باستثناء مادتي اللحوم الحمراء والسمك اللتين تتوفر موريتانيا على اكتفاء ذاتي تام منهما والأرز الذي تؤمن الزراعة المحلية 55% من حاجيات البلد منه وبواكير تجربة نرجوها واعدة في زراعة الخضروات فإن كل السلع الأخرى الحاضرة بقوة في النظام الغذائي للموريتانيين تُستورد بالكامل من السوق الدولي سواء تعلق الأمر بالقمح وزيت الطهي والسكر والحليب المجفف ونسبة معتبرة من الخضروات والفواكه وكل المدخلات الزراعية وأعلاف الحيوان وهذا ما يزيد من انكشاف البلاد أمام الآثار السلبية للصعود الكبير في سعر البترول والاضطرابات التي تشهدها سلاسل الإمداد العالمية لتوريد المواد الغذائية بفعل تأثيرات الحرب الروسية على أوكرانيا وهو ما يفرض تحديات جمة نستعرضها فيما يلي:
أولا: استنزاف احتياطات البلاد من النقد الأجنبي: أشرت سابقا إلى أن عدد شهور الواردات التي تغطيها الاحتياطات الرسمية من العملة الصعبة هي معطى نسبي ويفقد معناه حين تضرب الأزمات الأسواق العالمية للمواد الغذائية أو للبترول كما هو حاصل في ظل الحرب الحالية، ذلك أن ما كنا نصرفه شهريا (حدود 300مليون دولار) لتغطية وارداتنا قبل الحرب ارتفع ب 80% بفعل الأسعار الجديدة وتبقى الزيادة مرشحة لمزيد من التصاعد مع استمرار الحرب وهو ما سيؤدي إلى استنزاف حاد لاحتياطات البلاد الخارجية وما لذلك من أثرٍ ضار على قيمة الأوقية الموريتانية وبالتالي على القدرة الشرائية للموريتانيين وأيضا على القدرة على توفير الاعتمادات الضرورية للموردين.
ثانيا: خنق المالية العامة: لم تعد المخصصات المالية المرصودة في ميزانية 2022 لتمويل سياسة الدعم التي تعتمدها السلطات لبعض المواد الأساسية كافية وسيتم استنزافها بفعل الزيادات الحادة في أسعار المواد المدعومة (البترول، الغاز، المواد الاستهلاكية ضمن برامج الحكومة الاجتماعية). كما أن فرضيات الأساس في الاقتصاد الكلي لميزانية 2022 قد عبثت بها ظروف الحرب وما نتج عنها في الأسواق العالمية ذلك أننا لن نحقق معدل النمو 4,2% المنشود هذا العام ولن نتمكن من إبقاء التضخم في مستوى 3,5% وطبعا لن يظل عجز الميزانية المتوقع عند مستوى 4,95%.
ثالثا: الضغوط على التداين: سيتعين على وزارة المالية مراجعة نيتها تغطية العجز في ميزانية 2022 والمقدر مبدئيا ب 135 مليار أوقية قديمة عبر سيولة الخزينة بالبنك المركزي في حدود 82% إذ لن تكون هناك بفعل الوضع الجديد سيولة كافية كما أن العجز سيرتفع كثيرا عن هذا المستوى وبالتالي فإما أن يتم اللجوء إلى التداين الداخلي عبر سندات الخزينة وهو حل قد لا يوفر اللازم وإن وفره فبكلفة عالية وبأثر سيء على قدرة المصارف على تمويل الاقتصاد ينضاف لهذا إكراهات التداين الخارجي في ظل صعوبة الولوج لشبابيك القروض الميسرة بسبب تجاوز حصة الفرد من الناتج الداخلي الخام في البلاد سقف المسموح به للولوج لهذه الشبابيك وغياب رؤية واضحة لدى الفريق الاقتصادي للحكومة للتسريع بإدخال البلاد للسوق المالية الدولية كما أن تجربة كوفيد أظهرت محدودية ما يسمى "بالسخاء الدولي" والذي لم يتجسد إلا في مبادرة خجولة بتأجيل سداد أقساط الدين الحالة في 2020-2021.
رابعا: اضطراب التموين المنتظم للأسواق
من سوء حظ العالم وموريتانيا جزء منه أن توقيت اندلاع حرب روسيا على أوكرانيا صادف موجة صعود كبير لأسعار المواد الغذائية طوال الشهور الأربعة السابقة للحرب وحين اندلعت الحرب تضاعفت وتيرة الزيادات في الأسعار وهو ما أدى إلى ما يشبه هستيريا في الطلبيات الضخمة على المواد الغذائية ما ولّد وضعية غير مسبوقة في ديناميكية العرض والطلب إذ نقص الأول (بفعل وقف صادرات روسيا واوكرانيا بسبب حصار روسيا لموانئ أوكرانيا وحصار الغرب على سفن روسيا) وزاد الثاني (بفعل حمى الطلبيات الهائلة) وكانت النتيجة ما نعيشه حاليا ورمضان على الأبواب. كمثال لهذه الهستيريا فقد أكدت تركيا وهي بلد منتج للقمح خلال الأسبوع الماضي لوحده طلبيات بمليون طن من القمح من الأرجنتين وكندا. إن حمى الشراءات والتكديس للمواد الغدائية من طرف بلدان متقدمة لن تترك للبلدان النامية هامشا للتحرك وبالتالي فإن توجهنا للأرجنتين هو لفترة قد تكون محدودة جدا.
خامسا: التهريب عبر المسالك الحدودية غير المضبوطة:
سيطرح مشكل رقابة الحدود تحديا حقيقيا علينا ألا نتساهل بشأنه فحدودنا مع السينغال ومالي لا ينبغي أن تشكل خطرا على أمننا الغذائي في فترات الأزمات. من المفارقة أن يظهر في بيانات مركز التجارة العالمي أن موريتانيا التي لا تنتج غراما واحدا من الأسمدة قد صدرت خلال سنة 2021 ما قيمته 2,5 مليون دولار من الأسمدة إلى السينغال. إنها أسمدة مدعومة من الأموال العمومية هربها أفراد لتحقيق ربح على حساب المجموعة الوطنية وأمنها الغذائي.
سادسا: تسيير الثروة الوطنية: قد لا تكون الأجهزة الحكومية المختصة جاهزة لمنع تصدير الماشية أو للحد من تصدير الأسماك السطحية ولمنع توجيهها لمصانع دقيق وزيت السمك خلال فترة الأزمة هذه.
سابعا: استمرار الغموض في تأمين تزويد البلاد من المواد البترولية
تثير وضعية عقد المحروقات حالة من عدم الاطمئنان على سلاسة واستمرار تزويد البلاد بالمحروقات إثر تعقيدات شهدتها صفقة تموين السوق الموريتاني بهذه المادة وهي الصفقة التي أُلغيت مرتين خلال الشهور الثلاثة الأخيرة وقد بدأت البلاد السحب من مخزونها الاستراتيجي وهو ما يعني مزيدا من الضغوط على هذه السلعة الحساسة.
ثامنا: الهزات الاجتماعية: تتنبأ جل المؤسسات الدولية في تقييمها لآثار أزمة الغذاء الحالية بظهور هزات وقلاقل اجتماعية مقبلة في العديد من البلدان النامية بسبب الجوع وعلينا أن نكون جد حذرين وفعالين في مواجهة شح المواد الغذائية قبل أن نجد أنفسنا وبلدنا في مواجهة ما قد ينتج عنها من تبعات اجتماعية.