المعارضة الديمقراطية بموريتانيا والإنعاش المكلف . تجارب ومحطات تاريخية (*)

ليس الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني؛ أول رئيس موريتاني يتبرع لوجه الله، بتقديم تسهيلات وفرص، لابقاء أحزاب المعارضة التقليدية علي قيد الحياة، وقد لايكون الأخير، فى ظل واقع لايريد أصحابه قبول حكم الشارع، ولايمتلكون من مقومات الحياة والإستمرارية، أكثر مما تجود به الفرص الممنوحة من أصحاب القرار، وأقدار الرجال المنشغلين بتدبير الحكم والصراع عليه.

 

 

كانت بداية التسعينات أولي مراحل لملمة الشتات المعارض، بعد أن تلقت كل الحركات السياسية التقليدية نصيبها من القمع والاختراق والتفكيك، ومالت أعناق قادتها وجيلها الصاعد إلى السلطة والثروة، بعد تجربة قصيرة لم يكتب لها النجاح، بفعل إجهاز الحرب والجيش والفساد الداخلي علي نظام سلم أصحابه زمام الأمور لمن كانوا بالأمس يدبجون فيه قصائد الشتم ، ويضربون به نثرا وشعرا الأمثال السائرة عبر أرجاء الوطن ، كلما حدث أحدهم قومه عن الظلم والقمع والفساد والزبونية وسحق الطبقات الهشة، وممارسة التعذيب.

كانت تجربة الميثاقيين مطلع سبعينيات القرن المنصرم ، طعما ألتقطته القوي السائرة فى طريق الإصلاح، ومنهجا تحاول كل مجموعة أن تستفيد منه، رغم مرارة الواقع الذى آلت إليه أم الحركات السياسية بموريتانيا (الإنقسام والتشرذم ونكوص القادة عن المبادئ الثورية، والتوزع بين يسار موالي وآخر معارض، وقائد يسوس الجماهير وآخر يذبح أحلامها دون أن يتخلي عن ورده الثورى، أو يقبل الخروج من دائرة الطرح الإشتراكي، مهما تضخمت ثروته، أو يكفر بقيم الثورة وحقوق العمال، ولو كانت رواتبه وأعطياته تدفع بشكل شهري من خزائن رئيس أرباب العمل).

لقد كانت تجربة "حزب اتحاد القوى الديمقراطية" 1991 بقيادة الرمز مسعود ولد بلخير مصدر إلهام لكل المعارضين الحالمين بتغيير النظام وفرض الديمقراطية والوصول للسلطة عبر صناديق الإقتراع، بعد أن أقر الدستور وسمح بتأسيس الأحزاب والصحف، وتراجع مد الإنقلابات العسكرية، بعد محاولات فاشلة وأخري كادت أن تطيح بالتماسك الداخلي للأمة الموريتانية.

غير أن التماسك الداخلي للنعارضة لم يعمر طويلا، فقد أنفجر الحزب، وتاقت أعناق الرجال لدور ما خارج سلطة الحزب ورئيسه الخارج للتو من حكومة الرئيس معاوية ولد الطايع.

لقد حسم المرحوم حمدي ولد مكناس ورفيقه محمدن ولد باباه أمرهما بالرحيل عن الحزب الذى أختار لاحقا زعيم المعارضة أحمد ولد داداه لقيادة الأطراف المتصارعة داخل التولفة السياسية، مستفيدا من تجربة شقيقه (18 سنة فى قيادة الجمهورية)؛ ونتيجته المميزة فى الإنتخابات الرئاسية (32%) .

أسس الرجلان حزبهما الخاص، قبل أن ترثه ابنة وزير الخارجية الراحل وزيرة الصحة الحالية الناه حمدي مكناس، بينما قرر بعض قيادات اليسار الخروج من دائرة المعارضة إلى فضاء السلطة والحزب الجمهوري علي وجه التحديد (محمد سالم ولد مرزوك وبباه ولد أحمد يوره)، وهنا كانت الوزارة فى انتظار الأول والتأثير والنفوذ فى انتظار الثاني.

كانت نهاية التسعينات فرصة سانحة للمعارضة من أجل إعطاء نموذج غير مسبوق فى تقسيم المقسم وتمزيق الممزق، فأختلف الرفاق (حمدي وباباه) وذهب الأول بالحزب إلى السلطة وعاد الآخر برفاقه إلى المعارضة واتحادها المهدد بالإنهيار، وأختلف الرفيقان (أحمد ومسعود) وبات لكل منهما حزبه وجمهوره (العمل من أجل التغيير وحزب اتحاد قوي الديمقراطية / عهد جديد)، وتنازع الرفيقان (أحمد ولد داداه ومحمد ولد مولود) علي قيادة الحزب وذهب كل منهما بجزء من الجمهور مع الاحتفاظ بالإسم (اتحاد القوي الديمقراطية / عهد جديد)، قبل أن تقرر السلطة حل الحزب بعد أحداث العاصمة الإقتصادية نواذيبو.

تراجع المد المعارض، وتقزم حضور المعارضين داخل مؤسسات الجمهورية، بفعل ضعف التمثيل فى البرلمان والغياب عن الدوائر التنفيذية بحكم حصار الرئيس معاوية ولد الطايع لكل مناوئيه.

وفى سنة 2001 رق الرئيس لخصومه، أو أجبرته الظروف الخارجية والمد الإسلامي الصاعد على فتح الأبواب أمامها، فكان قرار النسبية، وهو ما أثمر دخول زعماء المعارضة للبرلمان، وفتح المسار السياسي من جديد، بعدما كادت أبوابه تغلق فى وجه الجميع.

كادت المعارضة أن تخرج عن الحد المسموح لها به، بعدما أخذت العاصمة انواكشوط بجدارة، وواجه المرحوم ديدي ولد بونعامه أزمة فى تسيير مجلس حضري، لايمتلك فيه الحزب الجمهوري أكثر من 15 مستشار من أصل 39، بينما كان الوافد الجديد للحزب الجمهوري مدير الديوان لوليد ولد وداد يحاول لملمة شتات حزبه، بعدما أستلم مقاليده من سلفه المطاح به محمد يحظيه ولد المختار الحسن.

عادت المعارضة إلى الصراع القوي مع السلطة، ومع الأيام تقزم دورها، وضعفت شوكتها، وتقلص حضورها لصالح جماعات جديدة؛ الفرسان فى الخارج والإسلاميون فى الداخل.

غير أن شفقة الحكم كانت لها بالمرصاد ليلة أطيح بالعقيد معاوية ولد الطايع،حيث مد قادة الجيش والأمن اليد لأحزاب المعارضة التقليدية من أجل كسب الشرعية السياسية، وحاصروا خصمها الصاعد فى الساحة المحلية (التيار الإسلامي ) حيث منعوه الحق فى الوجود القانوني، وفككوا عن سبق وإصرار وترصد كتبة الفرسان العائد بعض قادتها من المنفي وكتلتها الصلبة الخارجة للتو من السجون الموريتانية.

أخذت أحزاب المعارضة مكانتها داخل الساحة، وقال قائلهم لن نغلب بعد اليوم من قلة، لقد حصل المرشح أحمد ولد داداه علي دعم واضح من بعض أعضاء المجلس العسكري الحاكم، وأختلف الآخرون حول الشخصية المطلوب دعمها من كتلة عسكرية قالت ذات يوم إنها لن ترشح لقيادة البلاد، وإن أعضائها مجرد رسل خير، ينشرون الديمقراطية ويحرسون أصوات الشعب، قبل أن يفرضوا بقوة النفوذ والمال والتهديد ما تكشف لاحقا أنه مرشح المجلس العسكري، الوزير السابق سيدي ولد الشيخ عبد الله عليه رحمة الله، والذى بات أول رئيس مدني يصل السلطة من خارج السلطة، بينما تبخر حلم المعارضة إلي الأبد، وأكتفى مرشحها الموحد أحمد ولد داداه بنسبة 48% فى جولة الإعادة، قبل أن يتدحرج لاحقا إلى مركز لم يتوقعه أكثر المتشائمين فى صفوف حزبه 13% فى الإنتخابات الموالية2009 ، بينما كان عدد من رفاقه فى معسكر الجبهة الداعمة للرئيس مسعود ولد بلخير، قبل أن تجمعهما الأقدار فى حلف واحد 2019، مع نسبة كانت كافية لقتل أي أمل فى الحضور أو التغيير 2%.

مد الرئيس الجديد يد التعاون للطيف المعارض، فأسند قيادة البرلمان للرئيس مسعود ولد بلخير، وضم أحزاب قوي التقدم وتواصل إلى حكومته الثانية، ورحل من الحكم دون أن يكمل ستتين فى القصر، وعادت الأحزاب المعارضة إلى موقع الرفض وميدان التظاهر، بإستثناء تكتل القوي الديمقراطية الذى حاول الجمع بين موقع قيادة المعارضة (زعامة مؤسسة المعارضة) والشراكة فى السلطة (أربعة وزراء فى الحكومة) فى خلطة لم تقنع رئيس المجلس الأعلي للدولة ساعتها محمد ولد عبد العزيز بالتخلي عن طموحه تحت ضغط الخارج والشارع، ليعلن ترشحه للرئاسة وهو يحمل نياشين الجيش على بزته العسكرية، وتحرسه كتيبة الحرس الرئاسي، ويدير حكومة الإنقلاب بكل أعضائها دون تمييز بين موالي تقليدي للمخزن، أو معارض سابق لحكم الجيش، أختار دون تردد هذه المرة التموقع تحت سلطة الجيش وفك الإرتباط مع الحزب الذى كان ينتمي ذات يوم إليه.

عادت المعارضة التقليدية إلى خطابها، وعاد النظام إلى مسار التحجيم والتقزيم، فعزل مسعود ولد بلخير فعليا من تسيير البرلمان، بفعل حضور نائبه العقيد العربي ولد جدين، وحوصر حزب التكتل فى الشارع وداخل المؤسسات، وتوالت الإستقالات والإنشقاقات بين صفوفه، بعدما كانت فتاوي البعض بحرمة التصويت لغيره حديث الساعة، وكانت أجندة رئيسه مشحونة بالوفود الراغبة فى مباركة التوجه الجديد.

كانت نتائج المعارضة التقليدية 2009 و2018 جد متوقعة بفعل تراجع الأحزاب التقليدية داخل الساحة المحلية، واشتداد قبضة السلطة على الحياة السياسية وبزوغ أطراف جديدة (حركات شبابية وقوي قبلية وفئوية) ، وهو تراجع أثار غضب الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز فى ليلة مؤتمره الشهير (15 سبتمبر 2018) والذى كرسه للهجوم على *الإسلاميين المتشددين* وانتقاد تعامل الشعب مع المعارضة التقليدية، مستغربا كيف أختار الجمهور المعارض التصويت لأحد الأحزاب المتطرفة حسب توصيفه عن قوى مشهود لها بالوطنية والنضال والسلمية، ومعربا فى الوقت ذاته عن أسفه العميق لما آل إليه واقع التكتل وقوي التقدم والتحالف الشعبي ، أو من أسماهم بالمعارضة الوطنية، والتي حاول - حسب قوله- أن تظل موجودة خلال فترة حكمه، لأنها ضرورة ديمقراطية وحاجة وطنية، لكن قدر الله وماشاء فعل.!

ومع نهاية حكم الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز خف طموح المعارضة، وأكتفي بعضها بحضور رمزي داخل الساحة المحلية عبر دعم شخصية من خارج الأطراف السياسية المعارضة (الإسلاميون وأنصار ولد بوعماتو) ، بينما أختار زعيم المعارضة السابق أحمد ولد داداه تجنب الإحراج للمرة الرابعة، مقدما الدعم المعنوي لرفيقه محمد ولد مولود الذى أختار أن يجرب حظه فى الترشح للرئاسة، وهو قرار وصفته رفيقته ذات يوم النائب مالك جلو بأنه انتحار سياسي ليس إلا.

غير أن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني - وهو يصل السلطة دون دعم أي حزب معارض- أختار هو الآخر تلافي المشهد الداخلي، وضخ روح جديدة فى الأحزاب السياسية المعارضة، فكان الحضور الطاغي لرموزها فى حفل الإستقلال 2019 ، وفى مهرجان المدن القديمة شتقيط خلال نفس العام، ومن بين أبرز رموزها داخل الجمعية الوطنية شكلت لجان التحقيق داخل البرلمان، وفتح الإعلام علي مصراعيه أمام رموزها. وكانت أيواب القصر مشرعة أمام قادتها للتشاور والحوار وتبادل الرأي وأشياء أخري..

لكن كل مساعي الرئيس الحالى محمد ولد الشيخ الغزوانى الرمية إلى التمكين لبغض أحزاب المعارضة أو إبقائها علي قيد الحياة علي الأصح، من خلال منحها طوق نجاة بعد عقود من الحصار والعلاقة الفاترة بدوائر صنع القرار لم تشفع لها عند الشارع الموريتاني، ولم تمنحها فى صناديق الإقتراع مايضمن لها الحصول على نائب داخل البرلمان أو عمدة داخل المدن احدي المدن الكبيرة أو مستشار بلدي في الريف.. إنه حكم الشعب غير القابل للطعن .. فهل سيشكل الميثاق الجمهوري آخر درجات الإستئناف؟ رغم أن البعض صنفه بمثابة " الطعن لصالح القانون" بعدما أستنفدت كل المحاولات الرامية إلى الإبقاء على جزء من تاريخ البلد المعاصر، ضمن دائرة التداول والتأثير...

 

سيد أحمد ولد باب / مدير موقع زهرة شنقيط