إسرائيل ومنابع النيل .. المطامع تتجدّد

شابت العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل والدول الأفريقية مراحل من الشدّ والجَذب. في ستينات القرن الماضي كانت لإسرائيل علاقات مع قلّة من الدول الأفريقية أبرزها أثيوبيا وجنوب أفريقيا، لكن هذه العلاقات تأثّرت بإرهاصات عدوان عام 1967 حيث قطعت غينيا وتشاد وأوغندا والكونغو علاقاتها مع إسرائيل،

 ثم قطعت باقي الدول الأفريقية علاقاتها معها عَقِب حرب تشرين/ أكتوبر 1973 وإن ظلّ بعضها على علاقات اقتصادية وعسكرية مع إسرائيل مثل الكونغو والكاميرون وأثيوبيا.

تحسّنت العلاقات بين إسرائيل والدول الأفريقية بشكل تصاعدي منذ توقيع اتفاقّية السلام بين مصر وإسرائيل أواخر سبعينات القرن الماضي، ثم تطوّرت أكثر بعد عقد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 وظلّ المنحى يتصاعد حتى بات عدد الدول الأفريقية التي أعادت علاقاتها مع إسرائيل 43 دولة عام 2010. في هذا السياق كان الهدف السياسي من زيارة نتنياهو إلى أوغندا وكينيا ورواندا وإثيوبيا  إنهاء أي تأثير للمُقاطعة السياسية الأفريقية عن طريق زيارة تُعَدّ الأولى لرئيس وزراء إسرائيلي إلى المنطقة منذ عام 1987.

قابل نتنياهو خلال هذه الزيارة رؤساء كينيا وأوغندا ورواندا وجنوب السودان وزامبيا ورئيس وزراء أثيوبيا ووزير خارجية تنزانيا، وسبقت هذه الزيارة زيارتان مُهمّتان قام بهما وزير الخارجية آنذاك أفيغدور ليبرمان إلى المنطقة عامي 2009 و2014، وكان لهذه الزيارات دور مهم في كسر العزلة الدبلوماسية التي تعيشها إسرائيل وتعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية مع الدول الأفريقية ولعلّ عودة العلاقات بينها وبين غينيا بعد 49 عاماً من المقاطعة أكبر دليل على ذلك.

تحاول إسرائيل في هذه المرحلة بالإضافة إلى تقوية الروابط السياسية بينها وبين الدول الأفريقية ضمان الأصوات الأفريقية في المؤسّسات الدولية ودعم هذه الدول للمسعى الإسرائيلي للحصول على مقعد مُراقب في الاتّحاد الأفريقي، وهو مسعى أعلنت دول أفريقية عدّة عن دعمها له على رأسها أثيوبيا وكينيا.

اليد الاقتصادية الإسرائيلية في أفريقيا

لعلّ الجانب الاقتصادي هو الأهم في الاستراتيجية الإسرائيلية في أفريقيا، هذا الجانب لم يتأثّر بالمقاطعة الأفريقية في سبعينات القرن الماضي، حيث بلغت الصادرات الإسرائيلية إلى أفريقيا عام 1978 أكثر من 104 ملايين دولار.

تحتفظ إسرائيل بعلاقات تجارية مُميّزة مع عدّة دول أفريقية من أهمها جنوب أفريقيا وأثيوبيا التي تشهد الصادرات الإسرائيلية اليها قفزات نمو عملاقة تبلغ في بعض الأحيان نسبة 500% كما حدث عام 2009. منذ عام 2003 أصبحت الصادرات الإسرائيلية موجودة في مُعظم الدول الأفريقية خصوصاً وسط وغرب القارّة، ودعمت هذا التوجّه اتّفاقيات عدّة للتعاون التجاري والزراعي وقّعتها مع الدول الأفريقية كانت آخرها اتّفاقيتان مع بوروندي ورواندا.

في جولة وزير الخارجية الإسرائيلي إلى أفريقيا عام 2014 رافقه 50 ممثلاً لشركات إسرائيلية عاملة في مجالات الزراعة والرّي وقّعوا عقوداً بملايين الدولارات، وهو نفس ما حدث مع زيارة نتنياهو الأخيرة حيث صَاحَبَه أكثر من 80 ممثلاً لشركات إسرائيلية مُتنوّعة الأنشطة لكن النشاط الزراعي كان أكثر الأنشطة تركيزاً من جانب الوفد الإسرائيلي، حيث تم تأسيس" الوكالة الإسرائيلية للتنمية الدولية في أفريقيا" والتي تضم أكثر من 50 شركة إسرائيلية تعمل في مجال الأمن الغذائي وتطوير الزراعة وطُرُق الرّي، وبالفعل تم فتح أربعة مكاتب لها في الدول التي زارها نتنياهو في جولته الأفريقية الأخيرة.

التحرّك الإسرائيلي على المستوى الاقتصادي في أفريقيا يرتكز على خطة تبلغ قيمتها 13 مليون دولار تم إقرارها منذ أسابيع قليلة مضت، وتشتمل هذه الخطة على بنود عدّة من أهمّها توسيع عمل الممثليات التجارية الإسرائيلية في دول وسط وجنوب أفريقيا وفتح مكاتب جديدة للتنسيق الاقتصادي والتكنولوجي مع كينيا ورواندا وأثيوبيا وأوغندا بهدف تسويق المُنتجات الإسرائيلية، وإعداد خطط منفصلة متوسطة وطويلة المدى لإنشاء مشروعات خاصة بالمياه والطاقة في أفريقيا وتنمية التعاون بين المؤسّسات الصحية الإسرائيلية والأفريقية، وتوسيع مجال تقديم التدريب الأمني والصحي والأكاديمي والعلمي مع الدول الأفريقية وإنشاء صناديق مالية خاصة تابعة لوزارة المالية الإسرائيلية في البنك الدولي لتمويل الاستثمار في أفريقيا.

في هذا الصدد تُعَدّ العلاقات الاقتصادية بين أثيوبيا وإسرائيل الأهم بالنسبة إلى الأخيرة في كامل أفريقيا، حيث يبلغ رأس المال الإسرائيلي الجاري استثماره في أثيوبيا أكثر من مليار و58 مليون دولار تشمل أكثر من 280 مشروعاً استراتيجياً في مجالات الطاقة والزراعة والرّي وبحوث الفضاء.

المياه .. في دائرة الاهتمام الإسرائيلي

تظل مياه نهر النيل من أهم أهداف التوجّهات الإسرائيلية الحالية في أفريقيا، فمنذ خمسينات القرن الماضي وحتى الآن تعدّدت محاولاتها لضمان أمنها المائي، كانت أبرز تلك المحاولات الخطة التي تم عرضها على مجلس الوزراء الإسرائيلي عام 1974 وتم تناولها في مباحثات اتفاقية كامب ديفيد للسلام وكان مضمونها إقامة مشروعات مشتركة بين البلدين لتنمية نهر النيل وتزويد صحراء النقب بواحد بالمائة من حصة مصر من مياه النيل عن طريق مجموعة أنفاق تمر أسفل قناة السويس. لم يُكتب لهذه الخطة النجاح بعد أن تم إنجاز مرحلتها الأولى فقط وهي "ترعة السلام".

في مسار مواز بدأت إسرائيل منذ عام 1974 في تحريض بعض الدول الأفريقية على طلب إعادة تقييم حصص المياه التي تحصل عليها دول حوض النيل، فأوعزت إلى القيادات الأثيوبية المتلاحقة، ومنها الإمبراطور الراحل هيلاسيلاسي بحث إقامة مجموعة من السدود على النيل الأزرق وهو ما قوبل حينها باعتراضات مصرية نظراً إلى تأثير هذه السدود المُباشر على حصّة مصر من المياه، إلا أنه بمساعدة إسرائيلية أنشأت أثيوبيا سد "فيشا" عام 1984 مضافاً إليه أربعة سدود قام خبراء إسرائيليون بالمشاركة في تصميماتها تريد أثيوبيا إنشاءها على النيل الأزرق، كما قاربت أثيوبيا على( الإنتهاء) "سد النهضة" الذي من المتوقّع بدء عمله منتصف العام المقبل وهو حسب الرؤية المصرية مؤثّر بصورة مباشرة على حصتها من المياه خصوصاً وأن حوالى 95% من احتياجات مصر المائية تأتي من النيل الأزرق.

نفس النهج اتّبعته إسرائيل مع بوروندي والكونغو، حيث قدّمت لهما دراسات لبحث إقامة ثلاثة سدود على البحيرات العظمى.

أما في ما يتعلق بكينيا وأوغندا فتعود المحاولات الإسرائيلية معهما إلى ستينات القرن الماضي حين أطلقت برنامج "الموشاف"  لتدريب الكوادر الكينية على الطرق الحديثة للزراعة والرّي، وأطلقت دورات بحثية للمهندسين الأوغنديين حول استغلال مياه بحيرة فكتوريا وإقامة مشروعات للرّي في مقاطعة كاراموجا في أوغندا. توّجت إسرائيل هذا التواجد في منابع النيل باتّفاقيات عقدتها عامي 2000 و2006 لتنظيم وإدارة الموارد المائية والرّي في كينيا وأوغندا.

الواضح أن كلّ التحرّكات الإسرائيلية في هذا الملف تنبع من الرغبة في الضغط المُستمر على مصر من أجل القبول إما بسيطرة إسرائيل على منابع النيل أو تسليمها جزءاً من حصّة مصر المائية، وهما خياران أحلاهما مرّ على مصر التي أكّدت في مناسبات عدّة أن مياه النيل ليست للبيع خاصة وأن إسرائيل حاولت خلال تسعينات القرن الماضي عرض خطّة رفضتها مصر تقوم إسرائيل بمقتضاها بتمويل استكمال مشروع قناة "جونجلي" في جنوب السودان، وهو المشروع الذي كان قد توقّف في منتصف ثمانينات القرن الماضي مقابل أن تتقاسم مصر والسودان نصف الحصّة التي سيتم توفيرها من المياه بعد إتمام المشروع وتحصل إسرائيل على النصف الثاني مع دفع ملايين الدولارات لباقي دول المنابع.

البُعد العسكري والاستراتيجي لأفريقيا

وضعت إسرائيل نُصب عينيها الأهمية الاستراتيجية لدول منابع النيل كمتحكّم في شريان الحياة الرئيسي في القارة، لكنها أيضاً التفتت إلى أهمية دول الساحل الشرقي من أجل السيطرة على البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن. لتحقيق التواجد العسكري في هذه المنطقة انتهزت إسرائيل فرصة إخلاء الاتحاد السوفياتي لقاعدته في أرخبيل "دهلك" في أريتيريا عام 1991 وقامت بتأجير قاعدتين إحداهما للمراقبة والتنصّت والثانية تعمل كمحطّة إمداد للغوّاصات الإسرائيلية، ثم توّسع التواجد تدريجاً ليشمل أيضاً إنشاء مطار حربي وتمركز دائم لمستشارين عسكريين في قاعدة "دقمحري "العسكرية وفي ميناء مصوع، بجانب نقاط تنصّت ومراقبة في جُزر "فاطمة" و"حالب" و"مريناي". ترافق هذا الوجود مع إطلاق إسرائيل عام 1990 برنامج تدريب وتأهيل للجيش الأريتري تم فيه تدريب آلاف الجنود وتوقيع صفقتي سلاح عامي 95 و96 تزوّدت فيهما البحرية الأريتيرية بزوارق متوسطة وزوارق دورية من نوع" ديفورا "بجانب طائرات استطلاع ومروحيّات وصواريخ، وفي الصفقة الثانية موّلت إسرائيل شراء معدّات ودبّابات من دول في أوروبا الشرقية لصالح الجيش الأريتيري. توّجت إسرائيل هذا التعاون مع أريتيريا بتوقيع اتّفاقية أمنية عام 1996 بموجبها تم إيفاد 650 ضابطاً إسرائيلياً لمُهمّات تدريبية واستشارية في أسمرة.

تنوّعت المساهمات العسكرية الإسرائيلية في باقي الدول الأفريقية، كان للعلاقات العسكرية مع جنوب أفريقيا منذ عام 1988 دور مهم في تثبيت التواجد الإسرائيلي في القارة، في أوغندا تواجد خلال العقد الحالي ما يقرب من 500 مستشار إسرائيلي لتطوير التسليح الأوغندي، وهو نفس ما حدث للجيش الكونغولي الذي تلقّى الحرس الرئاسي فيه تدريبات على مكافحة الإرهاب على يد مدربين إسرائيليين وأوفدت منه بعثات إلى تل أبيب. كان لإسرائيل أياد واضحة في نِزاعات أفريقية عدّة من أهمها انفصال جنوب السودان حيث قدّمت مساعدات تسليحية لقوات الجبهة الشعبية التي كان ضمن تشكيلاتها ضبّاط من يهود الفلاشا.

 

وبعد انفصال الجنوب بدأ التسليح الإسرائيلي يظهر في حوزة الجيش الجنوبي ومنه على سبيل المثال الرشّاش الإسرائيلي "Galil" وتعدّدت زيارات الوفود الجنوب سودانية إلى مَعَارِض الأسلحة الإسرائيلية وكان آخرها وفد برئاسة وزير المواصلات. كان لإسرائيل دور لافت أيضاً في منع إسقاط نظام حكم الرئيس التشادي أدريس ديبي عام 2008.

تصاعدت الصادرات العسكرية الإسرائيلية بشكل مُستمر إلى أفريقيا منذ عام 2009 حيث بلغت 77 مليون دولار وفي 2011 بلغت 127 مليون دولار وفي 2013 بلغت 223 مليون دولار وفي 2014 بلغت 3180 مليون دولار شملت أثيوبيا وجنوب أفريقيا وجنوب السودان وأريتيريا وكينيا والكونغو وغانا وأوغندا وسيراليون.

مصر والتواجد الإسرائيلي في أفريقيا

غاب الدور المصري بشكل شبه تام عن المسرح الأفريقي منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى ثورة كانون الثاني/ يناير 2011 وهذا سمح بتمدّد إسرائيلي في القارّة ربما يحتاج إلى سنوات كي تتم مُعادلته أو مُعالجته. بدأت عودة الدور المصري إلى أفريقيا منذ عام 2013 بمشروعات تنموية وتعاون عسكري مع دول عدّة مثل أوغندا وأثيوبيا والصومال وربما قد يأخذ المسار وقتاً طويلاً ولذلك كان تحرّك مصر في الشقّ العسكري أكثر مرونة وسرعة حيث تعاقدت على مُقاتلات "الرافال" الفرنسية المُتفوّقة وسفن الإنزال البرمائي "ميسترال" وغوّاصات "تايب 209" لمواجهة احتمالات اللجوء إلى القوة في معالجة التهديد الذي تمارسه بعض الدول الأفريقية ومن خلفها إسرائيل على حصة المياه الخاصة بمصر. السؤال الكبير هنا يتعلّق بمدى القدرة المصرية الحالية على تجنّب أي ةحلول عسكرية والضغط على أثيوبيا خصوصاً من أجل عدم تهديد الأمن المائي المصري، وفي الوقت نفسه منع إسرائيل من ابتزاز مصر لتأخذ في وقت السلم ما عجزت في الحصول عليه وقت الحرب وهو مياه النيل.

محمد منصور

المصدر: البديل