ثقافتنا في الحاضر تعيش حالة من التصحر في جوهرها، وإن الاحتباس الذي تعانيه يحتاج تحولاً وتغييرا أساسيين. وهذه مسؤولية تاريخية يجب أن يضطلع بها المثقفون الحقيقيون"
لقد ظلت هذه البلاد تشهد طيلة كل العقود التي شكلت عمر الدولة ـ المستأصلة قيصريا من رحم "اللا دولة" والمنتزعة بالتحايل على الفضاء الفالت من قبضة الحدود، من براثين "السيبة" في مهمهاته ـ مداً استهلاكيا لم ينقطع وضعفاً علمياً لم يشهد تراجعا وفساداً إدارياَ صارخا ومالياً مدمرا لم تشهده حتى دول جوارها.
وإذ من المعلوم أن المجتمعات تخرج على العادة من أتون التخلف إلى فضاءات التطور، خاصة في التاريخ العالمي الحديث والمعاصر على الرغم من اختلاف درجات التطور لدى هذه المجتمعات، فإن ما حدث ويحدث في بلاد التناقضات الكبرى هو النكوص والتراجع عن مستوى مكتسبات ثقافية تحققت مع النشأة، وتحولات نوعية في التعليم مع ظهور المدرسة الجمهورية وغيره كادت تكون بداية لنهضة حقيقية في الدولة الناشئة على يد المستعمر.
و قد تولد عن هذه الوضعية، المطبوعة بالتناقض الشديد والشذوذ عن المنطق، السؤالُ عن أسباب التراجع الثقافي الذي شهدته الدولة من بعد ما سجلت نفسها في سياق التحول إلى قيم المدنية والحداثة ومحاولات محاكاة أدب يبني الوعي خلال الماضي القريب والحاضر الذي نعيشه وفيه العالم تطبعه من حولنا دينامكية معرفية لم تشهد الإنسانية مثيلا لها من قبل؟
ومما لا شك فيه أن الطبقة المتعلمة في بلاد "الألقاب الكبرى" تعيش بياتا شتويا في كهوف الانحسارية الفكرية الجامدة لا تخطئه العين من رمد "التراجع" ولا ينكره لسان "النقد" من رداءة قليل المنتج؛ بيات تبرز كل تجلياته في قوالب "النكوص" الصارخ عن وعود ما بعد التحصيل في مختلف كليات وجامعات ومعاهد العالم من ناحية، وفي ضبابية "الانحسار" عن بؤر الأضواء الخارجية التي تغمر العالم كله وتشع دروبه وتنير في توحد الوعي المتفتح العقول حول أساسيات تقاسم مزايا الإنسانية وقد أصبحت عالمة ومنتجة في أبهى تشكلات العطاء وأنقى معاني البذل والعطاء والأخذ والارتقاء، من ناحية أخرى.وتعيش هذه الطبقة، التي يخلط أغلب أفرادها:
بين الثقافة المكتسبة نظريا بالتعلم دون الاختبار التطبيقي على مسرح الواقع المنفتح على كل ثقافات العالم وآدابه وفنونه، ونبذ الإبداع واحتضان الابتذال وبين ،
السياسة دون التطبيق العملي الناضج والسامي لها على أرض تنشد البناء لصالح الالتحام بمزايا العصر الحديث ولرفع تحديات التخلف والفقر والتمييز والغبن والإقصاء والتباين والمرض الجهل و الظلامية.
في انتكاس شديد الأثر على مسار يأبى أن يجاري حراك التطور وعقول تستعص على غمر الأرواح بالأنوار المنبعثة من ثورة العقل على ظلامية الماضي المصفد باعتبارات التمييز العنصري والتفاوت الطبقي.
ففي الوقت الذي تتسارع فيه وتيرة الوعي، الذي جاء بولادة قيصرية من رحم المعاناة وتسنده وسائل التواصل الاجتماعي بعد خور الإعلام وعجزه عن أداء رسالة الوعي والإخبار والتوجيه، تتزايد باضطراد الحاجة إلى انبثاق طبقة جديدة تحمل هم الوطن وتدرك حجم المخاطر التي يسببها إرتكاس "النخب" الخائرة هذه الموزعة بين ازدواجية الوعي الشكلي العقيم والوعي المنافق المثبط اللذين يكبسان على
أنفاس إرادة التحرر والانطلاق للحاق بالركب الأممي.