تُعْطِي العلاقة بين السلطة التشريعية والسلطة القضائية في النظم القانونية المعاصرة ملامح من العلاقة بين سلطة العلماء، وسلطة القضاء في الفقه الإسلامي..
في النظم القانونية تُنْتِجُ السلطة التشريعية القوانين، ويمنع عليها التدخل في الشأن القضائي، وتطبق السلطة القضائية القوانين الصادرة من السلطة التشريعية، ويمنع عليها التدخل في العمل التشريعي..
في الشريعة الإسلامية يستخرج العلماء الأحكام من الأصول، وينتجون الفقه بالإجتهاد، فَيُسْقِطُ القضاة الفقه على المنازعات، ويَبُتُّون فيها به، خاصة إذا لم يكونوا مجتهدين كحال "قضاة الضرورة" في العصور المتأخرة..
ويجدرُ بالعلماء الكف عن الإفتاء في المنازعات المعروضة على القضاة، قال التسولي في البهجة على التحفة عند قول ابن عاصم:
ومنع الإفتاء للحكام - - في كل ما يرجع للخصام
بعد كلام مطول: "وفي البرزلي، ونحوه في المعيار لا ينبغي للفقيه المقبول القول أن يكتب للقضاة بما يفعلون إلا أن يسألوا، لأن ذلك يؤدي إلى الأنفة المؤذية، قال وقد أدركت بعض شيوخنا إذا ورد عليهم سؤال فيه حكم قاض من بعض الكور يرده حتى يبعث إليه قاضيه.."..
ويكره للقضاة الإفتاء عموما على رأي القاضي شريح "إنما أقضي ولا أفتي"، وعليه بعض أهل العلم، أوفي المسائل التي قد تؤول إلى المنازعات فقط على الرأي الراجح، وعليه الجمهور، ونظمه ابن عاصم بقوله السابق:
ومنع الإفتاء للحكام - - في كل ما يرجع للخصام//..
وإن كان للقاضي إحضار العلماء، واستشارتهم، ونصُّ خليل في ذلك: "وأحضر العلماء وشاورهم" وفي نسخ: "أوشاورهم" ندبا وقيل وجوبا كما في الشرح الكبير..
في دولة المؤسسات الحديثة، كرست القوانين الفصل بين سلطة القضاء وغيرها من السُّلَط، بما فيها سلطة العلماء، ومنعت التأثير على العمل القضائي، بأي طريق..
في موريتانيا - وقبل الدولة الوطنية - تَدَاخَلَ دور العلماء والقضاة، إذ لم يكن فيه قضاء وظيفي مؤسسي، فتولى العلماء دور القضاة في الغالب، وتداخلت الأحكام مع الفتاوي، ودأب العلماء على تعقب أحكام القضاة بالفتاوى، وتدخلوا في المنازعات المنشورة انتصارا لهذا الطرف أو ذاك، ونتجت عن ذلك أوضاع سلبية كتأبيد الخصومات، وإثارة النعرات، ومن ذلك وقائع مشهورة..
ولا يزال هذا الماضي يجر ظله على الحاضر، رغم مؤسسية القضاء، ولعل موريتانيا هي الدولة الوحيدة اليوم التي يقتحم العلماء فيها مسائل المنازعات، والقضايا المعروضة على القضاء..
يَحْشُرُ العلماء دائما في كل مناسبة ما قيل في التغليظ على القضاة وما ورد في حقهم من وعيد، ويهملون نصيب المفتين من ذلك، وقد استوقفني مرة كلام نفيس لإبن القيم رحمه الله تعالى في إعلام الموقعين، قال فيه: "فكل خطر على المفتي فهو على القاضي، وعليه من زيادة الخطر ما يختص به، ولكن خطر المفتي أعظم من جهة أخرى، فإن فتواه شريعة عامة، تتعلق بالمستفتي وغيره، وأما الحاكم فحكمه جزئي خاص لا يتعدى إلى غير المحكوم عليه، وله، فالمفتي يفتي حكما عاما كليا، أن من فعل كذا ترتب عليه كذا، ومن قال كذا لزمه كذا، والقاضي يقضي قضاء معينا على شخص معين، فقضاؤه خاص ملزم، وفتوى العالم عامة غير ملزمة، فكلاهما أجره عظيم، وخطره كبير"..
من الأجوبة الظريفة الذكية الحاضرة للقاضي محفوظ ولد لمرابط رحمة الله عليه جوابه لمن خاطبه بالحديث الصحيح المشهور "القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة" بقوله: "مَا أنْضْمَنْ الْثُلُثْ أَيْ هَيْئَه الْجَنَّه مَاهُ الْقَضَاء - لم يضمن لثلث أي هيئة الجنة إلا القضاء"، يشير إلا أن الواحد المقطوع بجنته ثلث الثلاثة..