شهدت بلادنا تغيرات مجتمعية كثيرة في معظم جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بعد ولادة الدولة الوطنية في موريتانيا قبل 56 سنة، وانتقل السكان من البادية إلى المدن والقرى وشيدت المصانع ودارت آلة الاقتصاد وحصل حراك ثقافي وتخلخلت هياكل اجتماعية عتيقة. ومع ذلك فإن الإشكاليات التي مازالت مطروحة في يومنا هذا تأتي على رأسها القبلية ودورها مقابل مكانة المواطنة وتطبيق المساواة بين أفراد المجتمع.
إن العمل متواصل لترسيخ وبناء الدولة الحديثة التي نعيش في كنفها بإرادتنا جميعا متشبثين بهويتنا الوطنية ومعتزين بشخصيتنا الإسلامية- الإفريقية والعربية. هذا العمل فتح على عدة جبهات لبناء الدولة في الإقليم الوطني من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب. وبإرادة الشعب الموريتاني المستقل يتواصل السعي بشكل حثيث إلى تحقيق طموحات أبناء البلد في الرفاهية والقوة والازدهار في ظلال القيم الوطنية الجميلة التي تشكلت منها شخصية المواطن الموريتاني على مدى العقود من الزمن وبفعل التراكمات والإرث التاريخي الأصيل لأبناء شنقيط.
ففي ظل الدولة الحديثة وتحت علمها يتساوى كافة الأفراد وتقوم العلاقات بينهم على مبدإ المواطنة ويتم التعامل معهم كمواطنين متساوين (المادة الأولى من الدستور). وهذا المبدأ ينطلق من الفكرة المدنية التي تعتبر أرقى من مرجعية العائلة والفخذ والقبيلة والعشيرة والعرق والفئة. فهذه المرجعيات فشلت في العصر الحديث في تحقيق المصلحة الفردية والجماعية وتم تجاوزها في الدول التي حققت مستويات من التطور العلمي والثقافي والحضاري.
قد يقول قائل إن "الدولة الوطنية" مفهوم مستورد غير محبب إليه، ولكن إلى متى نغلق على أنفسنا ونوصد الباب أمام الأفكار التي أثبتت فاعلية على المستوى الكوني، ولماذا هذه المناعة ضد تحقيق التقدم وتطوير الواقع الذي أصبحنا نعيش فيه منذ ميلاد الجمهورية الإسلامية الموريتانية؟ فمع أننا نستورد الكثير من الأفكار والأدوات والسلع غير المهمة بل والضارة في بعض الأحيان، فإن بعضنا يمانع في تقبل وجود الدولة وتراه يسعى بحيل متعددة ينكرها ويتجاوزها ويتكاسل في أداء الواجب الوطني ويتقاعس أمام الشأن العام ويلوذ بأنانية فردية غير مفهومة. على سبيل المثال مازال الكثير منا يرفضون الانصياع للطابور في المدرسة وفي المخبزة ومحطة البنزين و مازال آخرون بنبذون الإحصاء في سجل السكان ويتجاهلون حمل الهوية أو بطاقة التعريف الوطنية البيومترية (التي لم تحمل في يوم من الأيام اسم القبيلة أو الفخذ أو الأصل الاجتماعي) وتجد من يتحرج لدى سؤاله عن هذه الأوراق التي لاغنى عنها، بل إن هناك من بين المتعلمين من لا يعلم بوجود "الرقم الوطني" ولا يثق في نظام التعريف البيومتري ويراه مكبلا لنشاطه أو عائق أما حركته.
إن المجتمع الموريتاني يتكون بالفعل كغيره من مجتمعات المنطقة من قبائل وعشائر وأفخاذ بلغ عددها حسب بعض الباحثين مئات القبائل في حيز جغرافي متسع بشكل كبير وعدد قليل نسبيا من السكان لا يتجاوز أربعة ملايين كما تقول الإحصائيات المتوفرة. ومازال استيعاب المجتمع والدولة لهذه "الهويات الفرعية" الضيقة يعاني من الضعف لأسباب ليس أقلها أهمية الطابع الخاص لميلاد الدولة المستقلة آنذاك بالإضافة إلى مسؤولية الأفراد والنخب الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي انشغلت بالكيان الجديد ومازالت تحاول التفاعل بشكل إيجابي مع الدولة الوطنية ومؤسساتها وقوتها وتحاول من جهة أخرى جني الفوائد السريعة التي قد تحصل منها بأقصر السبل وحسب ما يلوح في أنواء أفقها.
هذا المشهد العام المأمول لأفق المواطنة الذي يتجاوز القبيلة مازال غائما بالنسبة للكثيرين ويتعامل البعض معه بحذر وتوجس وانتهازية " مفرطة" في بعض الأحيان. وليس من الممكن بالنسبة لمن يتأمل المشهد العام بشكل سريع الخروج بتشخيص دقيق لحالة الهوية وترسخ المواطنة وتعزيز مكانتها مقابل إطلالة " القبيلة" ودورها في كل صغيرة وكبيرة أحيانا بسبب وبدون سبب.
ومما يحز في النفس أنك عندما تستقبل مواطنا يبحث عن خدمة داخل مكاتب مؤسسة ما سواء كانت تتبع للقطاع الخاص أو العام فإن أول سؤال يتبادر إلى الذهن هو من أي قبيلة أنت ومن أي فئة تنحدر وهل لك "ظهر" قبلي يحميك ويذود عن مصالحك ويحقق لك غايتك.
إن المدافعين عن القبلية لا يصمدون أمام خطرها على كيانهم الفردي ودائرتهم الأسرية أحيانا فكم شاهدنا من حالات فيها خصومات ونزاعات وصدامات أسرية بسبب حوادث اجتماعية تعود إلى مشكلة "المساواة" و "النسب". هذه الحوادث قد نعتقد أنها ثانوية ولكنها قد تشعل فتيل صراعات وتحالفات وانشقاقات قبلية غير مقبولة في عصرنا الراهن الذي من الطبيعي أن تكون المرجعية فيه هي المواطنة والدولة. وكم رأينا في أيامنا من وقائع تحتشد فيها الأسرة والقبيلة على المستوى المحلي والإقليمي وحتى على المستوى الوطني، وهذه أمور متجاوزة في عصر المواطنة في إطار الدولة والمواطنة "العالمية" للإنسانية التي أسفرت عنها تقلبات وتطورات أحوال "القرية الكونية" التي نعيش فيها.
لاشك أن الكثير من العمل مازال أمامنا لكي نتجاوز "التصنيفات" القبلية واللونية والفئوية، وفي هذا المجال لا مناص من التعويل على العمل الأهلي "المجتمع المدني" _ على ما يعاني منه لدينا من وفرة في العدد ونقص في الفاعلية_ والنخب الإدارية والسياسية والاقتصادية والثقافية لكي تصل إلى بناء منظومة قيمية جديدة تخرج من عباءة القبيلة لتدخل في عصر الدولة والهوية الخاصة وتعزز مكانة المواطنة. لا شك أن الأمر ممكن بالعزيمة والإرادة والنزاهة الفكرية والولاء للجمهورية وقيمها.