من روما إلى بيكين ومن الرياض إلى واشنطن كان صوت العقل الموريتاني مسموعا؛ فقد استطاع رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني في صمت وهدوء أن يكرس استثناء موريتانيا في بحر الأزمات التي تجتاح العالم، ومنطقة الساحل على وجه الخصوص.
ليس الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني جديدا على ملفات العلاقات الدولية لبلادنا، ولا على الملفات الحساسة منها على وجه الخصوص.
حين جاء الرئيس غزواني إلى السلطة لم يأت من منطقة معزولة؛ فقد كان مديرا فعليا لأهم ملفات الأمن القومي في البلاد؛ الأمن والدفاع، وجزءا كبيرا من ملفات العلاقات الخارجية، وكان ذا كلمة مسموعة لدى جل الشركاء الاقتصاديين. ما السبب؟
كانت موريتانيا خلال السنوات الماضية في قلب عملية أمنية عالمية كبيرة، وفي قلب منطقة مضطربة ينظر إليها العالم من الزاوية الأمنية العسكرية الخالصة. تعود أسباب ذلك إلى تراكمات خلقها تنامي الإرهاب في منطقة الساحل، والأزمات السياسية والأمنية التي عصفت باستقرار البلاد، واستمر بعضها حتى أغسطس 2019.
كانت قيادة الأركان العامة للجيوش؛ حيث يجلس رجل الدولة الهادئ، محطة في جدول أعمال كل زائر إلى البلد، وكان الضيوف يجدون فيها الإجابات على الأسئلة التي حملتهم من بلادهم، والتي تقض مضاجع قادتهم. كانت تلك الإجابات تأتي مغلفة في كثير من الحصافة، وعمق التحليل، وبعد النظر، وفي كثير من أصالة النظرة غير المتأثرة بزوابع الحملات، ولا المستعجلة على استدرار "العطاء"، وكانت المقاربات المقترحة تتسم بالشمولية التي تأخذ في الحسبان كل أبعاد الظاهرة، وليس الجوانب الدعائية سريعة المردود، سريعة الذوبان.
تراكمت الصورة الإيجابية عن رجل الدولة الصبور الهادئ عميق النظرة، حتى طبعت في أذهان كل الزائرين الغربيين للبلاد، ومنهم تشبعت بها أروقة صناعة القرار الغربي في مختلف دوائرها؛ الاقتصادية والأمنية والسياسية.
حين انتقلت تلك الخبرة إلى القصر الرئاسي وضعت على محك آخر؛ هو أن صاحب تلك النظرة أصبح الراسم الأول للسياسات الاقتصادية، والعلاقات الخارجية، وأصبح المسؤول الأول عن وضع تلك الرؤى في سياق يمكنها من أن ترى النور، وتصبح سياسة سائدة في مختلف المجالات. لقد انتقلت مع تلك الخبرة، إلى مصدر القرار الأعلى في البلد، ولكنها انتقلت في ظرف استثنائي؛ فقد عاجلتها الأزمات وهي ما تزال تضع لمساتها الأولى على "خارطة طريق الإنقاذ" التي اتضح أن البلد يحتاجها.
وفي ظل الفوضى العارمة التي خلقتها أزمة كوفيد، وتهديدها بمجاعة عالمية، والخوف من تحلل روابط أمم وشعوب كان ينظر إلى نموذجها في التعاضد والتماسك كمُلهم للتحالفات الإقليمية والعالمية، في ظل كل ذلك ومضاعفاته، وفي ظل معاناة الدول الصغيرة شبح المجاعات، والأزمات الاجتماعية، رأى المراقبون العالميون نفس المفردات تمسك بخيوط الأزمة من جديد غير مرتبكة؛ فاتسعت دائرة المعالجة، وتعددت، زوايا النظرة إلى الأزمة، وتلاحقت حزم الإجراءات الاجتماعية والاقتصادية والصحية، حتى انمحت آثار الأزمة بمجرد انقشاع غبارها؛ فعادت أرقام النمو إلى الارتفاع، وعاودت سلاسل التموين العمل بسرعة، فتراجعت الأسعار، وخرجت المنظومة الصحية بطاقة مضاعفة.
كان واضحا أن قيادة البلد اكتسبت خبرة استثنائية في التصدي للأزمات، وسرعان ما أضافت الدليل القاطع على قدرتها على إدارة دواليب القرار في كل الشؤون المتعلقة بالدولة والحكم الرشيد.
فقد نجحت البلاد في الاختبار الحقوقي، باستقبالها كل المعنيين بحقوق الإنسان بصدر مفتوح، وبملفات تحت ضوء الشمس، قوامها الاعتراف الواضح بالاختلالات والاستعداد لمعالجتها، بالتعاون مع الجميع، ما أسفر عن "تصنيف جدي" متقدم لبلادنا في الملف الحقوقي، رغم محاولات التشويش.
وتحققت الحرب على الفساد بمنهجية جديدة ترفض أن "تكون الحرب على الفساد فسادا أن أو تستغل لتصفية الحسابات".
سرعان ما ترجمت ملاحظة المراقبين الخارجيين، الذين يقرؤون في آذان شركاء التنمية، في مواقف واضحة من قبل المؤسسات المانحة نفسها؛ فتدفقت التمويلات، وتزاحمت عروض القروض على مكاتب وزارات الاقتصاد والمالية والمياه والزراعة والطاقة..
أفصحت كل اللقاءات الدولية التي حضرها الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، عن حجم المصداقية التي أصبح "الاستثناء الموريتاني" يحظى بها لدى القوى العالمية الكبرى، وكان منظره وهو يخطب قادة العالم في لندن، وروما، والرياض، وبروكسيل، مفصحا عن حجم المكانة التي يحتلها البلد في الاستراتيجيات الدولية.
وجاءت قمة الولايات المتحدة وإفريقيا لتضع النقاط على الحروف بشأن هذه المكانة؛ فها هي "عاصمة العالم" في الاقتصاد والتكنلوجيا، والأمن، والديمقراطية وحقوق الإنسان تفتح قلبها لأول مرة بهذا الاتساع لرئيس موريتاني.
لقد ظلت الولايات المتحدة لعقود تعامل موريتانيا كبلد ذي موقع متأخر، أو غير متقدم في الاستراتيجية الأمريكية، لكن زيارة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني إلى واشنطن 2022 وحجم الحفاوة التي لقيها كشفت عن موقع، ومكانة، جديدين لبلادنا في هذه العاصمة التي تحكم الجزء الأكبر من العالم.
فلأول مرة تفتح المؤسسات الأمريكية، مالية وسياسية، بابها أمام بلادنا بدون واسطة من المؤسسات المالية العالمية، ولأول مرة يلتقي وزير الخارجية الموريتاني بكل مساعدي وزير الخارجية الأمريكي، ويلتقي بقية وزراء الوفد نظراءهم الأمريكيين.
وسيشهد الباقي من الزيارة أحاديث أخرى في الزراعة والتنمية والطاقة، وستتحدث لغة الأرقام بأن هذه زيارة صديق يتم تكريمه بجوائز القيادة، ويعول على رأيه في الملفات الشائكة في قارة المستقبل، قائد ذي مصداقية، وذي مكانة. ستضع هذه الزيارة العلاقة بين البلدين في نقطة انطلاق جديدة كليا، ومؤثرة بعمق، وحاكمة على ما بعدها .