حماية للحزب أم وصاية على القيادة ...ولد منصور وتواصل من الزعامة إلى المغاضبة

تحليل - لم تطل التهدئة بين المفكر والسياسي الإسلامي محمد جميل ولد منصور وقيادة حزبه الجديدة، وبدا أن النفس الحماسي الذي عاد به ولد منصور إلى تواصل بعد مغادرة غريمه السابق محمد محمود ولد سيدي اصطدم بممانعة من التيار المسيطر على تواصل حاليا والذي ورث كما يرى بعض مقربيه " رفض وصاية جميل على الحزب"

أما مقربو ولد منصور فيرون في الطرح الذي قدمه في بيان "أخذ المسافة من تواصل" قراءة موضوعية للسياق السياسي الذي ينبغي أن يتحرك فيه الحزب معتبرين أن الملف الوطني كان سببا دائما في النقاشات الحادة داخل حزب الإسلاميين.

ينتمي ولد منصور إلى جيل تأسيسي من أبناء الحركة الإسلامية في موريتانيا، ويعتقد أن انتمى إلى هذا التيار الفكري وهو في سنواته الأولى من الإعدادية في حدود 1978، وظل أحد الأصوات الفكرية والسياسية المهمة في التيار الذي تأسس تقريبا في السنوات الأولى من السبعينيات

لا يعرف ولد منصور مجتمعا محددا خارج التيار الإخواني.

في ثمانينات القرن المنصرم كان ولد منصور أحد العناصر الشابة التي اقتنعت بما عرف يومها باليسار الإسلامي،  المتأثر يومها بفكر علي شريعتي ووحيد الدين خان وراشد الغنوشي والحسن الترابي رحمه الله، كان اليسار الإسلامي أزمة فكرية داخل جسم الحركة الإسلامية، وقد حسمته بابتعاد أبرز عناصره عن الجماعة، باستثناء قلة من بينهم جميل ولد منصور الذي انسجم مع قيادته، وواصل نشر فكره "التجديدي" حيث سيطرت لاحقا مبادئ وآراء اليسار الإسلامي على توجهات ما بعد نكبة 1994، وذلك في سياق المتغيرات السياسية والاجتماعية ومستوى الوعي الذي عاشه أبناء وقادة الحركة الإسلامية لاحقا.

خلال عقود ما قبل تواصل، كان ولد منصور من أبرز الوجوه السياسية التي قادت حضور تيار الإخوان في حزب اتحاد القوى الديمقراطية/ عهد جديد، وفي حزب الملتقى الديمقراطي/ حمد، وتولى تنسيق مبادرة الإصلاحيين الوسطيين التي أكملت حولين سيرها إلى الترخيص فكان حزب تواصل، وتولى ولد منصور مأموريتين استمرتا عشر سنين، خاض فيهما الانتخابات مرشحا للرئاسيات لم يتمكن من تجاوز سقف 4.7% كما أدار الحزب في منعطفات متعددة، تمددا في الشعبية والمؤسسات وتنوعا في المواقف من المعارضة الناطحة إلى الموالاة الناقدة ثم مسار الثورة الشعبية التي وأدها النظام والرفض المجتمعي في مهدها، ودخل تواصل في مواجهة مفتوحة مع نظام ولد عبد العزيز

 

قائد الشباب ...وشيخ الوحدة الوطنية

عرف جميل ولد منصور بتأثيره القوي في الوعي السياسي والفكري لأجيال متعددة من الشباب الإسلامي وظل لعقود المنظر الوحيد في الفقه السياسيين للإسلاميين، أو هكذا يبدو في سياق المحاضرات والأثر الفكري المكتوب

مع بداية 2018 كان جميل الذي يصفه العارفون به أنه "كائن سياسي" لا يجد نفسه في أي حقل خارج السياسة ولا موقع خارج القيادة، يحزم أمتعته للرحيل عن قيادة تواصل، بعد استكماله مأموريتين في قيادة المسار السياسي المرخص للإخوان.

وبعد عودته مجرد عضو بمجلس الشورى للحزب، حاول جميل "أخذ مسافة " من قضايا ومواقف تواصل، حيث توجه تلقاء البحث الأكاديمي رئيسا للمركز الموريتاني للدراسات والبحوث الاستراتيجية، كما حاول إحياء مشروعه لنيل الدكتوراه في الدراسات الإسلامية، غير أن حنين الملف السياسي عاد بسرعة لسيطر على توجهات الحزب.

وصاية على القيادة أم حماية للحزب من الانحراف

تتعايش في سياق تواصل تفسيران لمواقف ولد منصور مما بعد رئاسته، فيرى كثير من قيادات الحزب أن الرئيس السابق حاول فرض وصاية فكرية وسياسية على قيادة تواصل التي تسلمها رئيسها العابد محمد محمود ولد سيدي، الذي كان حريصا هو الآخر وبشكل غير مخفي على منع أي محاولة للتدخل أو الوصاية، ساعيا لإثبات أن حقبة جميل أصبحت جزء من الماضي.

بينما يرى أنصار ولد منصور أنه ينهض بين الحين والآخر لحماية الأسس السياسية والفكرية التي أدار بها حزب تواصل، وخصوصا المرونة تجاه نظام لا يفرض الخصومة على تواصل، والنهوض بملف الوحدة الوطنية وتسوير مكتسباتها التي حققها الحزب.

وخلال خمسية ولد سيدي فرض اللوبي المسيطر على الحزب يومها تقاعدا سياسيا غير مريح على رئيسهم السابق محمد جميل ولد منصور الذي فقد كثيرا من اوراق قوته وتحالفاته، وتوجه هو الآخر إلى تعزيز علاقات خاصة ونوعية مع النظام ورئيس الجمهورية بشكل خاص، حيث يتردد بشكل متزايد أن "التواصل" بين الطرفين لا ينقطع وأن رنين الهاتف بينهما لا يطول قبل استلام المكالمة.

يعتقد ولد منصور وأنصاره أنهم بددوا صورة سلبية لدى النظام تجاه تواصل، وأنهم كانوا جزء من صناعة وعيه السياسي والتنموي تجاه الفئات المهمشة.

وخلال هذه الفترة كان ولد منصور أحد الأسانيد الإعلامية والسياسية المهمة التي اتكأ عليها النظام أو استفاد منها بجدارة في تبييض وجهه أمام الشعب ومواجهة الدعاية السياسية لما بقي من المعارضة التقليدية وللآلة الإعلامية للرئيس السابق.

 

في هذه الفترة أيضا كان جميل في مرمى نيران شباب تواصل وفتياته وقيادته، كانت التعليقات على صفحته تفوح بالغضب والتخوين، وكان بعض قادة الحزب يوجه إليه انتقادات لاذعة وطبعا لم يكن ولد منصور في وارد الصمت فكانت ردوده أيضا قارعة ومتواصلة.

مع حمادي ...فترة نقاهة غير طويلة

مع وصول الفقيه حمادي ولد سيدي المختار إلى رئاسة تواصل، عاد جميل ولد منصور إلى الظهور في قمرة القيادة، وتم تكليفه بقيادة حملة التعبئة في ولاية البراكنة التي زار مختلف مدنها قائدا لفريق سياسي، كما أشرف على صناعة بعض التحالفات الهشة فيها بين تواصل وقوى مجتمعية زنجية.

وفي العاصمة نواكشوط، كان ولد منصور من أبرز الدافعين إلى إبرام تحالف سياسي مع قطب التناوب الذي يقوده بيرام ولد أعبيدي من أجل توسيع المشترك الانتخابي بين الطرفين ومنازلة مرشحي الإنصاف.

لاحقا تم تكليف ولد منصور بالسير في طريق التفاوض مع القطب المذكور وفق ما تتداوله مصادر تواصلية قبل أن تقرر قيادة الحزب سحب التكليف وإيقاف التفاوض

في سياق متصل يتداول على نطاق واسع أن مغاضبة جميل ولد منصور كانت سببا في تأخير إعلان لوائح تواصل للنيابيات أكثر من مرة، وتعديلها قبل أن تصل إلى المعلن الذي يرى فيه أنصار القيادة الجديدة للحزب الحد الذي ينبغي أن يرضى عنه جميل وتياره السياسي والفكري، وعلى العكس من ذلك كانت ردة فعل جميل قوية وصريحة وعبر بيان عام للناس، ينتقد فيه بقوة ضمور التلوين الشرائحي في قيادة اللوائح الوطنية، قبل أن يعلن أخذ مسافة من الحزب.

ربما لم يغب عن ولد منصور وهو يعود مقتربا من تواصل أن الحلف السياسي الذي جاء بالرئيس الجديد لتواصل هو الحلف التقليدي المناوئ غالبا للتوجهات السياسية والحقوقية التي طالما عبر عنها ولد منصور، وأن "سلطة الفقهاء" الجديدة في تواصل، لا تعتمد الحواشي المنصورية في تشكيل المشهور ولا الراجح من آرائها الراهنة وتوجهاتها المستقبلية...لكن ولد منصور اقترب على كل حال، سرعان ما اتضح لجميل ولد منصور أن قربه من القيادة الجديدة لن يؤثر في توجهاتها التي تبدو تقليدية وراديكالية وفق تقويمه، وفي إطار التقارب راسل ولد منصور رئيس حزبه، ومكتبيه التنفيذي والسياسي ومقربين آخرين، مستعرضا بحصيلة رقمية الاختلالات التي أعقبت المؤتمر الرابع ومسار الترشيحات، ولم يكلف أحد من المراسلين نفسه الرد على الرجل

وفي آخر جلسة للمكتب السياسي للحزب قدم جميل مرافعته القوية تجاه ما يراه اختلالات شديدة في مسار الترشيحات، وتوعد باتخاذ موقف أكثر وضوحا إذا استمر الأمر على حاله، قبل أن يصبح الرأي العام ببيان أخذ المسافة

إلى أي حد سوف تمتد المسافة

يؤكد عارفون بولد منصور أن بيانه يعبر عن وصول حالة التذمر من مسار تواصل ما بعد المؤتمر الثالث إلى درجة عالية، غير أن عددا من القيادات التواصلية غير منشائمة بشأن المستقبل السياسي للرجل، حيث يتوقع ان تتحرك وفود الوساطة والمصالحة لإعادة المياه إلى مجاريها، خصوصا أن التجارب الانتخابية المنصرمة لتواصل والذي قاد ولد منصور جزء منها لم تكن مغرية للجميع ولا مرضية لهم، كما أن ولد منصور أيضا فرض منهجه ورؤيته خلال عشرية رئاسته، وتمكن من صناعة فريق سياسي خاص به وفرض من خلاله توجهاته وآرائه، وأبعد كثيرا من منافسيه، حيث كانت خمسيته الأخيرة سنة نزوح سياسي لأغلب القيادات التقليدية في الحزب والوجوه الناشطة المهمة مثل نوابه محمد غلام ولد الحاج الشيخ- السالك ولد سيدي محمود- شيخاني ولد بيبه- المختار ولد محمد موسى.

ومن بين أسوء الحالات التي يتوقعها قياديو تواصل أن يستمر ولد منصور في مغاضبته وأن ينتقل إلى صف النظام، وأن ينشئ كيانا سياسيا جديدا، وبغرور تواصلي عتيق يردد بعض قيادات الحزب المقولات السائدة لدى بعض أجياله الشابة بأن تواصل فكرة ولا يضرها أن يغادرها القادة أو المناضلون، حيث سيأتي غيرهم محلهم وتتواصل المسيرة، رغم أن الإجماع ينخرم بالواحد في أدبيات التواصليين

غير أن المسكوت عنه في خطاب الطرفين أن ولد منصور لم يقل كلما يدفعه إلى أخذ مسافة من تواصل، وأن تواصل سيخسر دون شك بمغادرة جميل وجها سياسيا وفكريا وقائدا ارتبطت به كثير من نجاحات الحزب حتى وإن كان الجميع قد صنعها، بل كانها ستظل جزء من الذاكرة والإنجاز في سيرة جميل ولد منصور، وبين هذا وذاك لا أحد في تواصل يتهم ولد منصور بالمغاضبة لأنه لم يرشح خصوصا أن الترشيح وصل إلى عتبة بيته، وأنه قد مرت عليه من قبل صوائف وشوات متعددة، لم يفرض فيها نفسه أحرى أن يكون من المغاضبين.