أكثر من أي منطقة أخرى في العالم. وفقا للبيانات الإحصائية المتوافرة فقد شهدت القارة 224 محاولة انقلاب صريحة. كما تعرضت 45 دولة أفريقية من أصل 55 دولة لمحاولة انقلاب واحدة على الأقل، حتى عام 2022. أي أن الدولة الأفريقية الواحدة تعرضت في المتوسط لأربع محاولات انقلاب منذ حصولها على الاستقلال. ويتصدر السودان المجموعة بنحو 17 محاولة انقلابية، بما في ذلك اثنتان فقط في العام (2021).ولعل ذلك هو ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس في أكتوبر 2021 إلى الحديث عن “وباء الانقلابات” في أفريقيا. وقد ارتبطت الظاهرة الانقلابية تلك بنوعين من التحولات السياقية في المشهد الإفريقي العام، أولها التخلص من الاستعمار وتأسيس نمط من الحكم الشخصي، وثانيا موجة القدوم الثاني لأفريقيا والتحول الديموقراطي في نهاية الثمانينيات من العقد الماضي.
لا زلت أتذكر مقالة المفكر الكيني الأبرز على مزروعي والتي تفسر لنا السياق الأول لبدايات التدخل العسكري في السياسة الأفريقية. “نكروما: القيصر اللينيني” كان هذا هو العنوان المثير للمقالة التي نشرها مزروعي في أعقاب سقوط نكروما، الرئيس المؤسس لغانا بعد الاستقلال عام 1966. ظهرت المقالة في مجلة “ترانزشن “، وهي مجلة للفنون والثقافة والسياسة، ومقرها كمبالا، أوغندا. بالضرورة، أسهمت هيئة التدريس في جامعة ماكيريري، حيث كان يدرس فيها على مزروعي بدور كبير في المجلة. كان مزروعي نفسه محررًا مشاركًا في مجلة ترانزشن، مما أعطى مقالته ترويجًا غير مسبوق. لقد سبق المقال في العدد الذي ظهر فيه رسمًا توضيحيًا فخمًا وملونًا احتل غلاف المجلة بالكامل. (بشكل عام، كان غلاف المجلة باللونين الأسود والأبيض، وليس بالألوان). أظهر الرسم التوضيحي صورة لرأس نكروما في أحد طرفيه وصورة الزعيم الثوري الروسي لينين في الطرف الآخر، ويفصل بينهما قميص واحد ذو ياقات متطابقة. عندما تم قلب الرسم رأسًا على عقب، كان لينين في الأعلى ونكروما في الأسفل، وهو ما يوضح بدقة الهدف من المقال: أن نكروما، عن وعي شديد، كان نسخة أفريقية من لينين. ولعل ذلك يفسر ولو جزئيا بعض عوامل سقوط الجيل المؤسس على أيدى النخب العسكرية.
أولا: تراجع وصعود الظاهرة الانقلابية
خلال الحرب الباردة، كانت إفريقيا تخوض حروبا بالوكالة مما جعلها تعاني من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والتوترات العرقية والعنف، ومن وجود أنظمة شخصية استبدادية وفاسدة. وقد أدى ذلك كله إلى خلق حلقة مفرغة، أطلق عليها اسم “فخ الانقلابات المستوطنة”، حيث أدت العوامل الهيكلية المرتبطة بفشل النموذج التنموي إلى تغذية الانقلابات والدكتاتوريات، والعكس صحيح. ومع ذلك، جلبت نهاية الحرب الباردة موجة من التفاؤل السياسي إلى المنطقة. ويبدو أن انهيار العديد من الأنظمة الاستبدادية، وربط المساعدات الغربية بالإصلاح الديمقراطي، وانتشار الانتخابات الديمقراطية جنبا إلى جنب مع معايير “ردع الانقلاب” داخل المنظمات الدولية، وخاصة الاتحاد الأفريقي، قد أدى إلى ارتفاع تكلفة الفعل الانقلابي. وبالفعل ساهم هذا التحول في انخفاض كبير في عدد الانقلابات العسكرية خلال التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حيث كان عامي 2007 و 2018 هما العامان الأولان منذ أكثر من نصف قرن دون أي محاولات انقلاب في أفريقيا.
بيد أن هذا التراجع لم يستمر. ففي الفترة بين أغسطس 2020 وأغسطس 2023، شهدت إفريقيا 11 محاولة انقلاب ، تسع منها ناجحة في سبع دول مختلفة (أنظر جدول رقم 1). بالإضافة إلى ذلك، واجهت أربع دول أفريقية محاولات انقلاب فاشلة خلال هذه الفترة: النيجر والسودان وغينيا بيساو وساو تومي وبرينسيبي. ويشير تجدد الانقلابات إلى عودة مثيرة للقلق لظاهرة كان الكثيرون يأملون أن تصبح شيئا من الماضي، أو أثرا بعد عين. وفي حين أن أسباب هذه العودة لفخ الانقلابات متعددة الأوجه، فإنها تشمل قضايا مستمرة مثل عدم الاستقرار السياسي، وضعف النمو الاقتصادي، والتوترات العرقية، والفساد الحكومي فضلا عن دور العوامل الخارجية. وتتزامن الموجة الأخيرة من الانقلابات أيضا مع اتجاه عالمي للتراجع الديمقراطي وصعود الاستبداد. وبينما يصارع المجتمع الدولي هذه العودة غير الحميدة، فمن الأهمية بمكان معالجة القضايا الأساسية التي تجعل البلدان عرضة للانقلابات وتعزيز المعايير والعقوبات الدولية التي أثبتت فعاليتها في ردعها في الماضي. وإلا فإن التقدم الذي تم إحرازه في العقود القليلة الماضية قد يتراجع، وقد يصبح “فخ الانقلاب” مرة أخرى سمة مميزة للمشهد السياسي الأفريقي.
جدول رقم 1
الانقلابات العسكرية في إفريقيا من يناير2020 حتى أغسطس 2023
المصدر: من إعداد الباحث
ثانيا: جدلية الانقلاب الجيد والانقلاب السيء
يزعم البعض أن الانقلابات ليست كلها سواء ، ولاسيما تلك التي شهدتها القارة في الآونة الأخيرة. وعلى سبيل المثال يرى البعض أن انقلاب النقيب إبراهيم تراوري في بوركينا فاسو يعد إحياء لتقاليد السنكارية السياسية التي تؤكد على مفاهيم محاربة الوجود الفرنسي وتكريس قيم الاعتماد على الذات ورفض الديون الخارجية. وعليه فإنه انقلاب جيد يحظى بدعم شعبي مقارنة بانقلاب السودان في أكتوبر 2021 الذي دفع بالبلاد إلى حرب أهلية طاحنة. وعلى أية حال فإن فكرة “الانقلاب الجيد” هي بحد ذاتها مثيرة للجدل. لفترة طويلة، كان الأمر في الغالب سؤالًا أكاديميًا، حيث انخفض عدد الانقلابات في إفريقيا بشكل كبير بعد إعادة تبني سياسة التعددية الحزبية في أوائل التسعينيات. وقد أثار هذا التراجع التفاؤل بأن المبادئ الدولية “لردع الانقلابات”، التي تجسدت في إعلان لومي عام 2000 وموقف الاتحاد الإفريقي والهيئات الإقليمية مثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الايكواس)، من شأنها أن تؤدي إلى نهاية الأنظمة العسكرية في أفريقيا. ولكن عودة التدخلات العسكرية مؤخراً في دول وسط وغرب إفريقيا كانت سبباً في إعادة هذه المسألة إلى الواجهة من جديد.
وقد أثار الاتجاه الأخير لعودة الظاهرة الانقلابية مناقشة ثلاثة تساؤلات مهمة:
لماذا عادت الانقلابات إلى جدول الأعمال الأفريقي، وهل سنشهد عودة فخ الانقلابات؟ وهل هناك بالفعل انقلاب جيد؟
لو بدأنا بالسؤال الأخير نجد أنه لتعريف “الانقلاب الجيد”، يمكن للمرء أن ينظر إلى الوعود التي قطعها قادة الانقلاب بعد الاستيلاء على السلطة، والتي غالبا ما تشمل استعادة حكم القانون، ومحاربة الفساد والتأكيد على الوحدة الوطنية، وتعزيز البنية التحتية الوطنية والاقتصاد، والوعد باستعادة الديمقراطية في البلاد خلال مرحلة انتقالية، عادة ما تكون غير محددة عادة. ومع ذلك، يُظهر التاريخ أن الدول نادرًا ما تشهد انقلابًا واحدًا؛ وبدلا من ذلك، غالبا ما تولد الانقلابات المزيد من الانقلابات، عوضا عن تحقيق النمو الاقتصادي والديمقراطية. غالبًا ما يثبت معظم قادة الانقلاب أنهم مهتمون بمصالحهم الذاتية، وغير مسؤولين، وفاسدين، مثل الأنظمة التي أطاحوا بها.
كانت هناك حالات أطاحت فيها الانقلابات برؤساء فاسدين وحققت بعض الوعود. على سبيل المثال، عزل الرئيس هيلا ليمان على يد الملازم طيار جيري رولينجز في غانا في عام 1981، والإطاحة بالرئيس موسى تراوري الذي حكم مالي لفترة طويلة على يد المقدم أمادو توماني توري في عام 1991. ولكن حتى في هذه الحالات، ولدت الانقلابات العديد من المشاكل أكثر من العود التي تحققت. لقد أضعفت المؤسسات السياسية القائمة، وشجعت العنف السياسي، وسهلت عملية عسكرة الدولة. وفي نهاية المطاف، قوضت العمليات الديمقراطية الأساسية ومكنت القادة العسكريين السابقين من السيطرة على المشهد السياسي لعقود من الزمن، حتى بعد استبدال ملابسهم العسكرية بالملابس المدنية.
ثالثا: أسباب عودة فخ الانقلابات
في عموم الأمر، فإن أسباب الموجة الأخيرة من الانقلابات في إفريقيا متعددة الأوجه ومعقدة، وتشتمل على مجموعة من العوامل الدولية والإقليمية والمحلية. وفي حين أن هناك بعض الأدلة على عدوى الانقلابات، وتراجع المعايير المناهضة للانقلابات، وتأثير الفقر وحركات التمرد، فإن الأهمية النسبية لهذه العوامل قد تختلف من حالة إلى أخرى. إن فهم هذه الفروق الدقيقة أمر بالغ الأهمية لتطوير استراتيجيات فعالة لمنع الانقلابات المستقبلية وتعزيز الحكم المستقر والديمقراطي في المنطقة.
1) صعوبات الانتقال السياسي: يشير بعض المراقبين إلى تجدد الاضطرابات في عملية التحول الديمقراطي؛ حيث إن الديمقراطيات الناشئة التي تعاني من نقص التمويل، هي أكثر عرضة لمواجهة الانقلابات مقارنة بالديمقراطيات القديمة الراسخة. تاريخيًا، استهدفت الانقلابات في إفريقيا الأنظمة الدكتاتورية بشكل غير متناسب، حيث كانت الديمقراطيات نادرة. ولفهم سياسات الانقلابات أثناء الحرب الباردة في أفريقيا، كان من المتعين على المرء معرفة طبيعة الدولة التسلطية. ومع ذلك في أعقاب انتهاء الحرب الباردة أصبح الحكم الديمقراطي في إفريقيا أكثر شيوعا مع مرور الوقت. ومن النتائج الثانوية السلبية أن أغلبية الانقلابات في الفترة الأخيرة، وللمرة الأولى على الإطلاق، استهدفت الحكومات الديمقراطية (أو المؤقتة) وليس الأنظمة التسلطية. وباستثناء تشاد، لا تعتبر أي من الدول الأفريقية التي تعاني من انقلابات الموجة الأخيرة تسلطية راسخة. إن فهم سياسة الانقلابات الأفريقية يتطلب الآن معرفة السياسة في الديمقراطيات الوليدة. ففي الجابون، زعم الجيش أنه يقوم بالرد على تزوير الانتخابات وطموح على بونجو في الحصول على ولاية ثالثة. ومع ذلك، لا يبدو أن التراجع الديمقراطي هو العامل الرئيسي في معظم الحالات التي شهدت انقلابات مؤخرا. ولو كان الأمر كذلك، نظراً للنطاق العالمي للتراجع الديمقراطي في السنوات الأخيرة، كنا نتوقع انتشار الانقلابات على نطاق أوسع كثيراً. إن مثلها كمثل الفقر، قد تكون “مشاكل الديمقراطية” سبباً أساسياً ضرورياً، ولكنها تبدو غير كافية لتفسير أنماط الانقلابات الأخيرة.
2) الانقسامات العرقية. يشير البعض إلى مشكلة السياسات العرقية والجيوش العرقية الراسخة. وكما يشير بعض الدارسين فإن أربعة على الأقل من الدول الأفريقية السبع التي شهدت انقلابات حديثة – غينيا وغينيا بيساو والنيجر والسودان – تناضل جميعها مع إرث من الجيوش العرقية الراسخة التي تريد الحفاظ على نفوذها السياسي والمالي. بالنظر إلى علاقات القوة العرقية بشكل عام، فإن العرقية هي انقسام سياسي بارز في نحو 44 دولة أفريقية . ويمكن القول أن العرقية كانت سمة بارزة في جميع الدول التي شهدت انقلابات مؤخرا في إفريقيا باستثناء (بوركينا فاسو والجابون). ومع ذلك، لا يبدو أن المظالم العرقية قد ظهرت بشكل بارز في القائمة العامة لمظالم الانقلابيين ولم يتم ذكر العرق بشكل صريح. على سبيل المثال فإن انقلاب 2021 في غينيا قاده شخص من نفس الجماعة العرقية التي ينتمي إليها الرئيس (كان كل من دومبويا وكوندي من قبيلة مالينكي)، وبالتالي فإن انقلاب 2021 في غينيا لم يكن له تأثير ملحوظ على علاقات القوة العرقية في البلاد، ولعل الجابون تعيد نفس الحالة. إن تأثير السياسات العرقية يظهر في حالات أخرى، إن وجد. على سبيل المثال، سيطر الفريق البرهان وغيره من قادة النخبة النهرية في السودان على الحكومة الانتقالية منذ عام 2019 . ونظرا لأن القوى السودانية المؤيدة للديمقراطية تسعى إلى تعزيز المزيد من الإدماج العرقي، فمن الممكن أن يكون استخدام حق النقض ضد تقليص القوة الخاصة بنخبة الوسط النهري عاملاً محفزًا في انقلاب أكتوبر 2021.
3) يمكن تحليل الانقلابات العسكرية في إفريقيا من خلال منظور الاستعمار الجديد، وهو ما يفسر الضعف الاقتصادي والعسكري المستمر للدول الأفريقية الحديثة، مما يجعلها عرضة للتهديدات المحلية والخارجية منذ الاستقلال. ويتفاقم هذا الضعف بسبب تورط القوى الأجنبية في الانقلابات العسكرية، والاغتيالات السياسية، واعتماد العملات الاستعمارية كما في حالة الفرنك الفرنسي، مما يسلط الضوء على الطبيعة الدائمة للاستعمار الجديد. إن دعوة والتر رودني لإجراء دراسة مستفيضة للاستعمار الجديد من أجل صياغة استراتيجيات لتحرير إفريقيا والتنمية تؤكد الحاجة إلى مواصلة دراسة عودة الانقلابات العسكرية في غرب إفريقيا في هذا السياق. بالإضافة إلى ذلك، فإن الانقلابات العسكرية تمثل استمرارًا للسياسة بوسائل أخرى، خاصة في غرب إفريقيا، حيث تفضل الأنظمة الديمقراطية في كثير من الأحيان الطبقة السياسية، مما يؤدي إلى استيلاء العسكريين على السلطة بسبب الخلل في ميزان العلاقات المدنية العسكرية. وفي حين أن النخبة السياسية تنشأ عادة عن طريق الانتخابات، فمن الممكن تأسيسها أيضا من خلال الانقلابات العسكرية، حيث أن الوصول إلى الأسلحة والقوة المشروعة يمكن المؤسسة العسكرية من إقالة واستبدال رؤساء الدول. وهذا الشكل البديل من التحول السياسي، رغم أنه غير مرغوب فيه عموماً، يصبح أكثر احتمالاً عندما تنتهك الحكومات الترتيبات المؤسسية القائمة، مثل الدساتير والأنظمة القانونية التي تدعم القيادة السياسية كما يحدث عادة في مسألة الولاية الثالثة وتزوير الانتخابات (حالتي غينيا والجابون). إن التصرفات غير المسؤولة من جانب الطبقة السياسية، مثل سرقة الموارد العامة على نطاق واسع، والانقلابات الدستورية، والفشل في توفير الأمن الكافي، تخلق الظروف المواتية للانقلابات العسكرية. وبالتالي، للحد من الانقلابات في المنطقة، يجب على السياسيين في غرب إفريقيا احترام العقود الاجتماعية بجدية، والاحتراس من التصرفات غير المسؤولة، وتحويل فهمهم للقيادة السياسية للتواصل بشكل أكثر ملاءمة مع المواطنين.
ولا يزال يتعين علينا أن نرى التأثيرات الطويلة الأمد المترتبة على موجة الانقلابات الأخيرة في أفريقيا. سواء كانت هذه مجرد نقطة عابرة أو مجرد بداية لاتجاه، فلن تكشف عن نفسها إلا مع مرور الوقت. وحتى ذلك الحين، نأمل أن يساعد هذا المقال على فهم الانقلابات الأفريقية- في العصر الذي يشهد تحولات جيوسياسية واسعة النطاق- بشكل أفضل.
رابعا: الخاتمة وآفاق المستقبل
يبدو أن السيناريوهات المستقبلية للانقلابات في إفريقيا، استنادا إلى التاريخ السياسي للحركة الانقلابية منذ عام 2020، تشير إلى استمرار خطر حدوث المزيد من الانقلابات لعدة أسباب:
1) فخ الانقلابات: يشير هذا المصطلح- كما بينا- إلى أن البلدان التي شهدت انقلابات مؤخرًا تكون أكثر عرضة لخطر حدوث المزيد من الانقلابات لأن الظروف الملائمة للانقلابات، مثل عدم الاستقرار السياسي وضعف النمو الاقتصادي، غالبًا ما تتفاقم بسبب الانقلابات. ورغم أن الانقلابات الأخيرة لا تعني نهاية للديمقراطية في غرب إفريقيا ومنطقة الساحل، فإنها تكشف عن مشكلة متنامية تهدد تماسك المنطقة بالكامل إذا تركت دون علاج. إن مستقبل الانقلابات في إفريقيا يعتمد على معالجة هذه الظروف. ويتعين على المجتمع الدولي أن يضع الجهات الفاعلة الإقليمية على رأس جهود الاستجابة وأن يعمل مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الايكواس) والاتحاد الإفريقي لإيجاد وتنفيذ أشكال نفوذ أكثر فعالية من العقوبات التي فرضت مثلا على مالي وغينيا والنيجر بسبب انتكاساتهما الديمقراطية. ويجب على الوسطاء أيضًا تشجيع المجالس العسكرية على تعزيز الحوارات الوطنية الشاملة مع الجمهور لإقامة شراكات عمل مع المجتمعات التي يحكمونها. ستسمح الحوارات الوطنية للمواطنين والجيش بالتعاون في إجراء انتخابات جديدة تخضع للمواعيد النهائية والجداول الزمنية. وأي شيء أقل من ذلك من شأنه أن يشعل من جديد نفس السخط الذي أطاح بالحكومات السابقة، وبالتالي تبدأ الدورة من جديد.
2) التحديات الديموغرافية والاقتصادية: العديد من البلدان الإفريقية فقيرة بالمعايير العالمية، ولها تاريخ حديث من التحول إلى الديمقراطية أو التراجع الديمقراطي، وتواجه تحديات ديموغرافية مثل الطفرة الشبابية التي تولد المظالم الاقتصادية والاجتماعية. ومن الواضح تمامًا أن تصاعد الغضب الشعبي ضد الوجود الفرنسي ولاسيما بين صفوف الشباب في المناطق الحضرية قد أسهم في إضفاء الطابع الشرعي على النظم العسكرية في غرب إفريقيا.
3) استمرار حركات التمرد: من المرجح أن يستمر ضعف الحكومة في مواجهة حركات التمرد المستمرة، كما رأينا في مالي وبوركينا فاسو، في منطقة الساحل. برر المقدم بول هنري داميبا من بوركينا فاسو انقلاب يناير 2022 من خلال الاستشهاد بفشل الرئيس المخلوع روك كابوري في احتواء العنف المسلح، وتسليط الضوء على تزايد انعدام الأمن باعتباره ضعفًا رئيسيًا للنظام. وبالمثل، كانت انعدام الأمن العميق، وضعف القيادة، والفساد من العوامل الرئيسية في إطاحة العقيد عاصمي غويتا بالقادة الماليين في عام 2020.
4)غياب الرادع الخارجي للانقلابات: يبدو أن هناك اتجاهًا عامًا لدى الجهات الخارجية بعدم الاستعداد أو عدم القدرة على فرض عقوبات باهظة التكلفة على صانعي الانقلابات قد تكون فعالة في ردعهم. لقد كانت الولايات المتحدة مترددة في فرض عقوبات على أنظمة ما بعد الانقلاب في البلدان التي لديها شراكات أمنية مثل حالة النيجر والجابون، كما تنسحب فرنسا من المنطقة. وفي الوقت نفسه، قد تعمل القوى الصاعدة في النظام الدولي مثل روسيا والصين برعاية الانقلابات وتقديم الدعم لأنظمة ما بعد الانقلاب. ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى الفيتو الروسي لتجنب تجديد العقوبات الدولية على مالي منذ عام 2017. ومن جهة أخرى أشار جبرين إبراهيم إلى أن فشل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا في الرد على “الانقلابات الدستورية”، أي تمديد فترات الرئاسة من قبل الرؤساء الحاليين، والتزوير الانتخابي الهائل قد أدى إلى تغذية الانقلابات في غرب إفريقيا. والواقع أن الزعماء السياسيين مثل مامادو تانجا من النيجر، وألفا كوندي من غينيا، وعلى بونغو من الجابون، أُجبروا جميعًا على ترك مناصبهم الرئاسية من قبل المؤسسة العسكرية، بعد تعديل دساتير بلدانهم أو تزوير الانتخابات ليخدموا أكثر من فترتين في المنصب.
ولذلك فإن السيناريوهات المستقبلية تشمل أربع اتجاهات:
الأول: استمرار تصاعد الانقلابات: من الممكن أن تستمر دورة الانقلابات، خاصة في الدول التي شهدت انقلابات مؤخرًا أو التي تتمتع بظروف مواتية للانقلابات. ويشير “فخ الانقلاب” إلى أن الانقلاب الواحد غالبا ما يؤدي إلى المزيد من الانقلابات، مما يخلق حلقة مفرغة يصعب كسرها.
الثاني: زيادة نفوذ القوى الصاعدة في النظام الدولي والتي تسعى لإقامة نظام متعدد الأقطاب: مع تردد القوى الغربية مثل الولايات المتحدة وفرنسا في التدخل أو الانسحاب من المنطقة، قد تزيد القوى الدولية الأخرى مثل روسيا والصين من نفوذها من خلال رعاية الانقلابات ودعم أنظمة ما بعد الانقلاب.
الثالث: استمرار عدم الاستقرار في منطقة الساحل: يمكن لمنطقة الساحل، التي تتعامل بالفعل مع حركات التمرد، أن تشهد استمرار عدم الاستقرار وربما المزيد من الانقلابات بينما تكافح الحكومات لمواجهة هذه التحديات.
الرابع: احتمالات تحقيق اختراقات ديمقراطية: على الرغم من التوقعات القاتمة، هناك دائما احتمال لتحقيق اختراقات ديمقراطية، وخاصة في البلدان التي توجد فيها معارضة مدنية قوية للحكم العسكري. ومع ذلك، فإن الاتجاه الأخير للانقلابات يجعل الديمقراطية احتمالا بعيد المنال.
في الختام، في حين أن هناك العديد من العوامل التي تشير إلى استمرار خطر الانقلابات في إفريقيا، فإن النتيجة الفعلية ستعتمد على مجموعة متنوعة من العوامل، بما في ذلك تصرفات الجهات الفاعلة المحلية والدولية. ويبقى أن نرى ما إذا كانت الطفرة الأخيرة في الانقلابات مجرد هوجة مؤقتة أم بداية لاتجاه طويل الأمد تغذيه عمليات التحول في المشهد الجيوستراتيجي العالمي.
أ. د. حمدي عبدالرحمن حسن / أكاديمي مصري
المصدر: مجلة قراءات إفريقية