قمة نواكشوط.. بين الأرقام والأوهام محمد الأمين سيدي مولود

يستدعي الكلام عن قمة نواكشوط تقديم بعض المعلومات للخروج من ثنائية الفشل التام أو النجاح التام التي تطبع طرح من يتناولون تقييم هذه القمة، ورغم أنني أقرب إلى الخندق الأول بحكم عدم تعويلي أصلا على القمم العربية انطلاقا من موروثها الكبير في الفشل، ومن واقع العرب اليوم الذي لا يشي بأي حال 

من الأحوال بـ"الأمل" الذي أرادت القمة أن تحمل اسمه تفاؤلا لا أكثر، ومعرفتي بكثير من خفايا النظام الموريتاني السلبية، فإنني لا أنكر أن هناك نقاط نجاح ولو كانت ضئيلة في بحر الفشل هذا، وأهم هذه النقاط هو الجانب الأمني في عالم تسود فيه الدماء والانفجارات، ربما كانت هذه هي النقطة الوحيدة التي يجمع كثيرون عليها وتوضع في ميزان قوات الأمن الموريتانية بمختلف تشكيلاتها، أكثر من وضعها في ميزان من يملؤون الشاشات بالمبادرات أو يملؤون الجيوب من الصفقات الفاسدة!

لكن دعونا نصل إلى القمة بلغة قريبة من الأرقام سواء تعلق الأمر بالمقارنة بالقمم السابقة، أو بمعطيات داخلية تخص موريتانيا دون تفاصيل القمم الأخرى. فمن حسن حظنا أننا في بلد "شبه ديمقراطي" أو "نصف ديمقراطي" أي أننا في ظل حكم مدني ذي خلفية عسكرية، مما يتيح لنا فرصة يفقدها كثير من العرب مع الأسف في التعبير الصريح حول فساد الأنظمة العربية، رغم التراجع الحاصل في ظل هذا النظام مقارنة بسابقيْه (اعل وسيدي) وينعكس ذلك في اعتقالات عشرات الشباب، وفي غياب الرأي الآخر في الإعلام الرسمي تقريبا.

ـ من حيث عدد حضور الرؤساء والقادة لهذه القمم لم توجد قمة عربية في هذا القرن أقل عددا من قمة نواكشوط منذ قمة عمان 2001 إلى قمة شرم الشيخ العام الماضي والتي حضرها 14 رئيسا وملكا وأميرا، بينهم رؤساء "نوعيون" إن صحت العبارة. بينما لم يحضر قمة نواكشوط غير سبعة رؤساء، وغاب رؤساء الدول العربية الكبرى كلها تقريبا ـ باستثناء السودان ـ سواء كان ذلك لأسباب موضوعية على سبيل المثال (كالجزائر وسوريا والعراق) أو لأسباب أخرى (السعودية ومصر والمغرب) مثلا.

ـ بخصوص التاريخ كانت قمة نواكشوط القمة العربية الوحيدة التي تأخر انعقادها في هذا القرن، إذا ما استثنينا 2011 التي تم تأجيلها حتى العام الموالي 2012 بسبب الثورات العربية. فقد كانت كل القمم تعقد في مارس من كل عام، حتى جاء دور موريتانيا الارتجالي فتم تأجيل القمة نتيجة الظروف التي لا تسمح، وقد كادت الأمطار تعصف بكل ما تم تجهيزه بسبب هذا التأجيل، لولا العناية الإلهية.

ـ بخصوص المضمون والخطابات لم تكن قمة نواكشوط من أحسن قمم هذا القرن من حيث اللغة ولا المضمون، فقد كانت الخطابات باهتة لم تحمل أي جديد، وكانت لغة الإلقاء في مجملها ركيكة للغاية، ومن نجا من الخطباء، على قِلّته، ينال رتبة مسكوت عنه أو مقبول، وإذا ما استثنينا حالة أو حالتين من خطابات الوزراء، فيكفي الخطباء أن يصنف الرئيس الموريتاني ضمن أفضلهم إلقاءً، أو أحد أفضلهم إلقاءً. كما جاء إعلان نواكشوط مترجما لواقع القمة نفسها ولواقع العرب عموما وخلا من أي قرار قابل للتنفيذ، وسادت حالة كبيرة من التشرذم حول الاتفاق على مضمونه حيث برزت ثلاث كتل تقريبا بين المؤيد والمتحفظ والمعارض حول أهم الفقرات فيه والمتعلقة بأهم الأزمات في الدول ذات الوضعية الاستثنائية اليوم.

ـ داخليا كانت قمة نواكشوط سلبية في مجملها، فمن حيث الواقع السياسي والإعلامي استطاعت القمة أن تفرض لونا واحدا في الرأي والتفكير، وغابت الرؤية الناقدة أو المعارِضة من المنابر وكان هناك صوت واحد هو المسموع، وتلك سمة عربية بامتياز. وباستثناء البعد الأمني الإيجابي ـ ويكفي هزلا أن يصبح نجاة الضيوف بجلودهم إنجازا خاصة أنه لم تتعرض أي قمة لعنف من قبل ـ لا يوجد أي منجز ملموس عدا بعض التحسينات في البنية التحتية فيما سمّاه أحدهم "الحي العربي" أي مقاطعة "تفرغ زينه" وجزء من مقاطعة لكصر، وكان ذلك بأسعار باهظة ، وبصفقات تراض شابها الكثير من الفساد، وهنا دعونا نتوقف قليلا مع بعض الأرقام المتداولة على نطاق واسع، بل إن أغلبها موثق في مصادر إعلامية محترمة، والبعض مصدره كشوف من الخزينة، والبعض الآخر من مؤسسات ووثائق رسمية:

ـ الهدايا والهبات: فقد ناهزت هدايا الدول العربية 100 مليون دولار، حوالي 40 مليون دولار من السعودية، و20 مليون دولار من الإمارات، بالإضافة إلى مساعدات أخرى نقدية وعينية من بينها عشرات السيارات بما فيها سيارات منحها القذافي قبل مقتله وقبل تغيير اسم شارع كان باسمه ليصبح على اسم رئيس سابق لبلد مانح هو الآخر أي الشيخ زايد رحمه الله، وكانت هذه الهدايا من الإمارات وقطر والسعودية والكويت والسودان وسلطنة عمان الخ. هذه المبالغ تزيد على 35 مليار أوقية، دون مصاريف أخرى صرفتها الدولة الموريتانية من بينها حوالي 400 مليون صرفتها المجموعة الحضرية وحدها في ظروف مظلمة، وحوالي 100 مليون صرفها بعض رجال الأعمال في تعبيد الطرق إلى منازهم وتزيينها الخ.

ففيم صرفت كل هذه المبالغ بالتحديد إن كانت صرفت؟ وإن كانت بقيت فتحت أي بند ستكون؟ ومن يمكنه مراقبتها في ظل نظام فاسد تخصصه الأساسي منح صفقات التراضي للمقربين، والتغطية على مصير المنح وحجمها، وما الـ50 مليون دولار التي منحت السعودية قبل فترة منا ببعيد؟!

حسب أهم المصادر الإعلامية المستقلة والرسمية، وبعض الشخصيات المطلعة، فإن ما تم صرفه في القمة رغم كل الفساد لا يصل ثلث هذا المبلغ، ففي صفقات التراضي تم صرف حوالي 8 مليار أوقية للطرق، وحوالي 1.5 مليار أوقية للخيَم، و500 مليون أوقية بين الإعلام والإطعام، علاوة على صفقات أخرى في تزيين الشوارع والنقل والاتصال، قد لا تصل 300 مليون.

ـ إن التنظيم الفوضوي والذي وصل بعض الأحيان إلى تزاحم الصحافة "الوطنية" وبعض عناصر "الأمن" على الطعام قبْل الضيوف، ومنع بعض المؤسسات الإعلامية من التغطية (صحراء ميديا، والأخبار) ومنع شخصيات إعلامية كبيرة ومتزنة في الطرح والرؤية (أبي المعالي) مثلا. بالإضافة إلى تردي جانب الضيافة المتعلق بالإطعام حيث شكا كثير من الضيوف من سوء الخدمات المقدمة لهم وخاصة لجان الإعلام، وقد اختار بعض الضيوف تحمل مصروفات غذائه بنفسه من مطاعم محلية مثل مطعم "روتانا". هذا بالإضافة إلى تقليص مدة القمة من يومين اعتياديا إلى عدة ساعات فقط.

ـ هناك عبارة رددها كثيرون بمن فيهم سفراء ومسؤولون موريتانيون كبار، مع الأسف، تشي بنوع من الاستخفاف والإهمال، رغم أنهم يقدمونه في ثوب تبريري، بل إشادة في كثير من الأحيان، ويتعلق الأمر بكلامهم عن ضيق الوقت الذي قررت فيه موريتانيا عقد القمة، أو على الأصح قرر عزيز ذلك، لأنني لا أذكر أن الرجل استشار خبراء أو مسؤولين كعادته في القرارات الفردية، فبأي وجه يكون اتخاذ القرارات الارتجالية إنجازا يستحق الإشادة؟ وماذا يضير موريتانيا لو اعتذرت حتى تحتاط للقمة ولو بعد سنتين أو ثلاث؟ ما الذي يجعلنا نضطر لشراء خيمتين بـ1.5 مليار أوقية من أجل اجتماع 5 ساعات، وكان من الإمكان تجهيز قاعات قصر المؤتمرات بعُشْر هذا المبلغ؟ ما الذي يجعلنا نقبل ما رفضه المغرب مثلا رغم الفارق الكبير في البنية التحتية؟ لماذا نحرج أنفسنا أمام العالم؟ لقد قضت الجارة السنغال حوالي 4 سنوات أو أكثر وهي تجهز من أجل قمة المؤتمر الإسلامي.

شخصيا، لا أعرف بأي وجه نتكلم كثيرا عن نجاح قمة نجمع أنها بدأت بقرار ارتجالي من رجل ارتجالي، وسارت بتبرعات وشحْتٍ، وختمت بحضور باهت ومخرجات باهتة؟ ولا أفهم كيف يصبح الكلام عن عروبة موريتانيا إنجازا بعد 43 سنة على انضمامها للجامعة العربية؟ كما لا أستوعب أن نعتبر نجاة جلود الضيوف عندنا إنجازا تاريخيا، وكأننا نعيش حربا أهلية، أو كأن القمم العربية السابقة تم تفجيرها جميعا؟! وبطبيعة الحال لا أفهم ولا أتفهم سكوت كثير من الغيورين في البلد على هذا الفساد الكبير والنهب الذي حصل أثناء القمة، والذي ستكشف الأيام المقبلة منه ما لا يتصوره أحد. وطبعا لا أستسيغ محاولة تحميل فشلنا الدبلوماسي، أو طبيعة البنية التحتية عندنا، أو عدم جاهزيتنا لغيرنا مهما كان خلافه معنا، ففي ذلك اعتراف بهزيمتنا أمامه دبلوماسيا، وهذا يعكس سوء التقدير أو سوء التصرف، أو هما معا.

إن الدول لا تقاد بالارتجالية والعنتريات، وإنما بالحكمة والجد، وبالاستقامة والعفة عن المال العام، نعم العفة عن المال العام، فرجال السلطة ليسوا رجال أعمال، أو هكذا ينبغي أن يكونوا، وإن كان لا بد فينبغي أن يكونوا في طبيعتهم الجديدة خاضعين لسقف القانون حتى لا يتحولوا من رجال الأعمال إلى رجال عصابات!