهدا فكريا كبيرا ـــ وهو موجود – وبالنسبة لنا فإنه أمانة ورسالة، وسيكون من المناسب للنخب الموريتانية الدخول في نقاش جدي، وتقديم حلول حقيقية لمشكل التعايش، وآليات استمرار الكيان الموريتاني، وسيكون التصور الذي قدم الأستاذ والذي يعبر عنه وعن جماعته السياسية جاهزا، ويعرض ضمن الأجوبة والحلول التي على النخب الموريتانية تقديمها.
رحم الله الأستاذ محمد يحظيه، القائد الرمز الذي عاش حياته مثقلا بهموم أمته، ووطنه، وكان الشريان الأوسع، والأكثر ضمانا وأريحية، الذي يربط عقلنا وذاكرتنا، بحضارة الوطن، وبتفاصيله الحميمة، وأمنياتنا فيه، ووسائلنا للوصول إليه.. رحمه الله وغفر له والعزاء خالص العزاء لذويه ورفاقه ومحبيه.
انواكشوط 09/02/2021