“الحقيقة المرة خير من الوهم الكاذب”
هل بما تشهده ساحتنا الثقافية من ضعف عطاء وفتور همة يتجلى بعد دور المثقف الذى قرأ التاريخ و كان لزاما أن يعتبر به و يفهم واقعه و يدرك حاضره و يتجهز للمستقبل بما علم ساعيا لإصلاحه وتغييره بكل همة حاملا شعلة الحرية والإصلاح والإيمان ؟
كل القرائن الماثلة لا تصدق حصول ذاك التوجه و لا تحمل عذر الاعتقاد به واقعا.
على الرغم من انتشار المعرفة على نطاق واسع و وفرة مفرزاتها و كثرة الحاصلين في التعليم العالي و الأكاديمي على الشهادات العالية في مُـختلف التخصصات من العلوم الإنسانية إلى التطبيقية، فإنه يُلاحظ ضعفُ الإقبال و الحضور من داخل هذه الفئات على التظاهرات العلمية و الفكرية. كما يلاحظ سرعة انصراف جل أفرادها، من قلة صبر و فتور همة و عزوف لا تخطئه العين مطلقا و تقاعسهم صفوة متعلمة، عن بذل أي جهد تنويري لتحقيق الحضور و عدم التحلي بالصبر على البقاء إلى حين التعقيب و سد الثغرات و السعي إلى تحقيق منطق النقد البناء هدفا أخيرا و مربط فرس.
حادثة صغيرة بحجمها شديدة الوقع بإيحاءاتها، شهدها المركز الثقافي المغربي و الذي هو بحق أحد أقوى فضاءات العطاء الفكري و الثقافي حيوية في نواكشوط، كشفت النقاب عن بعد ساحتنا التنويرية و فرسانها عن حماية العرين الشنقيطي الذى تكالبت عليه صروف دهر استثنائي شمولي الاحتواء و جحود أبناء موزعين بين:
• العقوق الإنتمائي و الوجداني مدفوعا بالانجراف وراء نغمة المسخ الحضاري القادم من كل الجهات،
• وبين انحسار الموروث العلمي و الفكري و الأدبي في قوالب الجمود المشتهى على وقع التغني بالأمجاد و إيقاع المحصل العلمي الذي سرعان ما يمتصه ترف “الأنا” المتضخمة و زهو الغرور المعرفي المصاب بالفتور حتى لم يسمن و لم يغن.
و أما الحادثة فقد انحسرت كلها في انصراف صفوة الحضور عند النداء لـ”صلاة المغرب” و لم يكن محاضر أمسية ذاك الفضاء الدكتور محمد الأمين ولد مولاي إبراهيم قد أكمل بعد عرضه الرصين الذي حمل عنوان “النقد الأدبي الحديث في موريتانيا، النظرية و الأدوات” و حيث كان من اللائق إن لم يكن من المفروض أن تعود و لم تفعل؛ انصراف لم تخطئه عين الباقين و قد كان وقعه بمثابة قصم لظهر الفائدة التي ما كانت لتكتمل و تؤتي ثمارها إلا بمعول ذلك الحضور و عطائه من ناحية، و ببتر مؤذ لمجهود تبليغي متكامل المحتوى قام به المحاضر تاركا ما ليس له من تعقيبات لهذا الحضور النوعي بمنطق المستوى و التخصص من ناحية أخرى.
و إذ كان موضوع المحاضرة هو الحركة النقدية في هذه البلاد من خلال روادها و ما حققت ـ في بلد يلقب بحق أو مجازا أرض المنارة و الرباط، و منبت العلم و العلماء، و وطن المليون شاعر، و “متردمهم” من كل قول يُحكم نسْجه، و سوق “عكاظهم” الذي لا يخبو فيه صوت شاعري و لا يغيب منشد صداح ـ فإن الحادث و إن نسج له من المبررات و الأعذار ما يقوى على التصديق إلا أن قبولها يظل مستحيلا عند أغلب الحضور من الذين ينشدون الفائدة من الإضافات التي كانت متوقعة و منتظرة منهم، كما أنه لم يخف بذلك التبرم غيابُ النقد الذاتي و ضعف الحرص على تأصيل سلوك “القدوة” و عادة “الصبر” على الاستماع و ثقافة التمتع بالمحاضرات و اللقاءات و كل التظاهرات الفكرية و العلمية و دعم حراك الفضاءات الثقافية الناشطة دون استسلام أو انكسار و وهن لواقع الركود و غلبة غياب الإبداع و العطاء حتى تسهم في دفع الساحة إلى أمام، قنواته تبدو مسدودة.