الذهب مقابل الحماية العسكرية.. فاغنر تستنزف مخصصات الدفاع في مالي.. وتواصل نهب المعادن الثمينة في الساحل

بات الخبر أقرب إلى القطع، وأقرب إلى الحقيقة أن يفغيني بريغوجين الأشرم  لم يعد عنصرا في المعادلة السياسية والأمنية في بلاده روسيا، وبلدان أخرى إفريقية وأوربية، فالرجل المرعب أصبح مجرد قصة إخبارية، ربما تشغل وسائل الإعلام الدولية، لعدة أيام قبل أن تطويها عواجل الأخبار وصفحات الأيام.
انتهت بهذا السقوط المؤلم 62 سنة من عمر الرجل الذي أبصر النور أول أيام يونيومن  سنة 1961 في مدينة سانت بطبرسبورغ السوفيتية يومها، كانت حياة وملامح يفغيني صورة متراكمة للأوجاع الروسية خلال عقود.
وبين الميلاد والرحيل المؤلم، استطاع بريغوجين أن يأخذ اسمه في الصفوف الأولى للقادة الأكثر دموية في تاريخ بلاد الثلج، بعد أن تحول الرجل من سخونة المطاعم التي صنعت بداية ثروته الهائلة إلى لهب الأرض المحروقة بتواطئ ظني أو قطعي من الغرب القاتل التي انتهجها في دول متعددة، مثل سوريا وليبيا وأوكرانيا ومالي.
لم يمض المارد بريغوجين لوحده، بل اصطحب معه مجموعة من كبار معاونيه، والقيادات الأكثر تأثيرا في فاغنير، لكنه ترك معضلة سياسية وأمنية، يتوقع أن تمنحه دماؤه اشتعالا ولهبا أكثر خصوصا في إفريقيا التي كانت آخر محطة ظهر فيها الزعيم المثير للجدل حيا وميتا.
فاغنير الذراع الدموي لروسيا في إفريقيا
ارتبط الحضور الروسي في إفريقيا بفاغنر، التي كانت الطليعة القوية التي نقلت حضور روسيا في القارة السمراء  الذي صنع على أعين الغرب من الأحاديث الهامشية إلى الواقع المتجذر والمتمدد على حساب القوى الدولية التقليدية في القارة، وخصوصا في فرنسا التي تتقلص دوائر نفوذها أمام الحضور العاصف لفاغنير، رغم ما بينهما من الخصوص والعموم والتنسيق في كثير من البلدان والاشتراك في الحليف الواحد بينهما.
بل تمددت طموحات الرجل أكثر ليعتبر في آخر ظهور له أن الحرب في أوكرانيا عار، وأن إفريقيا هي أرض الميعاد، معتبرا أن جنوده في إفريقيا من أجل الدفاع عن عظمة روسيا.
في منطقة أخرى كان الغيب ينسج أكفان الرجل، ليتردى بعد يومين من شاهق ليتحول إلى جثة مشوهة وركام من الأخبار المتضاربة.
ولا تمثل إفريقيا بالنسبة لفاغنر وزعيمها الراحل مجرد مسرح لنفوذ أمني وسياسي وعسكري، بل تعتبر جنة اقتصادية- ما تزال رغم النهب الغربي منذ أكثر من قرنين- غنية بالمواد الأولية، وخصوصا الذهب والمعادن النفيسة  والغاز الذي تعتبر أهم الموارد المكتشفة أخيرا في القارة.
ولم يخف على المراقبين أن إفريقيا تمثل الرهان الجديد لفاغنر بعد أن غرست روسيا أقدامها في الوحل الأوكراني، وبعد أن هبت رياح الخلاف بين بوتين وبريغوجين، يصوغ سمومها أمل الحياة، وكاد الرصاص أن يحول صداقتهما إلى بداية حرب كفيلة بأن تذيب عظمة روسيا، فتغدى القيصر بوتن بصديقه وخادمه خشية في عملية استباقسة حتى لايتعشى به.

ووفق مقال جماعي نشرته مجلة فورين أفيرز الأمريكية فإن فاغنير سترسخ وجودها في إفريقيا بعد إخفاقاتها المتواصلة في أوكرانيا، وينسب محررو المقال إلى وكالة الدفاع البريطانية الجزم بأن روسيا تبحث عن بديل لفاغنر في أوكرانيا.
ولفاغنير   في إفريقيا مراكز نفوذ قوية، أبرزها إفريقيا الوسطى وليبيا ومالي، كما أن وجودها بدأ يتعزز بقوة في الموزمبيق وفي بوركينافاسو، إضافة إلى غينيا كوناكري التي أصبحت في مرمى نيران ومطامح رجال الراحل بريغوجين
ومن بين حلفاء فاغنير الأقوياء في المنطقة يبرز اسم قائد التمرد في السوداني محمد حمدان دقلو حميدتي الذي انتقل من سارق للحيونات وفق الكثيرين، إلى طامح في فيما هو فوق الولاية ودون كرسي لحكم في  السودان، إضافة إلى الليبي المتمرد خليفة حفتر، وبالضرورة أيضا الرئيس المالي قاسيمي كويتا، الذي سلم لفاغنير أجزاء واسعة من أرضه وسمائه، وأصبحت السند الأقوى والأهم للقوات المالية المسلحة ذات التاريخ الطويل في الهزائم أمام الانفصاليين والحركات الإسلامية المسلحة.
الذهب مقابل الحماية .. 
وإلى جانب ما تحققه فاغنر في مجالات الأمن والسياسة، فإن ذراعها الاقتصادية غير قصيرة في إفريقيا، حيث أقامت قواعدها في ليبيا قرب اثنين من أهم حقول الغاز في البلاد، فيما يشبه الاستنفار للسيطرة عليهما.

رغم أن تركيا أفسدت  الحلم بعد أن سددت ضربات موجعة لخليفة حفتر المتحالف بشكل مزدوج مع فرنسا وروسيا وطردته من ضواحي مدينة طرابس إلى النصف الشرقي من ليبيا ما أفسد الأحلام التي يمكن وصفها بأنها أصبحت في عداد الأضغاث، خاصة وأن تركيا تراهن على حلفها مع ليبيا في صراعها على مناطق النفوذ فيما تسميه الوطن الأزرق، وتعتبر حكومة الوفاق المعترف بها دوليا هي بالنسبة لها  القشة التي تمسك رأس البعير إن نفرا.
أما في مالي فالوضع مختلف، ففاغنر يصدق فيها المثل: يا لَكِ مِن قُبَّرَةٍ بِمَعمَرِ* خَلا لَكِ الجَوَّ فَبيضي وَاِصفِري*قَد ذَهَبَ الصَيّادُ عَنكِ فَاِبشِري* وَنَقِّري ما شِئتِ أَن تُنَقَّري

 فإن فاغنر أصبحت سيدة نفسها في مالي، فلا فرنسا تزاحمها، ولاتركيا تقصفها بسلاحها القوي، ورغم ذلك ففاغنر تشكل عبئا ماليا على الحكومة العسكرية المالية، وفق ما يؤكده الصحفي جان ميشل بو في مقالة موسعة نشرها في وكالة دوتشفليه الألمانية.
ووفق ميشل بو فإن مالي تدفع قرابة 9 مليون أورو شهريا رواتب لمرتزقة فاغنير وقد تم ذكر المبلغ لأول مرة في سبتمبر 2021 من قبل رويترز ، ثم أكده الجنرال الأمريكي ستيفن تاونسند ، قائد أفريكوم ، القيادة الأمريكية في إفريقيا ، ومقرها ألمانيا، وهو ما يقترب من هذا من 7.000 إلى 9.000 يورو، لكل رجل
 
على مدار العام ، يمثل هذا أكثر من مائة مليون يورو، أي ضعف ميزانية وزارة العدل وما يقرب من نصف ميزانية  القطاع الصحي، وفقا لأرقام ميزانية 2023 التي نشرتها وزارة المال المالية
ربما لهذه الأسباب أعلن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بصراحة، في نهاية ديسمبر 2022، أن الأموال التي استثمرها المجلس العسكري في مالي لتقديم خدمات المرتزقة من مجموعة فاغنر الروسية ستكون "أكثر فائدة إذا دخلت حيز التطوير في الساحل"...
إن قيام فاغنر بأعمال تجارية جيدة في إفريقيا ليس سرا، في جمهورية إفريقيا الوسطى أو السودان، يتقاضى رجال يفغيني بريغوزين رواتب سخية، وبما أن ميزانية هذه الدول لا تكفي للوفاء بتعريفاتهم، فقد وضعوا أيديهم على عدد من مناجم الذهب.
لأن فاغنر يحب الشطر الأخير من الشهوات من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، لذلك ليس من قبيل المصادفة أن معظم تدخلاتها تتم في بلدان غنية بهذا المعدن النفيس.
لكن في مالي، لا تسير الأمور على ما يرام بالنسبة لمجموعة المرتزقة. في الواقع، إذا كان هذا  الأخير يكسب الكثير من المال في جمهورية أفريقيا الوسطى والسودان، فيبدو أن هذا ليس هو الحال في مالي.
المجلس العسكري لم يعد قادرا على الدفع
لم تتطور الأمور بشكل إيجابي بالنسبة لفاغنر. كان المجلس العسكري لا يزال خاضعا في ذلك الوقت للعقوبات الاقتصادية للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، ولم يستطع دفع فاتورة تسعة ملايين يورو شهريا وبدأت الدولة في الديون.

فاغنر يخسر المال.
ولكن إذا لم تكن مالي مربحة، فإن الوجود الروسي في هذا البلد له وزن سياسي يستحق بعض الميزانيات العمومية، وكبديل عن العجز فإن مناجم الذهب في مالي هي الوجهة المفضلة لمقاتلي فاغنير.
تعليق حقوق التعدين
وكما أشار معهد أبحاث السياسة الخارجية في مارس 2022، فإن "اللوائح الحكومية في مالي أكثر صرامة مما هي عليه في جمهورية أفريقيا الوسطى ولا يمكن للشركات الخاصة التحايل عليها بسهولة. وتسيطر الجماعات المسلحة على المناجم الحرفية، وخاصة تلك الموجودة في شمال مالي، مثل تنسيقية حركات أزواد، التي رفضت وصول مجموعة فاغنر".
 
باختصار: فاغنر لا تقترب من مناجم الذهب في الشمال ومالي لديها قوانين يصعب التحايل عليها.
لكن الوضع يمكن أن يتغير: حيث علقت السلطات العسكرية مؤخرا جميع حقوق التعدين في البلاد ويقال إن مراجعة للقطاع جارية. رسميا لاستعادة "التراخيص الخاملة" 
وبإلهام من نموذج أفريقيا الوسطى، أعلنت باماكو أيضا، في أغسطس 2022، عن إنشاء شركة عامة، هي شركة التنفقيب واستغلال الموارد المعدنية في مالي، بهدف زيادة عائدات التعدين في دولة مالي، وهو ما يعني إمكانية التعامل بشكل أكثر انسيابية بين حكومة كويتا ومرتزقة فاغنير
 
فاغنير ..تكاليف عالية مقابل خدمة المرتزقة
حالة بوركينا فاسو هي الأخرى مثال لاستنزاف فاغنير لميزانيات الأفارقة، حيث  يمكن حيث يسعى، النقيب إبراهيم تراوري إلى التفاوض على معدل الدفع الشهري لمرتزقة فاغنر ليظل في حدود 9.000 دولار شهريا.
 
وبين السياسة والاقتصاد والأمن، يعرفعلى  وجه التحديد، أن روسيا ستؤمم تركة مؤسس فاغنير في إفريقيا وتضع عليها اليد بشكل نهائي، كما تشير إلى ذلك معطيات متعددة،  والاحتمال الأضعفد أننا سنكون أمام طبعات مختلفة من فاغنير لكل منها شركاتها ورجالها ورهاناتها التي قد تتناقض أمام لمعان الذهب الإفريقي.

وبين هذا وذاك يرقد ماتبقى من أشلاء زعيم فاغنر الذي طارت به في الجو عنقى مغرب، فأصابها ما أصابها فاحترقت وهوت به في مكان سحيق، يكرر في مثواه الجديد، بعدأن قتله القيصركما فعل مع امرئ القيس: 

 

أَجَارَتَنَا إِنَّ الخُطُوبَ تَنُوبُ  ُوَإِنِّي مُقِيمٌ مَاأَقَامَ عَسِيب

أَجَارَتَنَا إِنَّا غَرِيبَانِ هَاهُنَا  ُوَكُلُّ غَرِيبٍ لِلغَريبِ نَسِيب.

 

 

 

 

نقلا عن موقع الفكر