في عهد سابق يعود إلى أوائل القرن العشرين زار شيخ الأزهر والمصلح الديني الكبير محمد عبده بعض الدول الأوروبية، فأعجب كثيرا بما لاحظه، ولما عاد إلى مصر علق على ما رأى ولاحظ قائلا "هناك إسلام بلا مسلمين وهنا مسلمون بلا إسلام". هذه المقولة بما تحمله من دلالات رمزية تجسدت بعد حوالي قرن من الزمان في دراسة أجريت بجامعة جورج واشنطن، وكان الهدف منها التعرف على الدول في العالم التي "تلتزم بتعاليم الشريعة الإسلامية النصية" أي التعاليم التي ورد فيها نص.
وكانت النتيجة مفاجئة لمن اطلع على هذه الدراسة التي أثبتت أن دولة "إيرلندا"، رغم أنها لا تدين بالإسلام، اعتبرت "من أكثر دول العالم التزامًا بتعاليم الشريعة الإسلامية"، في حين احتلت السعودية على سبيل المثال المرتبة 91، أما مصر فقد وجدت نفسها في مؤخرة الترتيب، أي رقم 128.
بل إن جميع الدول العربية كانت بعيدة كل البعد عن المراتب سواء المتقدمة أو حتى الوسطى. وأول دولة إسلامية تبرز في ترتيب الجدول كانت ماليزيا التي حصلت على رقم 33، في حين أن إسرائيل أدرجت في مرتبة 27، أي قبل جميع الدول العربية والإسلامية.
بطبيعة الحال، يمكن مناقشة هذه الدراسة ونتائجها، لكن الجوهري في هذا السياق يكمن في المنهجية التي يجب اعتمادها للحكم على مدى التزام أي بلد بالإسلام.
هناك من يشترط إيمان سكان هذا البلد أو ذاك بالدين الإسلامي أولا، أي تقديم العقيدة قبل السلوك. لكن لابد من لفت نظر القارئ أن الغرض من مثل هذه الدراسة ليس البحث عن البعد العقائدي واتخاذه مؤشرا رئيسيا لتحديد هوية السكان والبلدان والدول، وإنما انطلق واضعو الدراسة من منهجية مختلفة تجاوزوا بها مسألة الإيمان بالدين في حد ذاته، وانطلقوا بدلا عن ذلك من مؤشرات سياسية واقتصادية وأخلاقية مثل العدالة والحريات وأسلوب توزيع الثروات، وهي قواعد أربعة تتمثل في: الإنجازات الاقتصادية، والحقوق الإنسانية والسياسية، والعلاقات الدولية للبلد، إلى جانب طبيعة السلطة ومدى شرعيتها واحترامها لمواطنيها. وهذه المؤشرات يمكن قياسها والتثبت منها واعتمادها للتمييز بين الدول أو بين أنظمة الحكم.
ليس هدف هذا المقال هو الدفاع عن هذه الدراسة بالتحديد، وإنما إبراز الحاجة لمنهج مختلف في فهم الإسلام من جهة، وفي تقييم أداء المسلمين أفرادا وشعوبا وحكومات ودولا. نحن لا نتحدث عن الدين وإنما عن وظيفته في المجتمع. فصفة كوننا مسلمين لا تعني بالضرورة أننا أكثر وفاء لتعاليم هذا الدين من غيرنا. إذ يمكن أن يكون جارك مسيحيا أو لادينيا وأنت مسلم، ولكن على مستوى السلوك والعلاقات الاجتماعية يعتبر أفضل منك إذا كنت لا تحترم مواعيدك وعهودك، وتظلم الناس وتستغل عمالك وتسرق أموال الدولة، ولا تحترم القوانين، ولا تدافع عن الضعفاء والمسحوقين. فالإسلام ليس يافطة نضعها فوق المحلات والشوارع أو هوية ورقية مكتوب عليها "أنا مسلم". هذا تصور سطحي قد يراوغ به البعض لقضاء حوائجهم بالنفاق، ولكنه لا يعتمد عند الله أو عند الناس. لأن الآخرين يحاسبونك على ما تعمل وليس وفق مظهرك أو ما يتفوه به لسانك.
عندما يتم الانتقال من المعتقدات الفردية إلى الآليات المنظمة للمجتمع والدولة تبرز الفوارق بشكل صارخ بين الدول الإسلامية وغيرها. إذ لم يكن من باب الصدفة أو التحايل أن نجد في المقدمة التي اعتبرتها الدراسة أكثر التزاما بتطبيق مبادئ الإسلام وهي الدول الإسكندينافية أو القريبة منها في مستوى احترام المؤسسات وحقوق المواطنين والتمتع بحياة كريمة، وهي الدنمارك في المرتبة الثانية ثم السويد ثالثا. ولهذا عندما سئل رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي عن النمط الاقتصادي والاجتماعي الذي يرونه الأفضل لتونس، لم يذكر أي بلد مسلم، وإنما اعتبر الدول الإسكندينافية هي النموذج الذي يجب الارتباط به والاستفادة منه.
عندما يلاحق المسلم في وطنه بسبب أفكاره أو مواقفه السياسية، إلى أين يهرب ويلجأ؟ وعندما يجوع ولا يجد عملا قارا ولائقا فما هي قبلته التي يغامر بحياته من أجل الوصول إليها سرا، وقد يموت في الطريق وتنهش جثته الحيتان كما حصل لمئات الآلاف من غيره، ومع ذلك يصر على المقامرة؟
كثرت الشعارات، وتعاظمت الأوهام، وظن الكثيرون أن الإسلام كلمة يقولها المرء فتكفي لتغيير حياته، وأن مجرد قولها يجعله أفضل من بقية الخلق، في حين أن الدين التزام بقيم وبرؤية غير منفصلة عن العالم، وبتعهدات سماها القرآن "ميثاقا غليظا" على المؤمن أن يلتزم به. وأن هذا الالتزام يجب أن يترجم إلى سلوك فردي وجماعي، وأن يتحول إلى اختيارات وسياسات ومؤسسات وحريات وقوانين وضوابط قيمية واجتماعية. فالمؤمن الذي لا يعتقد بأن للإنسان حقوقا يجب أن تحترم، ولا يرى أن العدالة الاجتماعية جزء لا يتجزأ من الإيمان نفسه، هذا شخص لم يفهم بعد ماذا يعني الإسلام، وماذا يعني الإيمان.