تجوال خاطف في ليل الاستيطان/ محمد فال ولد سيدي ميله

هيا بنا نفتح صفحة أخرى من أسرار إفريقيا المسكينة. سيكون علينا أن نركز، فالتاريخ فينا حساس، أوراقُه ما انفكت بالية.

في سنة 1822، قامت شركة استعمارية أمريكية بتوطين جماعات من السود الأمريكيين، من أبناء العبيد السابقين، في ليبيريا على حساب السكان الأصليين. كانت الشركة الأمريكية تسعى إلى نشر المسيحية في إفريقيا عن طريق العبيد السابقين. ذلك هو الهدف المعلن على الأقل. لم تكن تَجْمَعُ "عبيدَ أمريكا" أية لغة أو عادات أو ثقافة غير الانكليزية والقيم التبشيرية الانكلو-أمريكية.

توطن عبيد أمريكا في "أرض الميعاد" الجديدة. وتعاملوا مع السكان الأصليين باستعلاء لا نظير له. لقد حملوا معهم كل سيئات وسوءات الامبريالية المتعفنة والليبرالية المجنونة والكولونيالية البغيضة. مَلَكَ العبيدُ الأمريكيون إقطاعات وضيعات شاسعة، وحولوا السكان الأصليين إلى جرارات وفؤوس ومناجل تعمل ليل نهار بلا تعويض أكثر من سد الرمق.

في يوم 26 يوليو 1847، دعمت أمريكا استقلال المستوطنين الليبيريين، لتكون ليبيريا "أول" جمهورية تحصل على استقلالها في إفريقيا. وتحت ضغط حروب الانفصال في أمريكا (بين 1822 و1861)، هاجرت إلى ليبيريا آلاف إضافية من المستوطنين السود بتشجيع أمريكي يهدف، في مراميه البعيدة، إلى إخواء أمريكا من مجتمعات خَبَزَتْها ومَصّتها، وأصبح وجودها محرجا لها.

امتلأت ليبيريا من عبيد أمريكا. وأصبح الليبيريون الجدد ملاكا لأكبر الإقطاعيات الزراعية في البلاد، وبدأوا يمارسون على السكان الأصليين ما مارسه الأمريكيون على جدودهم من رق. أصبحوا يستخدمونهم، كَرْهًا، في المزارع وفي المنازل، وتارة بتعويضات لا تكفي إلا لإبقائهم على قيد الحياة لأجل مواصلة الكد.

ها أصبح للعبيد دولتهم المستقلة. بينما أصبح السكان الأصليون الأسياد مجرد عمالة بائسة لدى عبيد أمريكا. مارس الليبيريون الجدد كل أنواع الإهانة بحق السكان الأصليين. كانوا بشعين حقا. لم يكن من حق السكان الأصليين أن ينتموا لحزب آترو وايت اليميني الحاكم، ولم يكن من حقهم العمل إلا في المراتب الدنيا من الجيش كمكتتبين.

تواصلت عمليات التوطين، وتوافد المهاجرون بالآلاف من أمريكا إلى ليبيريا. كانت ليبيريا في الآن نفسه جنتهم الموعودة ورَدّة فعلهم السيكولوجية النائمة منذ قرون، ففيها شربوا الخمر على مقاعد الذهب وعلى أسِرّة الوبر ونمارق الحرير تماما كما كانوا يرون عند النبلاء البيض في فرجينيا وكارولينا، وفيها اغتصبوا الفتيات السوداوات الكواعب كما فعل البيض الأمريكيون بجداتهم المسترقات، وفي بساتينها الفيحاء كانوا يمدون سيقانهم ليدلكها التعساء من السكان الأصليين، ضحايا التهميش والحيف والفقر داخل وطنهم.

في سنة 1931، شجبت عصبة الأمم ما يعيشه السكان الأصليون من عمل قسري أصبحوا بموجبه مواطنين من الدرجة الثانية، ممنوعين حتى من حق التصويت.

كان لابد من 162 سنة كي يستعيد السكان الأصليون السلطة في بلادهم. ففي سنة 1980، قام مغامرون، من أدنى الرتب العسكرية الليبيرية، بالاستيلاء على السلطة. وأصبح الدموي سامييل دو رئيسا للبلاد بعد أن ذبح الرئيس السابق وليام تولبير: ابن عبيد أمريكا المستوطنين.

ظن العالم أن سلطة "العلوج" انتهت، وأن عملية الاستيطان ودعت وودعت معها الهيمنة الأمريكية، وأن ليبيريا ستعيش حرة ومزدهرة بفعل مناخها المطير وغاباتها الثرية. إلا أن أمريكا مولت "عبيدها السابقين"، فشنوا حربا أهلية شعواء قتلوا خلالها الرئيس الدكتاتور سامييل دو شرّ قتلة. كان ذلك سنة 1990. وتحولت السلطة إلى دكتاتور دموي آخر يدعى شارل تايلور الذي حكم البلاد حتى سنة 2003.

وباتت الحرب الأهلية في ليبيريا مختبرا لبيع الأسلحة الغربية الخفيفة ووسيلة لحماية مهربي الحجارة الكريمة. فر ملايين الليبيريين إلى ساحل العاج وغينيا، وتدخلت الأمم المتحدة لتنظيم مرحلة انتقالية انتهت بانتخابات رئاسية فازت فيها السيدة ألين جونسون رئيسة للبلاد من 2006 إلى 2018.

وبسبب الحروب الأهلية والهجرات المتتالية والتصفيات الدموية المستمرة، أصبحت ليبيريا دولة فاشلة، تتقاسمها الأطماع وتعمها الفوضى. لم تعد الدولة أكثر من كرة قدم تطير مع كل ركلة، وما إن تصل الأرض حتى تطير أيضا.

وشيئا فشيئا، خرجت "الدولة/ الكرة" من بين يدي العسكر والسياسيين على حد سواء. شبّك العسكريون سواعدهم، مستسلمين أمام فشلهم الذريع في حماية الدولة من التشتت. وعلى شاكلتهم، شبّك السياسيون سواعدهم أمام ذات العجز في إنقاذ البلاد. وطارت "الدولة/ الكرة" بين أقدام كل أمراء الحرب وسياسيي المهرجانات الكرتونية. ولما لم تجد "الدولة/ الكرة" من يستطيع السيطرة عليها، نزلت مضطرة، سنة 2018، على صدر لاعب كرة قدم!!. إنه اللاعب المحترف جورج وَيَاهْ الذي يحكم ليبيريا اليوم بروح رياضية عالية، وربما في الوقت بدل الضائع. وبقدرة قادر، تحول لاعبٌ لكرة القدم إلى رئيس لجمهوريةٍ رَمَتْ العسكرَ والسياسيين في زبالة واحدة، ووضعتهم مع القمامة في سلة مهملات التاريخ.

تلك صفحة من تاريخ الاستيطان الإفريقي المفروض بماكنة الطغيان الغربي، فتحتُها، بلطف، لنتأمل فيها.. فلنتأمل إذن، ونتدبر، ونجيل النظر، ثم نرجع البصر كرتين، على أن نطوي الصفحة بهدوء كي لا تتمزق، فصفحات التاريخ الإفريقي متآكلة كلها.