لم يختلف المصريون على يوم مهم من أيامهم التاريخية قدر اختلافهم على يوم 25 يناير عام 2011، البعض يرفعه إلى حد الثورة الفريدة البيضاء التى يمكن أن تغير المجتمعات الإنسانية دون عنف ودون صدام دموى وبكلفة وتضحيات محدودة لا ترهق المجتمع والتاريخ والدولة، تفتح أبواباً جديدة لتغيير أحوال المجتمعات خارج نطاق الفلسفة الماركسية وصراع الطبقات، ودون اللجوء إلى مقصلة الثورة الفرنسية التى أكلت الكثير من مصداقيتها وجعلتها موضع مراجعة تاريخية، فضلاً عن وسائلها العصرية التى اعتمدت على مواقع الاتصال الاجتماعى فى حشد قدرات المجتمع، خاصة الشباب لفرض التغيير على نظم حكم مستبدة، أصمت أذنها طويلاً عن سماع أصوات الإصلاح ومطالبه، من خلال تظاهرات حاشدة تحتل الشوارع والميادين، لا تغادرها إلا أن يسقط الحكم أو يستجيب لمطالب الإصلاح، بعد أن يكتشف أن أدوات الردع المتمثلة فى قوات الأمن والجيش أعجز من أن تواجه هذه الحشود التى تلتزم الاحتجاج السلمى، لا تخرب ولا تدمر ولا ترفع السلاح، فقط تحتشد فى الميادين والشوارع وتصر على اعتصاماتها السلمية. والبعض الآخر يعتبر 25 يناير مجرد مؤامرة خططت لها الولايات المتحدة، فى إطار رؤية كونداليزا رايس وزيرة خارجية جورج بوش الابن، للفوضى الخلاقة التى غالباً ما تؤدى إلى تفكيك الدولة وتسريح مؤسسات الجيش والأمن باعتبارها أدوات النظام القديم، لكن النتيجة المؤكدة هى الفوضى الشاملة التى تدمر مؤسسات الدولة وتنهى مهام الجيش والأمن، لتدخل البلاد فى حالة سيولة وفوضى كاملة، تنعدم بسببها قدرة الدولة على فرض النظام واتخاذ القرار، وتصبح أسيرة لقوى الخارج تشترى أمنها بالرضوخ لمطالبها. وهذا عين ما حدث ويحدث فى العراق وليبيا وسوريا وكان مقدراً أن يحدث فى مصر تحت مسمى الربيع العربى، لولا يقظة المؤسسة العسكرية التى قطعت الطريق على مؤامرة واسعة استهدفت مصر. وبرغم تعاظم الأدوار التى تلعبها أجهزة التخابر الدولى فى توجيه دفة أحداث مناطق خطيرة مثل الشرق الأوسط لا تزال تعانى من صراع الإرادات الوطنية ومحاولات سيطرة القوى الكبرى، يتشكك كثيرون فى قدرة المؤامرة على إنجاز ترتيب متكامل يجعل من ثورة 25 يناير مجرد مخطط تآمرى رغم وجود أدلة عديدة تثبت حرص الأمريكيين المتزايد، الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء، على التواصل مع قوى عديدة داخل المجتمع المصرى من خلال المعهدين الديمقراطى والجمهورى، ومئات البعثات التى استهدفت شرائح بعينها من الشباب المصرى، يتم إرسالها إلى الخارج للتدرب على سبل المطالبة بحكم ديمقراطى، فضلاً عن المعونات الأمريكية السخية لمنظمات المجتمع المدنى التى تركز على القضايا الحقوقية المهمة، فى ظل فقدان الثقة الكامل من جانب الأمريكيين فى مستقبل حكم مبارك الذى وضح تماماً فى رحلته الأخيرة إلى الولايات المتحدة قبل ثورة يناير.
ومع الأسف فإن نظام مبارك كان قد أصم أذنيه تماماً عن سماع مطالب التغيير فى ثقة زائدة بالنفس لا تستند إلى أساس صحيح، كما غفل النظام عن الغياب المتزايد للرضا العام عن الحكم وسط فئات واسعة من المجتمع، خاصة الشباب الذى يعانى البطالة واليأس، كما أن تيار الإسلام السياسى وفى مقدمته جماعة الإخوان المسلمين الذى يشكل الخيار البديل فى ظل حدة الاستقطاب التى وضعت المصريين أمام خيارين لا ثالث لهما، الحزب الوطنى أو جماعة الإخوان المسلمين، كان منشغلاً تماماً بمحاولة استرضاء نظام مبارك والوصول إلى حد أدنى من الوفاق معه، يسمح بوجود بضع عشرات من نواب الإخوان فى مجلس الشعب، على حين تمكنت أجهزة الأمن من إحكام سيطرتها على تيار السلفيين الذى التزم خلال هذا الفترة عدم العمل بالسياسة بدعوى أنها تلهى عن الدين، وذلك ما يبرر تردد جماعة الإخوان المسلمين فى اللحاق بأحداث ثورة يناير إلى يوم 28 الذى قرر فيه مكتب إرشاد الجماعة أن الأوضاع فى ميدان التحرير، حيث يعتصم آلاف الشباب، مهيأة لاستثمار الموقف والوثوب على السلطة. وبانضمام القوات المسلحة إلى ثوار ميدان التحرير، ونزول الجماهير المصرية إلى الميدان قلقاً على الشباب المعتصم الذى يتعرض لهجوم ثأرى يقوده الحزب الوطنى، اكتملت عناصر النجاح لثورة 25 يناير.
لم تجابه جماعة الإخوان مصاعب ضخمة فى الوصول إلى الحكم، لأن معظم التيارات الوطنية بما فى ذلك اليسار وفى مقدمته جماعة الناصريين، أبدت استعدادها للتعاون مع جماعة الإخوان على أمل أن تلتزم الجماعة بصيغة المشاركة بدلاً من المغالبة التى طرحتها خداعاً للرأى العام المصرى، وعلى ظن بأن الجماعة سوف تحترم قرارها بعدم الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية، ولولا نهم جماعة الإخوان وإسراعها فى تطبيق مخطط (التمكين) للسيطرة على مفاصل الدولة فى أسرع وقت ممكن.
وربما لا تكره جماعة الإخوان المسلمين شخصاً مثل كراهيتها للرئيس السيسى التى تبز كراهيتها للرئيس الراحل عبدالناصر، ولا ترفض الجماعة يوماً مثل رفضها لـ30 يونيو، عندما خرجت حشود المصريين للشوارع والميادين يطالبون بإنهاء حكم المرشد والجماعة، لأنه فى هذا اليوم المجيد قفزت الضحية فراراً من بين أسنان الجلاد، وتحررت مصر من حكم الجماعة والمرشد، ووجدت جماعة الإخوان نفسها مرفوضة تماماً من الشعب المصرى، الذى فضح زيفها وتآمرها وبات يبغضها حتى العظم، ومنذ هذا التاريخ تتصرف الجماعة بجنون بالغ، حافزها الأهم الانتقام من الشعب المصرى، تتحالف مع تنظيم القاعدة فى سيناء وتنسق عملياتها مع جماعة أنصار بيت المقدس، تعاونها على تمرير سياراتها المفخخة إلى القاهرة، وتختص نفسها ببعض المهام الأخف وزناً، التى لا تظهرها أمام العالم جماعة إرهابية، مثل توزيع الشحنات الناسفة على الأماكن المزدحمة واستهداف سيارات الشرطة والجيش، وتدمير أبراج الكهرباء فى المناطق الصحراوية المتاخمة لحدود الدلتا، ونشر الإشاعات الكاذبة التى تضر أمن الوطن واقتصاده، ومع ذكرى 25 يناير كل عام تبذل الجماعة غاية جهدها للخروج فى تظاهرات ضخمة إلى الشوارع الرئيسية فى القاهرة وبعض المحافظات، لعلها تتمكن من الاعتصام مرة أخرى فى أى من الميادين الكبرى، لكنها تكتشف عاماً وراء عام أن قدرتها على الحشد قد ضعفت إلى حد خطير، وتكاد تنحصر فى منطقتين محددتين فى القاهرة، عين شمس والمطرية والطالبية فى الهرم، لا تستطيع أن تتجاوز الشوارع الخلفية لهاتين المنطقتين.
وبرغم انقسامات الجماعة المتعددة التى وصلت إلى حد التشرذم، تتسابق كل الشراذم على الدعوة إلى المزيد من العنف، فى مزايدات رخيصة أدت إلى تورط الجماعة فى ارتكاب جرائم إرهابية واضحة ضد الشعب والشرطة والقوات المسلحة، واعترافها لأول مرة بارتكاب هذه الجرائم دون مواربة.
خلاصة القول، إن جماعة الإخوان المسلمين وقد دخلت بارتكابها جرائم إرهابية واضحة هذا العام طوراً جديداً، كشف عن وجهها القبيح كجماعة تكفيرية إرهابية تقامر على مصيرها، وتحكم على نفسها بالإعدام وتحفر قبرها بيدها، لأن حصادها الوحيد هو المزيد من غضب الشعب وكراهيته وإصراره على التخلص منها، وهذا ما وضح تماماً فى فشلها الذريع فى 25 يناير الحالى، الذى يكاد يكون طلاقاً بائناً بينها وبين 25 يناير، هذا اليوم التاريخى المختلف عليه، وفى الأغلب لن يأتى 25 يناير المقبل إلا وتكون الجماعة قد اندثرت هباء منثوراً، بعد أن تقطّع الخيط الرفيع الذى كان يفصلها عن جماعات الإرهاب.