موجة عاتية من التخوين تنمو وتتمدد، خاصة على صفحات التواصل الاجتماعي، لا يسلم منها أحد. ولا حتى أحمد ولد داداه. لم يشفع له تاريخه الحافل بمقارعة الأنظمة الاستبدادية التي عرفتها بلادنا، على مدى ثلاثة عقود، ولا نضاله من أجل ترسيخ الديمقراطية، ولا دفاعه عن حقوق الانسان، ولا تنديده المستمر بالانتهاكات والظلم، ولا مخاطرته بحريته ومجازفته بمصالحه، ولا تكريسه لحياته وثروته من أجل مبادئه، ولا أنه حتى جرب المواجهة والشارع والمقاطعة، وتعرض، باستمرار، للاستغلال والخيانة والنفي الداخلي والسجن.
هذه السهولة في الطعن في مسيرة شخصيات تاريخية، التي من المستحيل، في هذا العمر، أن تساوم على مصلحة الوطن، لا يجرؤ عليها إلا هذا الجيل الجديد من العدميين والشعبويين من صناع الرأي، في عصر التفاهة، الذين ينشطون، بلا هوادة، على الفيسبوك وتيك توك، منصبين أنفسهم كمرجعية وحيدة، تنفرد بالوصاية على الجميع، وتوزع، حسب مزاج أصحابها، شهادات النزاهة السياسية والاخلاقية، بل تشكك، وتنبذ، وتحاكم، وتدين كل من يجرؤ على التفكير بشكل مختلف، دون البت في حججه ولا الحكم عليه بحسن الظن.
إنها دكتاتورية الفكر في أبهى تجلياتها، تحتكر الحقيقة، وتصادر الآراء، وتشوش على النقاش. لا تحترم آراء الآخرين، ولا التنوع الفكري، ولا التعددية السياسية، ولا الاجتهاد، ولا الاختلاف، تستغل مساحات الحرية التي وفرتها شبكات التواصل الاجتماعي، من أجل محاولة فرض قراءتها الحصرية والضيقة حول كل موضوع. كل من خالفهم الرأي يتعرض للتنكيل، والتثبيط، والتخوين، والتصنيف، والتشهير، والوصم.
بوليس الفكر لا يسعى إلى مناقشة الاختلافات بهدوء ونزاهة وموضوعية، لأنه يعاني من التصحر الفكري، ويفتقد لأبجديات منهجية الحوار، لذلك يلجأ، في كل فرصة، إلى ممارسة العنف اللفظي والمعنوي، وإلى المزايدة، لإفساد النقاش، والتشكيك في نوايا الآخرين، ومحاولة إجبارهم على التبرير، وحشرهم في الزاوية. هذه النزعة المتنافية مع ثقافتنا المبنية على التسامح بدأت تزرع الشك حول قيمنا، وتضعف لحمة مجتمعنا، وتقوض الإجماع والتوافق الوطني.
علينا، جميعا، إظهار قدر من التواضع تجاه القيادات التاريخية للمعارضة، لأنها استحقت بجدارة احترام جميع الموريتانيين، على الرغم من أخطائها السياسية المتعددة، وعلى الرغم من أنها لم تعد تمثل تطلعات الرأي العام، ولم يعد لديها أي طموح، سوى ترك إرث مشرف.
كما أنه على السياسيين، والمدونين، وقادة الرأي، وصانعي المحتوى، الذين يتمتعون بالأمانة الفكرية، التصدي لأمواج الرداءة السائدة، التي اكتسحت وسائل التواصل الاجتماعي، محاولة استغلال الثغرات التي يخلفها ضعف النظام وهشاشة المجتمع، لإطباق سيطرتها على ثقافتنا وممارساتنا السياسية.