الخليل النحوي يكتب: عذرا يا طارق..

اعتدنا أن نغلق أبوابنا أمام أي طارق، فالخيمة الموريتانية بطبيعتها مفتوحة، وفي كل دار موريتانية خيط فأكثر من خيوط تلك الخيمة وظل من ظلالها .
نعم، اعتدنا أن ندعو اللـه تعالى فنقول “اللهم إنا نعوذ بك من كل طارق إلا طارقا يطرق بخير”، وما ظنناك إلا طارق خير. ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا.

 

وحدهم بعض غلاة المتصهينين والمتعصبين في الغرب يفتشون في جيناتك الوراثية عن عرق ينزع بك من جدك (وأي عار في ذلك؟). لقد “شيطنك” بعضهم في فرنسا لأن خطابك المنافح عن الإسلام لا يروق لهم، ولأن لديك مفهوما للمواطنة يحرج بعضهم، ولأنك فضحت هوامش الحرية المنقوصة أو المغشوشة في بعض بلدان الغرب، ولأنك طرحت ذلك السؤال الذي لا يريد بعضهم أن يسمعه: ما هو الخطاب الذي تريد فرنسا توجيهه للمسلمين؟ هل تقول لهم إنّكم لا تزالون أجانب في فرنسا بالرغم من أنّكم فرنسيّون لا لشيء إلاّ لأنّكم مسلمون؟”، وهو سؤال مطروح على كل الدول الغربية التي تنتشر فيها حمى الإسلاموفوبيا؛ لكن ما لنا ولهؤلاء؟
لماذا لا تتسع صدورنا، على الأقل، لمن نتقاسم معه الكثير، كما اتسعت صدورهم لمن يخالفهم، فرغم كل ما تقوله مما يزعج المتعصبين ضد الإسلام، لا فرنسا، ولا الدول الغربية الأخرى (باستثناء الولايات المتحدة أيام بوش) سدت أبوابها دونك يا طارق، وأنت المنافح عن الإسلام في ردهات وغرف البرلمان الأوروبي.
من حقك - والحال هذه - أن تتساءل وأن تعجب: كيف تسد الجمهورية الإسلامية الموريتانية أبوابها دونك؟

 

نعم، قد يكون هناك منا أو من بني جلدتنا أو من غيرهم من يريبه حضورك، في مكان معين وزمان معين، لأسباب ليس من همنا هنا أن نستكنهها، لكن كان بإمكاننا أن نقول لهؤلاء وأولئك أن “البعبع” الذي تمثله ليس هيكل لحم ودم، بل هو فكر، وإن الفكر - اتفقنا معه أو اختلفنا - لا يقف عند بوابات المطارات، وإنه لا مصلحة في أن نوقفك ونوقف الكريمات اللاتي يصاحبنك من أفراد أسرتك بعد أن حللتم بأرضنا؛ ولا مصلحة من باب أولى في أن نترككم في قاعة انتظار طيلة الليل، خصوصا إذا كان هذا كله لا يجدي نفعا في تجفيف منابع الفكر الذي تحمل أو في منع رسالتك من الوصول إلى أسماع الناس، والمفترض أصلا أنها رسالة لا تزعج إلا الغلاة في هذا الطرف أو ذاك.

 

كان بإمكاننا أن نقول لمن يهمه الأمر إن موريتانيا ليست، أو لا ينبغي أن تكون “تيبة” التي تغلق زريبتها على الغربان، وأن هناك أساليب حضارية أخرى أقوم وأكرم للتعامل مع ضيف من هذا العيار طرق بابنا بدعوة من بعض أبنائنا وبتأشيرة من جهاتنا المختصة.

 

كان بإمكاننا، ونحن نستعد لاستقبال القمة العربية، أن نتذكر ونذكر إخواننا بأنه ليس من شيم العربي ولا المسلم أن يطرد ضيفا طرق بابه، أحرى إذا كان قد جاء بدعوة، وجاء مصحوبا بأفراد أسرته، وجاء بعدة علمية وفكرية بإمكانه - وقد فعل - أن يوصلها عن بعد، بل إن منعه حسيا من إيصالها عن قرب في ساعة أو ساعتين من الحديث المباشر، سيفتح له أبوابا معنوية واسعة لإيصالها عن بعد وفي آماد زمنية أوسع؛ أبوابا لا تستطيع الشرطة إيصادها.

 

كان بإمكاننا أن ندع ضيفنا يدخل ليتحدث إلى ألف أو ألفي شاب حديثا علميا فكريا كالمعتاد، بدل أن ندفعه إلى أن يبث رسالة سياسية، لا تخدم بلدنا، وصلت في غضون بضع ساعات إلى نحو ٢٠٠ ألف شخص، ولا ندري إلى كم تصل في غضون بضعة أيام أو أسابيع أو أشهر.

 

كان بإمكاننا أن نستقبل ضيفنا ببعض ما عُرفنا به من كرم الضيافة، ثم نطلب منه، برفق، إن كان ولا بد، أن لا يحرجنا - إن كان في الأمر حرج ما- كما فعلنا ذات يوم، فيما سبق، مع كارلوس، يوم كان المطلوب الأول في العالم؛ همسنا في أذنه، بحكمة ورفق، فانسحب راضيا وبدون ضجيج، وجنبنا بلدنا مشاكل نحن في غنى عنها.

 

عذرا يا طارق…
نعلم أنك لست كارلوس، وأن من حقك أن تخاطب موريتانيا بلسان شاعرها فتقول:
نزيلك فأمني أبدا أذاه
نزيل غير مرهوب المصال
ضعيف لا يخاف البطش منه
عفيف لا يسب على النوال
قراه إذا ألم بأرض قوم
مفاكهة اللبيب من الرجال

 

نعلم أنك، وأنت تحمل “مفاتيح التعايش”، لم تأت حاملا حزاما ناسفا، ونعلم أن كريمتيك مريم ونجوى وحرمك إيمان وصهرك علي لم يأتوا ليشهدوا تفجيرا انتحاريا. وكم يؤسفنا أن لا تجد في جعبتنا البارحة من رصيد مروءاتنا ما نمهد به لهؤلاء الكريمات غطاء ووطاء وكأس شاي بالنعناع، وجرعة من حليب الإبل في فندق أو تحت خيمة أو على تلة من تلال نواكشوط الذهبية.
كم يؤسفنا أن تطرقوا بابنا ونقول لكم “ارجعوا”، فما ذلك لنا بخلق.

 

أتفهم الصدمة التي يمكن أن تكون أصابتك وأنت تطرق أبوابنا، فلا نستقبلك بالطريقة التي استقبلناك بها قبل سنين، وأنت تحل بالبلد في زيارة خاطفة.
أتفهم المرارة التي تشعر بها، ذلك أنك وأنت تدير مركزا لدراسات التشريع الإسلامي والأخلاق، وأنت تؤلف عن الأخلاق، وعنها تحاضر، كان من حقك تماما- ومن حقنا - أن تتصور، خطأ أو صوابا، أنه إن يكن في العالم بقية أخلاق ففي هذا البلد الذي يباهي أهله بأنهم مسلمون جميعا، لا يغيب عن عامتهم أحرى أولى النهى منهم قول من بعث ليتمم مكارم الأخلاق - صلى اللـه عليه وسلم- “من كان يومن باللـه واليوم الآخر فليكرم ضيفه”؛ بلد يتربى النشء فيه على قول المقنع الكندي:
وإني لعبد الضيف ما دام نازلا
وما لي سواها شيمة تشبه العبدا!

 

ومع ذلك، فلا نملك إلا أن نقول لك: عذرا! فلا تجد علينا في نفسك، ولا تتعجل في الحكم على بلد يقدر لك الكثير من مواقفك المشرفة في محاورة المتعصبين في الغرب بلغتهم ؛ بلد يتطلع شبابه إلى أن يسمع منك، وإلى أن تسمع منه أيضا.

 

أكيد أنك تعلم أن الشباب الذين دعوك ما أخلفوا موعدك بملكهم. كانوا حقا يتطلعون إلى أن يسمعوا منك في بلد المحاضر (الجامعات الشعبية المفتوحة)، كما سمع منك أضرابهم من الطلبة والأكاديميين والمثقفين في جامعات بريطانيا والولايات المتحدة والمغرب وقطر واليابان وماليزيا، وفي مواسمك السنوية في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء التي لقيتك فيها أول مرة، ورأيت تأثير كلمتك الطيبة المغموسة بالحكمة على الشباب والمثقفين.

 

 

 

 

 

ولعل هؤلاء الشباب يظفرون منك بما أرادوا، ولعل موريتانيا تكشف لك، في قابل الأيام، عن وجه آخر، هو وجهها الحق.
عندئذ ستسمع صدى آتيا من وراء القرون، ومن أعماق الأعماق، يقول:
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمحل جديب!