في هذه المقالة الخامسة سأتحدث عن اتفاقيات الفرنسيين مع مجموعتين كانت لهما أدوار بارزة في تاريخ هذه البلاد، سوف أتطرق لاتفاقيات الفرنسيين مع قبيلة إدابلحسن ودلالات ذلك بخصوص مناطق الترارزة والبراكنة وغورغول؛ حيث لم يقتصر ذلك التأثير الحسني على منطقة الترارزة فحسب بل تجاوزه إلى مناطق أخرى. كما سأتحدث عن اتفاقيات الفرنسيين مع مجموعة أولاد بالسباع وكيف تميزت هذه المجموعة عن غيرها بإدراك أبنائها المبكر لضرورة اكتساب اللغات الأوروبية وأهمية ذلك في المجال التجاري وخلق ثقة بين الأطراف المتعاونة. كما سأختم في المقالة السادسة والأخيرة هذه المقالة باتفاقيتين وقعهما الفرنسيون مع من مجموعتي إدكباچه وأولاد خليفة والسياق الذي جرت فيه تلك الاتفاقيات.
وقد ذكرت سابقا أنه مما لا شك أن هنالك الكثيرَ من الاتفاقيات الخاصة بهذه المجموعات مما لم ينشر ولم أطلع عليه، وأعتقد أيضا أن هناك غيرها من المجموعات ممن وقع الأوروبيون معه اتفاقيات ولم نعثر عليها بعد. ونرجو أن يتم الكشف عن كل تلك النصوص الباقية مع المجموعات المذكورة ومع غيرها، وأن ترى كلها النور، حتى نتمكن من وضع اليد على معلومات ستفيد دون شك المهتم بتاريخ وثقافة هذه البلاد.
مجموعة إدابلحسن.. ريادة متجذرة وسيادة متأصلة
بين أيدينا اتفاقية من الاتفاقيات التي وقعها الفرنسيون مع بعض الزعامات المحلية، وقد قعها رئيس مجموعة إدابلحسن حبيب الله بن جاجا مع الفرنسيين بتاريخ 20 أبريل 1842م، ومن المعلوم أن فرنسا قد وقعت مع مجموعة إدابلحسن معاهدات عديدة وأبرمت معها اتفاقيات تعود إلى نهايات القرن السابع عشر، وظلت تجددها حتى نهايات القرن التاسع عشر. وحبيب الله هذا هو ابن جاجا بن المصطفى (أجفغ المصطف) بن العالم بن محم بن اختيره الحسني. وفي بيته تسلسلت رئاسة الحسنيين؛ إذ كان جده السيد الفاضل والقائد الجليل العالم بن محم بن اختيره أول من عقد تلك الاتفاقيات مع الأوروبيين، وتركها كلمة باقية في عقبه، وقد ذكر ذلك الشاعر المجيد أحمدُ بن عبد الله الملقب الشويعر الحسني الفاضلي وهو من أبناء أبي الفاضل الحسنيين عندما مدح حبيب الله بن جاجا المذكور في هذه الاتفاقية، يقول الشويعر الحسني:
الخفراء الشم من بني الحسن ۞ خذهم أبيت اللعن في نظم حسن
أول من قام بأمر السفُن ۞ وانقادت الروم له في رسَن
العالم الندب الرضي نعم الفرط ۞ بمثله صرف الزمان ما غلط
ثم الخليفة ابنه محمدُ ۞ أثرت به جيرانه والوفد
ثم حبيب الله ذو الخلال ۞ أكرم به من ماجد مفضال
والمصطفى تاليهم في الملك ۞ فيا لها من درر في سلك
ثم ابنه محمدٌ ذو التاجِ ۞ مضاعف الراتب والخراج
ثم أخوه صنوه وجاجا ۞ المرخصان ما غلا وراجا
ثم الفتى كل الفتى المختار ۞ أتت عليه ملِكًا أعصار
ثم ابن نجل عمه الممجدُ ۞ إلف الندى والمكرمات أحمدُ
فهؤلاء أمرهم قد انقضى ۞ جادت على أجداثهم سُحب الرضي
ثم انتهى الملك الى المفضال ۞ أعني حبيب الله خير وال
واسطة العقد وحِلية النَّدِي ۞ ذو المنن الغُر البوادي العُوَّدِ
كأنما في وجهه مصباح ۞ وفي اليمين عارض سَحَّاح
من بعد ما أربى على العشرينا ۞ أبقاه ربي ملكا تسعينا
دائنةً به طغاةُ الروم ۞ ديانة الخدم للمخدوم
وقد ذكر الشويعر الحسني في هذا النص تسعة أعلام من أولاد اختيره ومن أهل العالم بشكل خاص، وهو ما يعني ثلاثة أجيال متتالية، أي ما يناهز ثلاثة قرون تقريبا تولى خلالها هؤلاء رئاسة هذه المجموعة، وأشرفوا على التجارة النهرية بين الموريتانيين والفرنسيين، وهي مدة طويلة مكنت هذه المجموعة من تولي منشط هام من مناشط الحياة التجارية والاقتصادية في البلاد.
تتكون هذه الاتفاقية من مقدمة وثلاثة مواد، وقد جاء في المقدمة أسماء الموقعين الثلاثة من الجانب الفرنسي وهم الإداري كايْ الوالي الفرنسي العام بالسنغال وبيير كافروز شارك كاربور، وبيير آندري، والأخيران من التجار الفرنسيين بسان لويس المعروفين بأولاد اندر. ومن الجانب الموريتاني حبيب الله بن جاجا الحسني. كما جاء في المقدمة أن الاتفاقية ستكون طبق الأصل من اتفاقية العالم بن محم بن اختيره وهي أول اتفاقية بين الفرنسيين وبين إدابلحسن.
وتنص المادة الأولى على ما يتقاضاه حبيب الله من قماش مقابل كل كمية من الصمغ العربي يتم تبادلها بين الفرنسيين والجانب الموريتاني.
كما تنص المادة الثانية على الأغراض (غير القماش) التي ستقاضاها حبيب الله أو ما يسمى شكتومه، وما يقابلها من كمية من الصمغ العربي.
بينما تنص المادة الثالثة على ما سيوفره الفرنسيون من ضيافة لحبيب الله ومن طعام أثناء الموسم أو يوفرونه لمن يعينه مكانه عند تغيبه. كما أن استقضاء حبيب الله للفرنسيين سيتم تحديد تواريخه، وإجراءات احتساب الإكراميات تتم وقف كميات الصمغ التي سيتم بيعها بإشرافه. وسيمنح حبيب الله مقدما من الإكرامية عند افتتاح كل موسم بيع للصمغ العربي، وهذا المقدم عبارة عن مائة بيصة من النيلة.
ومن الواضح أن هذه الاتفاقية الموقعة في 20 إبريل 1842 ليست سوى إعادة صياغة لاتفاقيات سابقة بين إدابلحسن وبين الفرنسيين، وأنه يتم تغيير اسم شيخ القبيلة عند كل تجديد للاتفاقية، أو عند كل تحسين في بعض الأحيان من بنود الاتفاقية، لكنها تبقى على العموم هي نفسها.
لم يقتصر الدور الريادي الذي اطلعت به مجموعة إدابلحسن على منطقة الترارزة بل شمل أجزاء واسعة من منطقتي البراكنة وغورغول، فقد ذكر الجنرال الفرنسي فيديرب في تقديمة الدقيق وديباجته المميزة لكتاب جول آنسيل (Jules Ancelle) استكشافات السنغال والدول المجاورة أن "مجموعة إدابلحسن كانت وافرة العدد وكانت تمارس التجارة بمهارة، وكان زعيمها العالم يتقاضى الإكراميات في مرسى الدويرة. كما ذكر أن مجموعة أدابلحسن هي أول من مارس تجارة الصمغ العربي في منطقة البراكنة، تماما كما كان إدوالحاج أول من مارسها في منطقة الترارزة".
ثم ذكر الجنرال فيديرب أن دور إدابلحسن لم يقتصر على بطون هذه القبيلة فحسب بل إن إحدى عشر مجموعة قبلية من أبرز القبائل الموريتانية وأكثرها تأثيرا وأوسعها انتشارا كانت تنظم تجارتها بواسطة إدابلحسن، وتنسق مصالحها عن طريقهم، وترد إلى مرسى الدويرة لتتعامل مع الفرنسيين بواسطة العالم بن محم بن اختيره وأبنائه وأحفاده، وهذه المجموعات هي:
إديجبه، وأولاد أبييري، وتاگنيت، وإدوغزينبو، وتندغة، والزاغوره، وتاگاط، واتْمَدَّكْ، ولمتونه، وإدغَنْيَه، وأهل الحاج الغربي.
ونظرا لكون شيخ مجموعة إدابلحسن لا يمثل مجموعته فقط بل يتكلم باسم هذه المجموعات القبلية العديدة المنتشرة في فضاءات الترارزة والبراكنة وغورغول كما هو منصوص عليه في تقرير الجنرال فيديرب فلنا أن نتصور الإكرامية الكبيرة التي ستقاضاها هذا الشيخ والعائد الكبير الذي سيحصل عليه مقابل الكميات الهائلة التي سيتم تبادلها بين الفرنسيين وبين القبائل المذكورة. ولذلك فإن هذا الدور الريادي الي قام به شيوخ مجموعة إدابلحسن طيلة ثلاثة قرون قد مكن هذه المجموعة التحكم في العملية التجارية بشكل واسع، وجعلها تضبط حركة البضائع، وتوسع من مصالحها وتتحكم في المنافع التي تغطي فضاء واسعا ويستفيد منها كثير من السكان.
ومن خلال نص الجنرال فيديرب نفهم أن مجال نفوذ إدابلحسن كان واسعا جدا، وأن تأثيرهم وريادتهم كانا أهم بكثير من سواهم، وأن العديد من أبرز المجموعات في الترارزة وفي البراكنة وفي غورغول كانت تنسق تجارتها مع الفرنسيين عن طريق إدابلحسن، وهو ما يدل على المكانة والتمكن والثقة والتآلف. وأن ما كان يحظى به العالم بن محم بن اختيره وبنوه وأحفاده طيلة ثلاثة قرون يشبه ما كان يحظى به الأمير بكار بن اسويد أحمد من ثقة مجموعات كثيرة في تگانت والرگيبه والحوضين كما رأينا في مقالنا عن إمارة إدوعيش.
وهذا الريادة المتميزة والسيادة الواسعة أمر يسهل فهمه إذا ما نظرنا إلى التأثير العلمي والإشعاع الثقافي الذي ميز مجموعة إدابلحسن عن غيرها، بل جعلها سباقة في مجال العلم ونشره، وجعل دورها في هذه المناطق وفي غيرها أمرا ملحوظا وسيرة محمودة ونهجا متبعا. ومن نافلة القول إن محظرة إدابلحسن كانت أم المحاظر في الترارزة والبراكنة وإنيشيري وتيرس، وكانت المنبع الذي سقى تلك الروافد، والظل الذي غطى تلك الأصقاع، وأن أسانيد شيوخ تلك المناطق تعود كلها إلى المحظرة الحسنية الأم. ذلك أن الفاضل بن أبي الفاضل الحسني الفاضلي المتوفي سنة (1112هـ أي 1700م)، الشهير بشيخ الشيوخ الحسني وهو من أولاد بوالفاللي الآخذ عن علي الأجهوري المصري المتوفى سنة 1066هـ، كان شيخا للعديد من الشيوخ الموريتانيين ممن نشروا الفقه في أصقاع كثيرة. فقد أخذ عن شيخ الشيوخ الحسني الفقيه أحمدُ بابَه بن الحاج الإديجبي (توفي سنة 1136هـ/4-1723م) وهو جد حبيب الله بن القاضي وابنه محمد محمود (توفي 1277هـ أي 1860م) شيخا محظرة الكحلاء والصفراء بالبراكنة والتي تخرج منها العلماء المؤلفون والشيوخ المشهورون والطلاب النابهون. كما أخذ عن شيخ الشيوخ الحسني أيضا مسكه بن بارك الله بن أحمد بزيد الشمشوي اليعقوبي (المتوفى في حدود 1137هـ/5-1724م)) ومنه تفرع الكثير من محاظر تيرس بفقهائها وشعرائها وطلبتها. وأخذ أيضا عن شيخ الشيوخ الحسني كذلك القاضي بن اعلي امُّمُّو السباعي وهو شيخ أشفغ الخطاط عمر الملقب آبّيهْ والمتوفى سنة 1196هـ/ 1781-2م، وهو صاحب التأثير العلمي الواسع في إينشيري، والذي أخذ عنه محمد بن محمد سالم المجلسي (توفي سنة 1196هـ/ 1781-2م) صاحب أشهر محظرة فقيهة شنقيطية وهي محظرة أهل محمد سالم ومن أبرز خريجيها الكثر وطلابها النابهين الأفذاد يحظيه بن الودود الجكني نسبا والگناني وطنا وخؤولة (توفي 1359هـ/ 1940-1م)، كما أخذ عن أشفغ الخطاط حمدي بن المختار بن الطالب أجود الشريف وهو شيخ وخال الفقيه الجليل وقاضي قضاة إمارة الترارزة محنض باب بن اعبيد الديماني (توفي 1277هـ/ 1860م) صاحب المحظرة المشهورة والتآليف المفيدة الرائدة. كما أخذ عن شيخ الشيوخ الحسني كذلك ألفغ سيدي أحمد بن محم بن القاضي العلوي وهو جد بيوت العلم العلوية حيث محاظر ومدارس أهل بدي وأهل فتى وأهل الحاج وأهل محمودي وغير وغير. وقد أخذ عن شيح الشيوخ الحسني من عشيره الأقربين بابه نحمود الحسني الآشي وقد تسلسل في ذريته العلم والشعر وهو جد الشاعر المفلق محمد فال بن عينينا الشهير المتوفى سنة 1356هـ، كما أخذ عنه محنض بن أحمد بن كنتَه من إدوكتشلل (المتعلقون بالله) ومن ذريته شيخ المحظرة الجليل محمدُّو بن أمي وغيره. وهذه المعطيات الغاية في الأهمية والمتعلقة بالأسانيد الفقهية الموريتانية المتصلة بشيخ الشيوخ الحسني مصدرها وثيقة في مكتبة أهل الشيخ القاضي بالبراكنة ومنقولة من خط الفقيه الجليل والعالم المدرس أحمد محمود بن يدَّادَّه الحسني الآشي المتوفي سنة 1382هـ/ 1963م.
ونظير المدرسة الحسنية في تأثيرها الواسع وتمدد فروعها المدرسة الحاجية في ودان؛ حيث كانت مدرسة سيدي أحمد بن أيدَّ القاسم الحاجي الوداني توفي قبل سنة 1086هـ أم المحاظر ومنطلق الأسانيد الفقهية في آدرار وتگانت والرگيبه والحوضين. فشيخ الشيوخ الحسني وتأثيره في محاظر الترارزة والبراكنة وغورغول وإينشيري وتيرس هو نفسه تأثير سيدي أحمد بن أيده القاسم الحاجي آدرار وتگانت والرگيبه والحوضين.
وهذا ما يفسر الريادة والسيادة التي حظيت بها المجموعة الحسنية خلال القرون الثلاثة التي تعامل فيها الأوروبيون مع الموريتانيين، والتي كانت أسرة أهل العالم بن محم بن اختيرة واسطة عقدها وحامل ولوائها.
مجموعة أولاد بالسباع.. الفهم الحصيف لمتطلبات العصر
بخصوص مجموعة أولاد بالسباع فبين أيدينا اتفاقية وقعها محمد بن أعمر السباعي مع أرنو دو سان جيرمان، الوالي الفرنسي بالسنغال وملحقاتها بسان لويس (اندر)، في 7 نوفمبر 1831م. وهذا الزعيم السباعي الذي وقع هذه الاتفاقية هو محمد بن أعمر بن مينحنا بن بوبكر السباعي، وقد كان رئيسا قويا ذا علاقات واسعة، وبيته بيت الزعامة في العبيدات من أولاد بالسباع. ويذكر المختار بن حامدٌ أن بيته -أهل بوبكرالسباعي- كانت لهم وساطة بين امراء الترارزه والشراكات الاوربية وكان لهم جزء من الإتاوات.
وقد كان محمد بن أعمر، موقع هذه الوثيقة، مهيمنا على الشواطئ الأطلسية الموريتانية مدبرا للعلاقات المحلية مع الأوروبيين عبر المحيط؛ لذلك نجد الاتفاقية تنص في أحد بنودها على التزام الطرف الموريتاني أي محمد بن أعمر السباعي على أن يقوم بنجدة وحماية الأوروبيين الذين يغرقون قرب الشواطئ التي يسكنها محمد، وتوصيلهم إلى سان لويس أو جزيرة غوري، وألا يسمح بنهبهم.
ولمحمد بن أعمر هذا خمسة أولاد منهم: محمد سالم الذي كان سيدا هماما ممدحا أخذ بثأر أبيه لما قتله بنو عموته بممالأة من أمير الترارزة محمد الحبيب. وله أخ اختطفه بحارة من الإنجليز ثم رجع وقد تمهر في اللغة الانجليزية. ومحمد سالم تمهر هو الآخر في اللغة الفرنسية، وكان سنة 1861 مترجما من الدرجة الرابعة بمحكمة سان لويس "اندر" كما ورد في "دليل السنغال وملحقاته" (Annuaire du Sénégal et Dépendances) الصادر عن الإدارة الفرنسية بالسنغال.
ومن هنا فإن محمد سالم وأخاه ابني محمد بن أعمر بن مِينَّحْنَ كانوا من الموريتانيين القلائل إن لم نقل النوادر الذين يتقنون اللغتين الفرنسية والإنجليزية في أواسط القرن التاسع عشر. وهذه ميزة جليلة وخصوصية نادرة لا نجدها إلا عند أفراد من أولاد بالسباع، وهو ما كان له دور هام -في نظري- في تذليل كثير من العقبات مع الأوربيين، وفي فهم طرق التعامل معهم.
ونشير هنا إلى سباعي آخر في القرن التاسع عشر كان نادرة وقته في الذكاء والمهارة في السياسة وإبرام العلاقات وإتقان اللغة الفرنسية وهو أخيارهم بن المختار بن سيدي بن عبد الوهاب السباعي الدميسي، وزير أمراء الترارزة وسليل وزرائهم، قد ذهب إلى باريس سنة 1853 وهو ابن عشرين سنة لتعلم اللغة الفرنسية. وقضى سنة بفرنسا، وربما يكون بذلك أول طالب موريتاني يذهب إلى أوروبا، وذلك في عهد الامبراطور نابوليون الثالث. وقد حضر أخيارهم دخول نابليون الثالث باريس وهو قادم من حرب القرم بشرق أوروبا، وظل يتذكر تلك الاستعراضات العسكرية الضاربة في الفخامة كما يقول فريرجان في كتابه عن موريتانيا.
وكما كان أخيارهم يتحدث اللغة الفرنسية بطلاقة فقد مر بعد إقامته بباريس بمدينة ليفربول بأنكلترا وأقام بها برهة، وفيها أخذ بعض مبادئ اللغة الإنجليزية. وكان أخيارهم مستشارا مقربا لسبعة من أمراء الترارزة، أربعة من أبناء محمد الحبيب وثلاثة من أحفاده وهم: الأمراء سيدي وأحمد سالم واعلي وأعمر سالم بنو محمد الحبيب.
والأمراء محمد فال بن سيدي وأحمد سالم بن اعلي وأحمد سالم بن إبراهيم السالم. وكان أبوه المختار بن سيدي السباعي مستشارا مقربا من أعمر بن المختار ومن ابنه الأمير محمد الحبيب. وبهذا تكون هذه الأسرة السباعية قد ساهمت في تقوية إمارة الترارزة أثناء مفاوضاتها التجارية مع الفرنسيين، وجعل الجانب الموريتاني مدركا لجميع التفاصيل وليس بحاجة إلى مترجم أجنبي في الغالب يكون سنغاليا ينقل كلام الفرنسيين بالولفية ومن الولفية ينقله بعض الموريتانيين الحاضرين إلى الأمير بالحسانية، فتمر المعلومة المترجمة بأكثر من نظام لغوي وتفقد بذلك كثيرا من حقيقتها. ولذلك كان لهذه الأسرة السباعية، بحكم إتقان أفرادها للغات الأوروبية، الفضل في تجنب الكثير من عوائق التفاهم مع الأوروبيين، بل وتحسين فرص التفاوض، وما يعنيه ذلك من فوائد للجانب الموريتاني.
فإتقان بعض أفراد أسرة أهل مِينَّحْنَ وأهل عبد الوهاب السباعيتين للغات الأجنبية في النصف الأول من القرن التاسع عشر أمر سابق لأوانه في التاريخ الموريتاني، ويدل على وعي أصيل وفهم متحضر لوسائل العصر، فلولا إتقان هؤلاء للغات الأوروبية لما استفاد الموريتانيون من فرص تجارية هامة، ولما استوعبوا جانبا من رهانات التعامل مع الأوروبيين.
ومن المفيد أن نشير إلى أن مكانة أسرتي أهل بوبكر وأهل بدَّه الهامة وتأثيرهم البالغ على الشواطئ الأطلسية الموريتانية جعل الفرنسيين حريصين على توقيع اتفاقيات معهم، خصوصا وأن الإدارة الفرنسية في سان لويس في القرن التاسع عشر ظل غرق سفينة لاميدوز وجنوحها قرب الشواطئ الموريتانية في 2 يوليو 1816م حاضرا في أذهانهم. وسأتعرض لجنوح هذه السفينة وكون الرسام الفرنسي الشهير تيودور جيريكو والمشهور بلوحته الذائعة الصيت "طوافة الميدوز" (Le Radeau de La Méduse) كان قد رسم لوحة رائعة لأمير الترارزة أعمر بن المختار لموقفه الشهم من بعض الركاب الفرنسيين الناجين من الغرق لما التجؤوا إلى محصر الترارزة سنة بعيد جنوح السفينة.
خاتمة
من خلال هذا التقديم حاولت استنطاق الوثيقتين الخاصتين بإدابلحسن وأولاد بالسباع والتي تم توقيعها مع الفرنسيين في النصف الأول القرن التاسع عشر، وهي وثائق تمثل جزءا من كل، وهي ما تم نشره حتى الآن.
وهذه النصوص تشكل جانبا هاما من تاريخ هذه البلاد وتوضح كيف أدارت هذه المجموعات جوانب هامة من المناشط التجارية والاقتصادية، واستطاعت أن من خلال تلك الإدارة وذلك التدبير أن تساهم بفعالية في جوانب من حياة المجتمع الموريتاني الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.