عكس ما هو معتقد، يجمع المؤرخون على أن الأوبئة والأمراض التي جلبها معهم المستعمرون البيض لأستراليا والأمريكتين هي المسؤولة عن إبادة الشعوب الأصلية لتلك الأراضي. فيما ما زالت الذاكرة الجمعية لمن بقي من أولئك السكان تحفظ المآسي التي عاشها أجدادهم.
في سنة 1796، اكتشف الطبيب البريطاني إدوارد جينر أول لقاح لعدوى الجدري. لكن قبل ذلك التاريخ بحوالي 17 سنة، كان ذلك الداء سبباً في فناء معظم السكان الأصليين لمنطقة سيدني في أستراليا، حيث حملته لهم أولى السفن البريطانية الغازية التي حلت سنة 1788 بمرافئهم.
هي الجريمة التاريخية نفسها التي وقعت قبلها بثلاثة قرون، حينما بدأ المستوطنون الأوروبيون بالتوافد على الأمريكتين. حيث يجمع المؤرخون على أن الأوبئة والأمراض الأوروبية أبادت النسبة الكبرى من أولئك السكان الأصليين، وهو ما يفوق بكثير ما أزهقته البنادق والحراب من أرواح منهم.
جدري، طاعون وحمى
قبل وصول الأوروبيين إليهم، بداية من نهاية القرن 15، كان السكان الأصليين للأمريكتين يعيشون في مجموعات بشرية صغيرة. ونظراً لاتساع القارة وقلة كثافتها السكانية، كانت هذه المجموعات متباعدة جداً، ما يقلل الاحتكاك في ما بينها، ويضعف خطر انتقال العدوى وبالتالي مناعتهم للأمراض الجديدة.
على العكس من ذلك، كانت أوروبا في ذلك الوقت تحوي عدداً كبيراً من المراكز التجارية، وبالتالي تعرف توافد عدد هائل من الأعراق والجنسيات عليها، حاملين معهم أمراضهم الخاصة وناقلين العدوى إليها. هذا ينضاف إلى سجل أوروبا الأسود فيما يخص الأمراض والأوبئة، أبرزها الطاعون والجدري.
ويشير مؤرخون إلى أن كلاً من أمراض الجدري، الطاعون الدبلي، الكوليرا ، الدفتيريا، الأنفلونزا، الملاريا، الحصبة، الحمى القرمزية، الأمراض المنقولة جنسياً (باستثناء الزهري)، التيفوئيد، التيفوس والسل، انتقلت إلى السكان الأصليين لأمريكا عبر الوافدين الأوروبيين.
ولم تكن هذه العدوى تنتقل عبر المخالطة اللاإرادية، بل كانت تستعمل كذلك كسلاح حرب ضد هؤلاء السكان. كما حدث خلال حصار حصن “فور بيت” سنة 1763، حيث يذكر الجنرال جيمس أوهارا في مذكراته بأن قائد الحامية البريطانية المحاصَرة في الحصن بعث إلى محاصريه من السكان الأصليين بهدية لم تكن سوى بطانيات وألبسة تعود لمصابين بالجدري على أمل أن تفتك بهم العدوى.
وحسب الأرقام، فمن 25 إلى 50% من سكان أمريكا الأصليين قضوا بسبب عدوى الأمراض التي نقلها إليهم الأوروبيون. وكان يقدر عدد سكان المكسيك قبل وصول الإسبانيين إليها ما بين 20 و30 مليون نسمة، تناقصوا في ظرف 50 سنة فقط إلى 3 ملايين بسبب الأوبئة التي تفشت في ما بينهم. وحسب دراسة إحصائية تاريخية نشرت سنة 2018، فإن الأمراض الأوروبية فتكت بحوالي 55 مليون من سكان أمريكا الأصليين.
وباء سدني
المأساة ذاتها تجددت بعدها بما يناهز ثلاثة قرون، في حق السكان الأصليين لأستراليا. حيث تشير التقديرات إلى أن الوباء تسبب في ما يصل إلى 60% من وفيات السكان الأصليين عبر منطقة بورت فيليب، وقُتل ما يصل إلى ثلث سكان قبائل شرق أستراليا عن طريق وباء الجدري الذي انتشر من سيدني.
وتعود أسباب وباء سيدني، عام 1789، إلى أولى السفن البريطانية التي حلَّت بالساحل الشرقي لأستراليا قبلها بـ16 شهراً، حاملة على متنها مصابين بعدوى الجدري، ولم تكن أعراضه بادية عليهم، وعبر مخالطة السكان الأصليين جرى نقل الفيروس الفتاك إليهم، والتسبب في كارثة وبائية عظيمة.
ويصف المؤرخ المختص في تاريخ سكان أستراليا، جون ماينارد، تلك الأحداث بأن: “جثث السكان الأصليين كانت تتناثر في كل شقوق وجزء صغير من المرفأ، وفي كثير من الأحيان جرى العثور عليهم في كهوف إلى جانب بقايا نار صغيرة وبعض الماء”. ويضيف بأن السكان كانوا يفسرون العدوى بكونها شيطاناً، وأنهم كانوا يفرون منها وبالتالي ينشرونها في المناطق غير المصابة.