التعدين الأهلي رافعة اقتصادية.. تواجه مشاكل بنيوية

اختتمت شركة معادن موريتانيا قبل أيام، ورشة عمل تشاورية، حول ” تثمين المكاسب وتعزيز القدرات التنظيمية والمؤسسية للتعدين الأهلي وشبه الصناعي للذهب”.

وتهدف الورشة بحسب القائمين عليها إلى التحسين الفعال لنظام تسيير هذا النشاط، من خلال رفع التحديات الإستراتيجية والتنظيمية والمؤسسية، وإرساء مقاربة تأخذ بعين الاعتبار عوامل التطور التي تمكن من تحسين أدائه.

شركة معادن موريتانيا التي أكدت أكثر من مرة، أنها خصصت أكثر من 117000 كلم مربع، لقطاع التعدين التقليدي، ما يعادل 11 في المئة من مساحة البلاد التي تتجاوز مليون كلم مربع، وهو ما يجعل القطاع يواجه تحديات وإشكالات مركبة، تحتاج لأكثر من حل.

نحاول في هذ التقرير أن نسلط الضوء على أبرز الإشكالات الاقتصادية والبيئية والأمنية والقانونية، التي يطرحها التعدين الأهلي في موريتانيا، عن طريق استجواب خبراء ومستثمرين في المجال.

 

التعدين الأهلي بلغة الأرقام:

أحدث دراسة وضعت حول المردود الاقتصادي للتعدين الأهلي في موريتانيا، أعدها التعاون الألماني سنة 2022، ونشرت بداية العام المنصرم.

وبحسب معطيات الدراسة فإن رقم أعمال النشاط يبلغ 328 مليار أوقية قديمة بزيادة بلغت 286% مقارنة برقم الأعمال المسجل سنة 2019 والذي وصل حينها إلى 74 مليار أوقية قديمة.

وأكدت المؤشرات أن رقم الأعمال يعادل 1,5% من القيمة المضافة لرقم أعمال شركتي تازيازت وسنيم مجتمعتين، ويساوي ضعفي القيمة المضافة المحققة من قطاع الصيد، و 1.7 من القيمة المضافة لقطاع الزراعة، و0.9 من القيمة المضافة المحققة من قطاع الثروة الحيوانية، وبذلك يمثل التعدين الأهلي  41% من القطاع الاستخراجي الموريتاني و24% من القيمة المضافة للقطاع الثانوي، ليصل إلى 9% من الناتج المحلي الإجمالي.

وأظهرت بيانات الدراسة أن 30% من عمليات إنتاج التعدين الأهلي، تتم في الزويرات، و70% مصدرها مقاطعة الشامي بولاية داخلة نواذيبو.

وبخصوص حجم التشغيل تتحدث الدراسة، عن أن القطاع يعد مشغلا رئيسيا في البلاد، إذ يوفر قرابة 46700 وظيفة مباشرة، و 222 ألف وظيفة غير مباشرة، ما يعادل 5.5% من التعداد العام للسكان.

وقدرت الدراسة حجم الاستثمار في القطاع ب 900 مليون أوقية جديدة.

يرى المحلل الاقتصادي أمم ولد أنفع، أن معطيات الدراسة تؤكد على دور قطاع التعدين الأهلي، كرافعة للاقتصاد الموريتاني، سواء من حيث النمو وخلق الوظائف وتصنيف اليد العاملة.

ووفق تحليل ولد أنفع فإن العمل في قطاع التعدين الأهلي جاء في ظرفية حساسة تتسم باللايقين، ابتداء بالجائحة واضطرابات الأسواق العالمية مرورا بأزمة الطاقة والغذاء في العام 2022، وانتهاء بما يحدث اليوم من اضطرابات جيوسياسية عالمية.

كل هذه العوامل ساهمت في انتعاش سوق الذهب، وهو ما جعل من الاقتصاد الموريتاني اقتصادا مرنا، ينتج خامات الحديد وقت الانتعاش والازدهار، ووقت الأزمات والركود يعتمد على إنتاج الذهب كمادة مرتبطة بفترات الركود، وفق نظرية ولد أنفع.

ويرى المحلل الاقتصادي أن المشكلة الأساسية، تكمن في دخول القطاع بشكل عشوائي وسريع دون أي دراسة للجانب البيئي، فالولوج لأي مجال من مجالات الاقتصاد يحتاج إلى دراسة بيئية ودراسة اجتماعية واقتصادية، وهو ما غاب عندما قررت الدولة اقتحام المجال في عام 2016.

 

التعدين الأهلي والإشكال البيئي:

يرى الباحث في مجال الصناعات الاستخراجية الدكتور يربان ولد الخراشي، أن التعدين الأهلي يطرح عدة مشكلات مركبة منها ما يتعلق بالجانب البيئي والصحي ومنها ما يتعلق بالبعد الاجتماعي والأمني بالإضافة إلى العامل الاقتصادي.

فرغم الفوائد الاقتصادية الواضحة التي تظهرها الأرقام من حيث الحديث عن خلق 50 ألف فرصة عمل مباشرة، و200 ألف فرصة عمل غير مباشرة، وكذلك الحديث عن أن القيمة المضافة التي يخلقها النشاط تقدر بنسبة 9% من الناتج المحلي الإجمالي، فإن هذه “الإيجابيات الاقتصادية محفوفة بمخاطر جمة في اعتقادي على رأسها هدر كبير لأحد أهم الموارد الاستراتيجية في البلد”.

ويسترسل قائلا “وعلى رأس  سلبيات النشاط، المشكلات الصحية والبيئية حيث يصاحب استخراج الذهب بالطرق التقليدية استعمال مواد كيميائية خطيرة كالزئبق والسيانير ذات التأثير السلبي الكبير، خاصة الزئبق الذي يعد ثابتا بيئيا، ويبقى تأثيره ممتد لعقود مشكلا بذلك تهديدا للبيئة والصحة وحتى للثروة الحيوانية والثروة السمكية ، فالتقارير الصادرة عن مبادرة الشفافية في مجال الصناعات الاستخراجية في موريتانيا لسنتي 2020 و 2021 والتقرير الصادر 2022 ، كلها  تتحدث عن 248 طن من الزئبق تبخرت سنويا في بيئتنا نتيجة استخلاص الذهب بالطرق التقليدية، ما يعادل 18% من إجمالي كمية الزئبق المستخدمة في الصناعات بجميع أنحاء العالم”.

الدكتور يربان يؤكد أن التأثير البيئي لا يقتصر على الزئبق “فإنتاج غرام واحد من الذهب يتم عن طريق استخلاص أطنان من التراب التي تحتوي على بعض المعادن الثقيلة السامة مثل الزنك والزرنيخ، ومجموعة الكبريتيدات التي تتفاعل مع الهواء بوجود الرطوبة، مشكلة حمض الكبريتيك الذي يعمل على إذابة المعادن الثقيلة وتصريفها، مما يسمح لها بالعبور إلى المياه الجوفية والسطحية”.

 

التأثير الاقتصادي

يرى يربان أنه بالرغم من ارتفاع انتاج الذهب الأهلي في موريتانيا، إلا أن ذلك لم ينعكس على القطاع المالي والمصرفي الموريتاني، قائلا “لنتصور أن بلدا يصدر آلاف الكيلوغرامات من الذهب ومع ذلك لا توجد له أي فائدة على القطاع المالي والمصرفي وهو أمر غريب وخطير”.

والذهب كثروة استراتيجية يمكن أن يشكل رافعة لعدة قطاعات، فالحكومة -بحسب تصور الدكتور يربان- يمكنها “أن تشترط إعادة استثمار 5% أو 10% من أرباح الذهب في الزراعة والتنمية الحيوانية، وإنشاء مشاريع في الريف مدرة للدخل ومستدامة”، خاصة أن ” أسعار الذهب خلال العام المنصرم بلغت مستويات قياسية لم تصلها طيلة تاريخ البشرية، بوصوله لأكثر من 2100 دولار للأونصة، والتوقعات تشير إلى أن الأسعار ستظل خلال العام الجاري فوق الألفي دولار للأونصة، بسبب عدم اليقين الجيوسياسي، والضعف المحتمل للدولار.

واعتبر أن توقف البنك المركزي عن شراء الذهب من المنقبين، يفتح الباب على مصراعيه أمام تجار السوق السوداء، وهو ما تنتج عنه مسائل أمنية خطيرة،

وساهم في تأسيس طبقة جديدة من أباطرة الذهب والتي باتت تلقي بظلالها على الساحة السياسية والاقتصادية، “وقد احتل بعض هؤلاء مقاعد برلمانية في الانتخابات الماضية، وربما يتطور الأمر مستقبلا إلى ما هو أبعد من ذلك، خاصة أن النشاط قد يكون بوابة لتبييض أموال الفساد والمخدرات والإرهاب”.

 

 

التعدين الأهلي والمنظومة القانونية:

يرى الأكاديمي والخبير الاقتصادي الدكتور محمد الأمين ولد عبد الحميد، أن إصدار قانون خاص بالتعدين الأهلي، منفصل عن مقتضيات مدونة المعادن، يعد خطوة مهمة في طريق تنظيم القطاع.

إلا أن القانون المنظم للقطاع، بحسب ولد عبد الحميد يحتاج إلى قوانين تطبيقية، خاصة فيما يتعلق بتحديد معايير تنفيذ المقتضيات المنصوص عليها في مدونة التعدين الأهلي، مثل إصدار قوانين تحدد ملكية آبار التنقيب، وتحديد طرق الحفر وعمقه، بالإضافة إلى سن قانون يحدد معايير وإجراءات السلامة.

وبحسب الخبير القانوني والمتخصص في التحكيم الهندسي الدكتور محمد الشيخ محمد المجتبى، فإن الإشكالات التي تواجه المستثمر في قطاع التعدين الأهلي ليست النصوص الناظمة للنشاط، بقدر ما تواجهه الإجراءات المتبعة في فض وتسوية النزاعات أمام القضاء العادي، والتي لا تتناسب مع حساسية الاستثمار في القطاع، والتي تتطلب طرقا غير تقليدية في فض النزاعات، مثل طرق التحكيم التجاري التي باتت متبعة في أغلب الاقتصاديات الليبرالية.

 

الدور الجديد للبنك المركزي ومعادن موريتانيا في القطاع:

قال الدكتور محمد الأمين ولد عبد الحميد، إن إحلال شركة معادن موريتانيا محل البنك المركزي، كوسيط لبيع الذهب يعد نقطة قوة لتعزيز سياسة تعويم الأوقية التي أقرها البنك المركزي مؤخرا.

واعتبر أن البنك خلال فترة احتكاره لشراء الذهب، من المنقبين والمستثمرين في قطاع التعدين الأهلي، كون احتياطات معتبرة من المعدن الثمين، إلا أن البنك تراجع عن عمليات شراء الذهب نتيجة أمرين أساسيين:

1 – أن البنك المركزي لم يستطع منع وصول عائدات التعدين السطحي إلى أيادي أباطرة السوق السوداء

2 – البنك المركزي استجاب لطلب صندوق النقد الدولي، بوقف عمليات الشراء، باعتبارها مناقضة لوظيفة البنوك المركزية اللبرالية.

ووفق وجهة نظر ولد عبد الحميد، فإن استنساخ تجربة الشركة الموريتانية لتسويق المنتجات البحرية SMSP، وإسقاطها على شركة معادن موريتانيا وقطاع التعدين الأهلي، سيساهم في حصول البنك المركزي على احتياطيات العملة الصعبة.

ويشرح وجهة نظره بكون البنك المركزي سينتقل من شراء الذهب إلى جمع الاحتياطات من العملة الصعبة، عن طريق إلزام المشترين بتقديم ضمانات من العملة الصعبة للبنك المركزي عن طريق شركة معادن، التي ستكون مهمتها الوساطة في عملية البيع بين المستثمر أو المنقب من جهة والزبون من جهة أخرى.

فوساطة شركة معادن وضمان البنك المركزي لمال الزبون، سيجعل المستثمر في حالة اطمئنان، وهو ما سيعزز احتياطات المركزي من العملة الصعبة، ويجعل سياسة تعويم العملة أكثر نجاعة، باعتبار أن العملة تقوى خلال فترة التعويم حسب قانون العرض والطلب، خاصة أن البلاد تتوقع عائدات معتبرة من الغاز في الربع الأول من العام الحالي، وهوما سيعزز الطلب على السوق الموريتانية ويجعل الأوقية في موقع قوة، وفق ما يراه الخبير الاقتصادي محمد الأمين ولد عبد الحميد.

 

ضرورة الرقابة

يرى الدكتور محمد الأمين ولد عبد الحميد، أن تعزيز الدور الرقابي على مبيعات الذهب يعد أولوية قصوى، فبحسب دراسة التعاون الألماني التي أشرف عليها، فإن 70% من الذهب المستخرج من التعدين الأهلي تباع في السوق السوداء، و30% تباع عن طريق نقاط البيع التابعة لمعادن موريتانيا.

هذه الوضعية بحسب ولد عبد الحميد تزيد من ضرورة وضع آلية صارمة للرقابة.

 

السوق السوداء الموريتانية عززت صادرات مالي من الذهب

بحسب المعطيات المتوفرة، فإن السوق السوداء الموريتانية عززت من صادرات الذهب في مالي، وهو ما يفسره الدكتور محمد الأمين ولد عبد الحميد، باعتماد تجار السوق السوداء، على الحدود بين موريتانيا ومالي، لتهريب الذهب نتيجة ضعف الرقابة الأمنية في الجارة الجنوبية، وعن طريقها يصدر الذهب إلى أسواق في الخليج العربي وخاصة سوق الذهب بدبي، ويباع فيها على أنه ذهب مالي، مما قوى من وضع بماكو في نادي مصدري المعدن الأصفر.

 

تحديات تواجه المستثمر في قطاع التعدين الأهلي

يقدم المستثمر في قطاع التعدين الأهلي، رجل الأعمال مولاي أحمد ولد مولاي المهدي، رأي المستثمرين في قطاع التعدين.

فبحسب تصور مولاي المهدي، فإن الاستثمار في التعدين الأهلي يتكون من ثلاثة أضلاع، الضلع الأول هو منطقة المناجم التي تستخرج منها الحجارة المشبعة بالذهب، والضلع الثاني يتمثل في الطواحين التي تقوم بطحن الحجارة واستخراج الذهب، والضلع الثالث المصانع التي تقوم بمعالجة المخلفات الناتجة عن طحن الحجارة، وفي حالة توقف أي ضلع تتوقف عملية التعدين الأهلي.

 

تحديات المستثمر في المناجم

يرى ولد مولاي المهدي أن المستثمر في المناجم أو المجاهر يواجه صعوبات جمة تكمن في أن المنقبين يعملون بطرق بدائية وبطيئة، وهذه الطرق تجعل عملية  عملية استخراج الحجارة من الآبار بطيئة.

ويؤكد بأن المنقبين طلبوا من الحكومة عن طريق شركة معادن الإذن باستخدام آليات مثل الحفارات والجرافات، لزيادة عملية الإنتاج، وهو مالم تستجب له الشركة المعنية ولا القطاع الوصي على المعادن في البلاد.

ويسترسل ولد مولاي المهدي قائلا: “المشكلة غير المفهومة بالنسبة لنا كمستثمرين، تكمن في أن الحكومة تترك المنقبين يحفرون ويستنزفون مواردهم ومجهودهم، وتقوم بإغلاق مناطق الحفر وتعطيها في النهاية لشركة أجنبية يقف وراءها نافذ، ليبدأ المنقبون من الصفر بعد أن بدأوا يجنون ثمار الأموال التي استثمروها”.

 

مشاكل أصحاب الطواحين

يرى رجل الأعمال مولاي أحمد أن عدم مساعدة الحكومة لأصحاب المجاهر والسماح لهم باقتناء الآليات جعل الحجارة المشبعة بالذهب لا تتوفر لأصحاب الطواحين بالكمية الكافية، هذ بالإضافة إلى الكلفة العالية للحصول على الماء، مع عدم توفر الكهرباء واستخدامهم للمولدات التي تستنزف كميات هائلة من الوقود، مما أدى إلى توقف 70% من الطواحين، خاصة في منطقة الشامي.

 

تراجع الإنتاج في مصانع المعالجة

يؤكد المستثمر مولاي أحمد ولد مولاي المهدي أن نقص الحجارة وتراجع انتاج الطواحين نتج عنه نقص المخلفات، ما أسفر عن تعثر الإنتاج في مصانع المعالجة، والتي تقدر تكلفة الاستثمارات فيها ب 120 مليون دولار، وتستقطب هذه المصانع أعدادا كبيرة من المهندسين والعمال، فالوضعية الحالية جعلت المصانع مهددة بالإفلاس.

ويرى أن هذه المصانع تنتج شهريا أكثر من نصف الذهب الصادر عن قطاع التعدين الأهلي بعد معالجة مخلفات الحجارة، وتدر عائدات معتبرة من العملة الصعبة على البلاد.

بالنسبة لمولاي المهدي فإن واقع الاستثمار بقطاع التعدين، ورغم الأرقام الضخمة التي حققها، مازال واقعا تطبعه السوداوية، “فالمصانع في العالم تشجعها الدول بالامتيازات الضريبية والجمركية، والتسهيلات المصرفية وهو ما لا يتوفر للأسف في بلادنا، فمصانع المعالجة التي تقع على بعد 40 كلم من مدينة الشامي، بدأ يخيم عليها شبح الإفلاس، بسبب الضرائب المجحفة وعدم توفر الطاقة اللازمة، بالإضافة إلى نقص الكميات الكافية من النفايات بعد تعطل عمل المطاحن، بفعل النقص الملاحظ على استخراج الحجارة من المناجم لعدم السماح باستخدام الآليات المطلوبة”.

 

القارئ لواقع التعدين الأهلي في موريتانيا، يدرك حجم المردودية الهائلة على الاقتصاد الوطني، ولكن التحديات البنيوية تشكل عائقا أمام أي سياسة تهدف إلى تطوير القطاع وعصرنته مستقبلا.

تختلف الحلول المقترحة لمعالجة واقع التعدين الأهلي، باختلاف الزوايا التي ينظر بها المتخصصون كل من موقع اختصاصه، مما يجعل أي مقاربة للحل تأخذ بالحسبان الأبعاد البيئية والاقتصادية والقانونية والاجتماعية، والعمل على ألا يتحول التوجه للاستثمار في قطاع التعدين الأهلي، إلى تهميش القطاعات الأخرى، وخاصة قطاعات الاقتصاد الريفي التي تعيش على وقع هجرة استنزفت اليد العاملة في الزراعة والثروة الحيوانية، مما قد يؤثر سلبا على الأمن الغذائي الموريتاني.