كملة إنصاف في حق عيد المولد النبوي الشريف/ الحسين بن محنض

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على نبيه الكريم

يعترض بعض أهل العلم والفضل ممن لا نشك في حرصهم على الخير واتباع السنة على عيد المولد النبوي الشريف بقولهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحتفل به، ولا فعل ذلك الصحابة، ولا التابعون أو الأتباع من بعده، ولو كان عملا صالحا لسبقونا إليه، وبأنه بدعة ابتدعها الشيعة العبيديون، وبأن السنة المشروعة الوحيدة في هذا اليوم هي الصوم تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يصوم يوم الاثنين ويقول: ((هو يوم ولدت فيه))، وبأن تسمية ذكرى مولده بالعيد لا تجوز، فلا عيد للمسلمين إلا الفطر والأضحى، وبأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يولد في الثاني عشر ربيع الأول بل توفي في هذا التاريخ، فالمحتفل به في هذا التاريخ محتفل بوفاته صلى الله عليه وسلم لا بمولده..
والواقع أن هذه الأقوال -وإن صدر بعضها من بعض كبار أهل العلم والفضل- إما مرجوحة، أو خارج محل مناط بناء الأحكام، أو شبهات، أو مموهات لا تمنع من الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف، ولا من تسميته عيدا حسب ما قرره جمهور علماء الإسلام، وأئمته الأعلام المرجوع إليهم في تقرير الحلال والحرام.
فأما قولهم بأن الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف من مبتدعات الشيعةالعبيديين، فليس لهم فيه إلا روايات تاريخية هنا وهناك لم تحط في هذا العيد بأمر حاسم، حيث إنها لم تثبت أنهم لم يسبقوا إليه في العهود والدول الإسلامية السنية التي سبقتهم أو عاصرتهم، ولكنها تحدثت عن احتفالهم به في دولتهم، مع أنه إن ثبت أنهم لم يسبقوا إليه لا يضره، لأن العبرة بطبيعة الفعل لا بطبيعة الفاعل، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء لأنه يوم نجى الله تعالى فيه موسى، لم يمنعه من صيامه أن اليهود كانوا يصومونه، بل قال: نحن أحق منهم بموسى، فكذلك أهل السنة أحق بالرسول صلى الله عليه وسلم من الشيعة العبيديين، مع أن الذي فعله العبيديون من ذلك انتهى بانتهائهم واندثر باندثارهم، ولم يزل الأمر كذلك حتى أظهره السلطان السني مظفر الدين زوج أخت السلطان صلاح الدين الأيوبي صاحب إربل، وكان أحد السلاطين النادرين الموصوفين بالورع والعلم والصلاح، وصفه ابن كثير بذلك فقال عنه إنه "كان إماما عالما عادلا بطلا عاقلا"،وقال عنه ابن سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان إنه"كان زاهدا، لباسه إذا ترك سرير الملك وعاد إلى بيته، قميص من كرباس غليظ لا يساوي خمسة دراهم"،ووافقه على إظهاره والاحتفال به أئمة الإسلام في زمانه، فحرروا حكمه وبينوا مشروعيته في مؤلفات مشهورة منها مؤلف الحافظ ابن دحية "التنوير في مولد البشير النذير"، كما نقل ابن كثير، وابن خلكان، وابن سبط ابن الجوزي، والسيوطي، وغيرهم، فالطعن في عيد المولد بالقول بأنه بدعة عبيدية إذًا طعن في غير محل.
وأما قولهم إن ولادة النبي صلى الله عليه وسلم في الثاني عشر من ربيع الأول أمر لم يثبت بينما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم توفى في هذا التاريخ، فالمحتفل بالثاني عشر من ربيع الأول محتفل بوفاته صلى الله عليه وسلم لا بولادته فقول غير صحيح، لأن الثبوت الذي نقلوه في تاريخ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الثاني عشر ربيع الأول لا وجود له، بل من المؤكد أنه صلى الله عليه وسلم لم يتوف في الثاني عشر ربيع الأول إطلاقا، لأن العلماء اتفقوا على أنه صلى الله عليه وسلم وقف يوم الجمعة الموافق للتاسع من ذي الحجة، وتوفى يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري:"فمهما فرضت الشهور الثلاثة محرم وصفر وربيع الأول توامَّ أو نواقص، أو بعضها، لم يصح"، أي لم يصح أن يكون يوم الاثنين الذي توفى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم موافقا للثاني عشر من ربيع الأول.نقل ابن حجر العسقلاني ذلك عن السهيلي،كما نقله غيره، وحرره جمع كبير من العلماء فوجدوه كذلك، كما بين ابن حجر في الفتح، بل الأصح في تاريخ وفاته صلى الله عليه وسلم أنه يوم الاثنين الموافق للثاني من ربيع الأول، قال ابن حجر:"وكأن سبب غلط غيره أنهم قالوا مات في ثاني شهر ربيع الأول، فتغيرت لفظة ثاني شهر إلى ثاني عشر، واستمر الوهم بذلك، يتبع بعضهم بعضا من غير تأمل".
وهذا القول الذي صحح ابن حجر ووافق ترجيح السهيلي وغيره كأبي مخنف والسمهودي وسواهم مطابق لما في الحديث الحسن من أنه صلى الله عليه وسلم "عاش بعد نزول ءاية ((اليوم أكملت لكم دينكم)) واحدا وثمانين يوما"، فواحد وثمانون يوما من الجمعة تسعة ذي الحجة توافق الاثنين اثنين ربيع الأول، ولا يصح بحال من الأحوال أن تمتد إلى اثني عشر ربيع الأول، فثبت بذلك أنه لم يتوف في الثاني عشر من ربيع الأول كما قالوا.
أما مولده صلى الله عليه وسلم فالتحقيق فيه أنه كان يوم الاثنين تسعة ربيع الأول كما رجحه الحافظ ابن عبد البر، وجمع وافر من العلماء، وأثبته الفلكي الشهير محمود باشا المصري الذي حسب القهقرى من يوم الأربعاء منسلخ شوال سنة عشر للهجرة، وهو يوم كسوف الشمس الذي مات فيه إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم إلى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، فوافق الاثنين عشرين إبريل تسعة ربيع الأول،الذي رجحه الحافظ ابن عبد البر وعدد من العلماء المحققين.
والأصل في اشتهار الثاني عشر من ربيع الأول كيوم لمولده صلى الله عليه وسلم دون غيره أن الملك المظفر لما أظهر عادة الاحتفال بالمولد، صار يحتفل به عاما في التاسع من ربيع الأول، وعاما في الثاني عشر منه، رعيا للقولين، فلما تطاول الزمان رأى العلماء أن يجمعوا الناس على الثاني عشر من ربيع الأول، لأن الولادة فيه متحققة على القولين معا، فيتحد بذلك العيد على جميع الأقوال.
وأما قولهم إن تسمية ذكرى المولد عيدا لاتجوز لقوله صلى الله عليه وسلم:((إن الله شرع لكم عيدين عيد الفطر وعيد الأضحى))، ومن زاد عيدا ثالثا فقد زاد في الشرع ما لم يأذن به الله، فهو أقرب إلى كلام من لا أهلية له في العلم أو فاته تأمل النص، لأن قوله صلى الله عليه وسلم:((إن الله شرع لكم عيدين)) ليس من صيغ الحصر حتى يحرم به الاحتفال بعيد ثالث، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقصر لفظ العيد على يومي الأضحى والفطر،فجعل الجمعة عيدا،وجعل أحد أيام منى عيدا، كما ورد في إحدى روايات البخاري في قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ((دعهما فإن اليوم يوم عيد))، ولهذا قال المحققون:ليس في اتخاذ المسلمين لهم أعيادا أخرى -من قبيل ما نرى اليوم من أعياد مختلفة كأعياد الاستقلال والثورة والتحرير وغيرها- من بأس إذا كان لهم في ذلك مصلحة دينية أو دنيوية.
وهذا العيد، أي عيد المولد، ظهر للمسلمين فيه من المنافع والمصالح أكثر مما ظهر في الأعياد الأخرى التي لم يحرمها العلماء، فمن هذه المنافع تجديد الصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأيام، واستشعار محبته وتعظيمه،والقيام بما يجب في حقه من إشهار مناقبه، والإكثار من الصلاة عليه، وإظهار الشكر لله تعالى في مثل هذا اليوم الذي كرم الله فيه هذه الأمة بمولده، وقد سمعت شيخنا العلامة الورع الزاهد الحجة محنض بابه بن امين حفظه الله تعالى يقول ما معناه:"إن عيد المولد كان يمكن قبل أن يصير عادة معروفة من عوائد المسلمين أن يكون محل اجتهاد ونظر من طرف العلماء، ولكن لما صار عادة متبعة منطوية على قصد تعظيمه صلى الله عليه وسلم وتوقيره، وإظهار محبته، صار عدم النهي عنه أولى من النهي عنه، لأن النهي عنه أصبح كالمشعر بالنهي عن توقيره صلى الله عليه وسلم، أو عن تعظيمه ومحبته، وفي ذلك من المفاسد ما لا يخفى".
وقد سلك شيخنا محنض بابه هنا مسلكا فقهيا دقيق الوجه، بعيد الغور، كأنه ينبه إلى أن الاعتبار الشرعي لعيد المولد لا ينبغي أن يقتصر على إحداثه وما ينطوي عليه من المصالح، بل يجب أن يعتبر فيه أيضا النهي عنه وما يترتب عليه من المفاسد، لأن الفرار مما قد يؤول إلى الانتقاص من حرمة النبي صلى الله عليه وسلم أوجب بكثير من النهي عن بدعة الاحتفال بعيد المولد على فرض أنه بدعة.
ومثل هذا النظر الفقهي الدقيق لا يصل إليه إلا أجلة الفقهاء، فهو شبيه بنظر الإمام ابن عرفة الذي سئل عن بدعة ذكر السلاطين في الخطبة بالدعاء، فقال:"إن أصل وضعها في الخطبة من حيث ذاته مرجوح، لأنها مما لم يشهد الشرع باعتبار حسنه، ولكنها لما أحدثت واستمرت في أقطار الأرض، صار عدم فعلها موجبا لتشوش السلاطين، واعتقادهم في الخطيب ما لا تحمد عقباه، فصار ذكر السلاطين في الخطبة بذلك راجحا أو واجبا".
وأما قولهم بأن السنة في تخليد المولد هي بصيامه لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الاثنين، ويقول: ((هو يوم ولدت فيه))، فهو قياس لا يصح، لأن العيد أحيانا يكون يوم الثلاثاء، وأحيانا يكون يوم الأربعاء، وهكذا إلى تمام أيام الأسبوع، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما صام يوم الاثنين وحده، ولم يتحر أبدا ذكرى مولده ليخلدها بالصيام، بل عكس قياسهم هذا أصوب، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفطر يوم الاثنين إذا وافق أحد أيام العيد، وفي ذلك إرشاد إلى أن مشروعية العيد أقوى من مشروعية الصيام، ولهذا قال جل فقهاء الأمصار المعتبرين بمنع صوم يوم عيد المولد ولو وافق يوم الاثنين قياسا على الأضحى والفطر. وهذا الملمح مما يرشد إلى أن تخليد المولد أظهر في إلحاقه بالعيد الذي يتزين فيه ويطعم فيه الطعام منه بالصيام المخصوص بالاثنين. قال الحطاب: "قال ابن عباد في رسائله الكبرى: وأما المولد فالذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين،وموسم من مواسمهم، وكل ما يفعل فيه مما يقتضي وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك، من إيقاد الشمع، وإمتاع البصر والسمع، والتزين بلبس فاخر الثياب، وركوب فاره الدواب، أمر مباح لا ينكر على أحد، قياسا على غيره من أوقات الفرح. والحكم بكون هذه الأشياء بدعة في هذا الوقت الذي ظهر فيه سر الوجود، وارتفع فيه علم الشهود وانقشع فيه ظلام الكفر والجحود، أو ادعاء أن هذا الزمان ليس من المواسم المشروعة لأهل الإيمان، ومقارنة ذلك بأعياد النيروز والمهرجان، أمر مستثقل تشمئز منه القلوب السليمة، وتدفعه الآراء المستقيمة، ولقد كنت في ما خلا من الزمان خرجت في يوم المولد إلى ساحل البحر فاتفق أن وجدت هناك سيدي الحاج ابن عاشر رحمه الله وجماعة من أصحابه قد أخرج بعضهم طعاما ليأكلوه هنالك، فلما قدموه لذلك أرادوا مني مشاركتهم في الأكل، وكنت إذ ذاك صائما، فقلت لهم: إنني صائم، فنظر إلي سيدي الحاج نظرة منكرة، وقال لي ما معناه إن هذا اليوم يوم فرح سرور، يستقبح في مثله الصيام بمنزلة يوم العيد، فتأملت كلامه فوجدته حقا، وكأنني كنت نائما فأيقظني".ونقل الرهوني-كما نقل الحطاب- عن زروق في شرح القرطبية كراهة صيام يوم المولد عمن صح علمه وورعه، وقال:"إنه من أعياد المسلمين فينبغي أن لا يصام فيه، وكان شيخنا أبو عبد الله القوري يذكر ذلك كثيرا ويستحسنه".
وأما قولهم بأنه عيد مذموم لكونه من البدع التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))، وقال عنها: ((وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار))، فغير صحيح، لأن العلماء نصوا على أن حديث ((وكل بدعة ضلالة)) عام خصصته أحاديث أخرى كحديث: ((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء))، وحديث: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا))، كما بينه النووي في شرحه لمسلم، والعيني في شرحه للبخاري، والزرقاني في شرحه للموطأ، كما نصوا على أن الأمر المحدث المعني بحديث: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) لا بد أن يكون مما لو اعتبر الشرع لم يكن له فيه أصل.
وهذا بخلاف عيد المولد فقد اعتبر عدد كبير من العلماء الثقات المؤتمنين على الدين الشرع فوجدوا له فيه أصولا متعددة، فمنهم من رده إلى أصل من السنة كما فعل الحافظ ابن حجر العسقلاني الذي رده إلى حديث صيام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وقوله عن اليهود: ((نحن أحق بموسى منهم))، ثم دأب على تخليده بصيامه كل عام، وهو حديث صحيح مشهور، قال ابن حجر بأنه يستفاد منه التخيلد السنوي شكرا لله على جلب نعمة أو دفع نقمة، والشكر لا يقتصر على الصيام بل يحصل بالإطعام وسائر العبادات. كما خلده -أي عاشوراء- رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا بالإطعام والتوسعة على العيال، وأحاديثه في ذلك صحيحة، صححها الأئمة، وألف في تصحيحها الحافظ العراقي رسالة حافلة رد فيها على شيخ الإسلام ابن تيمية الذي ضعفها.
وخرج الحافظ السيوطي عيد المولد على أصل ثان من السنة رواه وصححه، وهو حديث "أنه صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعدما كبر".
وخرجه بعض العلماء على أصل ثالث من السنة وهو قوله صلى الله عليه وسلم في سبب تفضيل يوم الجمعة واتخاذه عيدا: ((هو يوم خلق الله فيه آدم)). قال:"ومفهوم الحديث تفضيل الاثنين على الجمعة، وجواز أن يتخذ عيدا كما اتخذت الجمعة عيدا، لأن الله تعالى خلق فيه محمدا صلى الله عليه وسلم وهو أفضل بالإجماع من آدم".
وخرجه بعض العلماء على أصل رابع من السنة، وهو الحديث الذي رواه الهيثمي في مجمع الزوائد وصححه، ونقله ابن حجر في الفتح ولم يضعفه وهو أن جبريل مر بالرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بموضع وأمره أن يصلي فيه ركعتين ثم قال له:((أتدري أين صليت؟ قال: لا، قال: صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى))،فإنه يستفاد منه تخصيص آثار الأنبياء ببعض القربات.
وخرجه بعض العلماء على أصل قرءاني هو قوله تعالى: ((فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون))، حيث عده من التعزير المأمور به.
وخرجه بعضهم على أصل قرآني ثان هو قوله تعالى: ((ورفعنا لك ذكرك))، فجعله مما يؤدي الى رفع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم واشتهار دعوته.
وخرجه بعضهم على أصل قرآني ثالث هو قوله تعالى:((قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا)) فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرحمة المأمور بالفرح بها لقوله تعالى:((وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)).
وخرجه بعضهم على أصل قرءاني رابع هو قوله تعالى: ((خذ العفو وأمر بالعرف)).
واتفق الجم الغفير من العلماء الأفاضل الذين لا يحصون عددا ولا يوازنون بالآحاد الأفاضل الذين خالفوهم من أئمة العلم في المذاهب الأربعة على أن أصول الشرع قرآنا وسنة تشهد لاعتباره من القربات المحمودة والسنن الحسنة، وهم حفاظ الشريعة وسدنتها.
وأما قولهم: كيف يكون عيد المولد من القربات المحمودة والسنن الحسنة، وهو لم يكن من عمل السلف الصالح في القرون المزكاة، ولو كان خيرا لسبقوا إليه، فجوابه أنه ما كل ما وقع من القربات والسنن المحمودة وقع في القرون المزكاة، بل لم تزل القربات والسنن المحمودة تستجد منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، فلو كان هذا القول صحيحا لم يستجد شيء من سنن الخير بعد السلف الصالح، بل لم يستجد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يأت بعده من هو أحق منه بالعمل الصالح، ولا بعد الصحابة، فإنهم خير القرون بالنص والإجماع، فلا يجوز لو صح هذا القول أن يسبقهم التابعون إلى عمل صالح لم يفعلوه، ولا أن يسبق تابعو التابعين الصحابة والتابعين إلى عمل خير لم يعملوه، ولا الأئمة والخلف من بعدهم، وهكذا.. في حين يشهد الواقع أن من القربات والسنن ما استجد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن منها ما سبق إليه بعض السلف الصالح بعضا، ومنها ما سبق إليه الخلف السلف، ولكل منهم أجره الذي فرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في حديثه الصحيح ((من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سنة سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)).
فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه جمع القرءان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عمر رضي الله عنه يراجعه في ذلك ويقول له:"كيف تفعل أمرا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وأبو بكر يجيبه:"هو والله خير"، وأين أبو بكر في الفضل من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا عمر جمع الناس على صلاة التراويح مع أن سلفه أبا بكر الذي هو أفضل منه لم يفعل ذلك، ثم قال:"نعمت البدعة"، وهذا عثمان زاد أذانا ثانيا للجمعة لم يزده أبو بكر ولا عمر، وهما أفضل منه، وهذا عمر بن عبد العزيز أمر الزهري بجمع السنة وتدوينها، مع أن من سبقه من السلف (أي الصحابة) لم يفعلوا ذلك وهم أفضل منه، وسك عبد الملك بن مروان النقود الإسلامية، وأنشأ ابنه الوليد المآذن في المساجد، ثم أضيفت إليها المحاريب، وشكل الحجاج بن يوسف المصحف ونقطه، وحزب القرءان، وسلم العلماء كل هذا مع أن السلف قبلهم لم يفعلوه وعدوه من السنن المحمودة التي يثاب فاعلها، ولم يردوها بحجة أن من سبقهم من الصحابة والتابعين لم يفعلوها ولو كان خيرا لسبقوهم إليه، وأصلت الأصول، وفرعت الفروع، وأنشئت المدراس، والربط، والمستشفيات، وعد كل هذا من السنن المحمودة لا من البدع بحجة أن السلف الصالح أو السابق منه لم يفعلها. وكنت ليلة -قبل سنوات عشر أو أكثر- مع العلامة المتبحر الشيخ اباه بن عبد الله حفظه الله تعالى في بلدته النباغية، فتطرق الحديث إلى هذا الموضوع، فكان مما استظهر به مخالفة الإمام مالك رحمه الله تعالى من سبقه من السلف الصالح إلى ترك ركوب الدواب، وترك الانتعال في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسنه التطهر والتطيب لمجلس حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ينكر عليه أحد من أقرانه من أهل العلم ذلك، ولا احتجوا عليه بأنه لو كان خيرا لسبقه إليه من سبقه من السلف، بل اعتبروا ما فعله سنة محمودة يثاب فاعلها.
وفي عصرنا هذا أضيفت مكبرات الصوت للمساجد، وأنشئت إذاعات القرءان، وأسست الجمعيات الخيرية، والبنوك الإسلامية، واستحدثت المخيمات الصيفية، والليالي التربوية، واستحدث التشكيل والخروج والمقام في المساجد، وسلم العلماء المحققون كل ذلك لأن الشرع شهد باعتبار حسنه.
وكهذه السنن المحمودة بل هو في مقدمتها عيد المولد، فإن العلماء اعتبروه لما ظهر، الاعتبار الشرعي، فاتفق أكثر فقهاء المصار الإسلامية وهم بالآلاف أو بعشرات الآلاف، إلا آحادا منهم على استحسانه، وتواتروا على أن أصول الشرع تشهد لاعتباره من السنن المحمودة الحسنة، وألفوا في ذلك التواليف، كما فعل حافظ عصره أبو دحية الكلبي في كتابه "التنوير في مولد السراج المنير"وابن كثير الحنبلي في رسالته "مولد النبي صلى الله عليه وسلم" والإمام السيوطي في رسالته "حسن المقصد في عمل المولد"، وأفتوا بسنيته كما فعل الحافظ ابن الجزري شيخ القراء صاحب النشر في القراءات العشر، والحافظ العراقي صاحب ألفية الحديث، وتلميذه الحافظ ابن حجر العسقلاني صاحب فتح الباري، وقاضي القضاة ابن حجر الهيثمي صاحب الفتاوى الحديثية، والحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي محدث البلاد الشامية، والإمام الملا علي قاري صاحب شرح المشكاة، وأثنوا عليه كما فعل الإمام أبو شامة شيخ الإمام النووي بقوله: "ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولده صلى الله عليه وسلم من الصدقات والمعروف، وإظهار الزينة والسرور، فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء مشعر بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه في قلب فاعل ذلك".
وكما فعل الإمام القسطلاني شارح البخاري الذي قال: "ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده صلى الله عليه وسلم، ويعملون الولائم.." إلى أن يقول: "فرحم الله امرءا اتخذ ليالي شهر مولده صلى الله عليه وسلم أعيادا".
وكما فعل الحافظ السخاوي القائل: "إن عمل المولد حدث بعد القرون الثلاثة، ثم لا زال أهل الإسلام من سائر الأقطار والمدن الكبار يعملون المولد، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويعتنون بقراءة مولده، ويظهر عليهم من بركاته فضل عميم".
ولم يخالف هؤلاء الأجلاء في هذا الحكم المؤسس على قواعد الشرع المتينة إلا علماء قلائل كالإمام الفاكهاني من المالكية ولم يسلم له ذلك، مع أن غالبية مبنى كلامه دائر على ذم بعض المظاهر المحرمة التي لو خالطت عيدا سواه كعيد الفطر أو عيد الأضحى لبقيت على حالها من الذم، وكابن الحاج في كتابه المدخل، وعليش في فتاويه وأساس كلامهما أيضا متعلق بالمظاهر المحرمة التي قد تخالط الاحتفالات أيام العيد.
وممن خالفهم شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية الحنبلي، ومخالفته لهم في هذه المسالة لم تبلغ حد سد الباب أمامها كلية، بل قال في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم: "فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم، لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم".
فبان من كل هذا أنه لا حرج في الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف، ولا في تسميته عيدا، لكن لا نقول بأنه عيد منصوص على غرار عيد الفطر أو عيد الأضحى، بل عيد حسن مشروع شهد الشرع لاعتباره، وقرره أكثر أئمة الإسلام الأعلام.
الحسين بن محنض