يقول الرئيس الأمريكي الأسبق "جون ف كينيدي" إن "الامتثال هو سجَّان الحرية وعدو النمو"، في تعبير دقيق إلى أن النمو يحتاج إرادة للخروج عن السائد والمتعارف عليه، وذلك بشكل حر بعيدا عن الموجّهات البائدة، حيث أنه ما دامت أمة تنتظر أن يأتي إليها النجاح على طبق من ذهب فلن تعرف الطريق إلى النمو ما لم تجرب وتعمل على فرضه، كذلك فإن أفضل "طريقة للتنبؤ بالمستقبل هي إنشائه" بحسب رأي الاقتصادي والإداري الأمريكي، بيتر دراكر.
كما أن الدوافع الصادقة إلى تغيير واقع معيش منذ عقود هي الوسيلة الأكثر مساهمة في النجاح وتحقيق المنشود، ذلك ما يراه "كلايتون كريستنسن" الخبير الاقتصادي الأمريكي وأحد الأستاذة المبرزين بجامعة هارفرد.
لقد فضلت أن أبدأ بهذه الديباجة لوضع إطار عقلي مبني على التجربة، ولتلخيص حقيقة مضمرة أن الرغبة في تغيير واقع الشعوب ليس مؤرقا فقط للبلدان الرازحة تحت أعباء التخلف والفقر بل أيضا كان الشغل الشاغل لبلدان وشعوب استطاعت تحقيق النمو الاقتصادي الكبير، وهو ما أود تقديمه ههنا كمدخل لاستشراف آفاق الجهود الوطنية ببلادنا للنهوض والتنمية والعبور إلى واقع مغاير قوامه الازدهار والرخاء الاقتصاديين.
والحقيقة أنه لم يشعر الموريتانيون بآمال النمو والتطور وبالإزدهار من قبل كما يشعرون بها اليوم بهذا الزخم الكبير الذي بتنا نلاحظه ونلمسه في كل الفعاليات الوطنية ولدى النخب والمواطنين العاديين، بل هنالك من رفع الطموح عاليا لبلادنا وهو ما يستحق التوقف عنده والاعتراف بحجم الثقة التي منحنا إياها فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني من خلال بلورة مشاريع كانت من سابع المستحيلات فمن كان يتوقع أن يحصل مئات الآلاف على التأمين الصحي ولا أن يتم الالتفات إلى مئات الآلاف من المهمشين والمقصيين والمنسيين واقتطاع مساعدات مالية وعينية لهم، ومن كان يظن أن الدولة ستطلق مشروع عشرة آلاف سكن اجتماعي، وعشرات المشاريع المختلفة التي تستهدف إيجاد بنية تحتية مصاحبة ومسايرة لسياسة النمو والنهوض الاقتصادي.
إن ما تحدثت عنه هو مجرد غيض من فيض من الإنجازات التي غطت مختلف المجالات، والتي تعتبر جزءا من منظومة استراتيجية وطنية طموحة تلمسنا حقيقتها في عمل الحكومة تناغما مع برنامج فخامة رئيس الجمهورية الذي قدمه لمأموريته الأولى، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه أمام آمالنا في تحقيق المزيد من الإنجازات في مختلف المجالات والقطاعات في مأمورية ثانية لاشك أن الشعب الموريتاني سيمنحه إياها في الاستحقاقات الرئاسية المقرر تنظيمها في التاسع والعشرين من شهر يونيو 2024، وذلك لتمكين رئيس الجمهورية من تحقيق جملة من الأهداف الكبرى التي نقرأها بين سطور خطاب إعلان ترشح فخامته، من أجل تحقيق الازدهار والرخاء للشعب الموريتاني الذي آمن بمشروع الجمهورية دولة القانون والعدالة الإجتماعية والحكم الرشيد.
أولا - الحفاظ على أمن واستقرار البلد
بات من نافلة القول إن التنمية والرخاء الاقتصاديين لا يمكن أن نتخيلهما في بيئة مضطربة وهائجة بفعل غياب الأمن والاستقرار، لذلك فإن ألح الأولويات في مأمورية رئيس الجمهورية الثانية هي الحفاظ على أمن البلاد واستقرارها السياسي والاجتماعي، وذلك هو ما وعته السلطات العليا بالبلد بشكل لافت خلال سنوات المأمورية الأولى وعملت عليه من خلال تحديث الاستراتيجية الأمنية وعصرنة الجيش والقوات المسلحة وقوات الأمن لكي تقتدر على حماية بلادنا من شبح كل التهديدات التي نراها تشعل لهيب الحرب في مناطق مختلفة بالعالم ومنها محيطنا الجغرافي الذي يشهد فوضى عارمة تقوض الاستقرار والتنمية وتثبيت السكان.
إن الحفاظ على أمن واستقرار البلد ووحدته الوطنية لا يمكن أن يتم سوى بتطوير نظرتنا إلى الأمن ووضع اسراتيجيات محينة كفيلة بإبعاد المخاطر عن بلادنا وحماية مصالحنا الحيوية والاستراتيجية التي هي خط أحمر لا تقبل التهديد ولا المساس.
ثانيا - الحفاظ على المكسب الديمقراطي للجمهورية
إن بلادنا تشهد مرحلة هامة من مراحل تاريخها المعاصر فهي مقبلة على جملة من الأحداث أهمها دخولها نادي مصدري الطاقة العالميين وتثمين إنتاجها المعدني ومن مختلف المنتوجات الزراعية والصناعية، وهو ما يتطلب العمل على الحفاظ على جو ملائم للحياة السياسية بحيث توفر الغطاء اللازم لانطلاق بلادنا نحو المستقبل دون التفات إلى الوراء، وهو ما يعني الحفاظ على المكاسب الديمقراطية التي حققتها الجمهورية وعززتها سياسة النظام وتعاطي رئيس الجمهورية مع الفاعلين إيجابا من خلال سياسة الباب المفتوح، وهو ما أثمر العديد من المكاسب أولها التهدئة السياسية والانفتاح الكبير، واختفاء مظاهر شيطنة الغريم، هذه السياسة التي قابل بها النظام مختلف الفرقاء مهدت لميلاد سنة ديمقراطية جديدة قوامها التشاور الوطني البناء الذي أسس لاتفاق التشاور والتظيم التشاركي بمشاركة جميع الأحزاب السياسية، وبإشراف من الحكومة ممثلة في وزارة الداخلية واللامركزية، مفضيا إلى انسيابية الإجراءات واحترام الآجال الدستورية للعملية الديمقراطية كما أدى إلى تنظيم الانتخابات النيابية والبلدية والجهوية 2023 بشفافية وفي أجواء مرضية.
إن المأمورية الثانية هي مأمورية إشراك الجميع بما فيهم فئة الشباب ومنحهم الثقة اللازمة للمشاركة في مراحل البناء من التسيير والتخطيط أو في متابعة البرامج والمشاريع، أو في تقييم الإنجازات، والتقويم، ولا يخفى عليكم ما يمثله تعزيز سياسة الانفتاح من أهمية في جعل مختلف القوى جزء من العمل لبناء موريتانيا قوية بتنوعها الفكري والثقافي، وليس تعبير فخامته - في خطاب الترشح - عن كون المأمورية الثانية مأمورية بالشباب ومن أجل الشباب إلا مصداقا لذلك.
ثالثا - فتح آفاق واعدة لرخاء وسعادة المواطن
يعتبر رخاء وسعادة المواطنين من أهم الأهداف التي تحملها يافطات البلدان حول العالم لكن يختلف كل بلد عن البلد الآخر في درجات تحقق وصدق الجهود التي تقوم بها الدول للنهوض بالاقتصاد بحيث يستجيب لتطلعات الشعب، ويسهم في تخفيف أعباء الحياة وصولا إلى إسعاده وجعله في رخاء وازدهار، ولقد قطعت بلادنا شوطا هاما في ذلك المجال استنادا على جدية الدولة من أجل تحقيق أكبر استفادة من القطاعات الإنتاجية وتثمين الثروات الطبيعية والاستخراجية بحيث تكون رافعة للاقتصاد الوطني حيث يتم توجيه عائداتها لبناء وتطوير الأصول الحضرية من بنية تحتية حيوية، وإنشاء صناعة وطنية خاصة في مجالات الصلب اعتمادا على الطاقة النظيفة والخضراء، وإضفاء القيمة على الصناعات الغذائية من الثروات السمكية والحيوانية والزراعية.
كما أن العمل على استغلال عائدات الغاز الموريتاني الذي سيبدأ تصديره خلال أشهر قليلة سيسهم في خفض سعر الطاقة وطنيا، وهو ما سينعكس على أسعار الكهرباء والغاز المنزلي، كما أن صادراتنا من الغاز ستؤدي إلى رفع الناتج الوطني وهو ما سينعكس على تحسن ميزانية الاستثمار وتحسن مسوى المعيشة، وتحسن كبير على مستوى دخل الفرد، وانتعاش مختلف القطاعات الخدمية، وهو ما يفتح آفاقا كبيرة للنمو الاقتصادي وترقية التدخلات الاجتماعية لتمكين جميع الموريتانيين من ذات الظروف الاقتصادية ونوعية التعليم والخدمات الصحية وتوفر المهن.
رابعا - تطوير وترقية العمل الاجتماعي
إن المتابع لعمل الحكومة ولا سيما عمل المندوبية العامة للتضامن الوطني ومكافحة الإقصاء، المعروفة اختصارا بالتآزر لا شك سيلاحظ حجم الإنفاق الحكومي على دعم الفئات الهشة والرفع من قدرتها على مجابهة انعكاس تبعات الأزمات العالمية التي أثرت على أغلب دول العالم، وكان من أبرز ضحاياها الفئات الاجتماعية الهشة في تلك البلدان، ولكن والحقيقة أن بلادنا نجحت في تخطي تلك الأزمات التي كانت أولاها جائحة كوفيد التي أعاقت قليلا ديناميكية أداء الجهاز الحكومي لكنها عجزت عن كبح جماحه بينما قام بتدابير عاجلة بتعليمات عليا من رئيس الجمهورية بالتخفيف من تبعات الجائحة من خلال توزيعات للمساعدات العينية والتحويلات النقدية استفاد منها مئات الآلاف في مختلف أرجاء البلد، والتي تطورت فيما بعد لتخصيص حوالات نقدية متواصلة لفئة كبيرة من المقيدين في السجل الاجتماعي تحت بند "تكافل" الذي تقوم به مندوبية التآزر، إلى غيره من جهود مفوضية الأمن الغذائي وقطاع الصحة من مجانية العلاج والتأمين الصحي لمئات الآلاف، والتكفل بمرضى الأمراض المزمنة والتكلفة الجزافية للنساء الحوامل وغيرها كثير.
وهكذا يمكننا القول إن لبلادنا تجربة هامة خلال مأمورية رئيس الجمهورية الأولى في مجال العمل الاجتماعي، والتي أخذت أبعادا أخرى وأكثر جدوائية حيث تم توجيه مختلف القطاعات الوزارية إلى موائمة مشاريعها مع التوجه لخدمة الطبقات الهشة، وهو ما أسفر عن توجيه عديد المشاريع خاصة من المندوبية العامة لتوفير السكن الاجتماعي لعشرة آلاف أسرة تم البدء في بناء بضعة آلاف منها، وهي في طور الانتهاء من الأشغال أو الاقتراب منه.
إن حقيقة الأمر أن المرحلة المقبلة في ظل المأمورية الثانية تحمل أهدافا كبرى بحق مصممة على الطموح الوطني لرفع أعمدة الاقتصاد وبناء البنى التحية المساعدة على النهوض ولاشك أن ترقية التدخلات الاجتماعية سيأخذ نصيبا كبيرا ليشمل فئات واسعة وترقية نوعية التدخلات لتوائم المرحلة.
خامسا - البناء على النجاحات الدبلوماسية
من اللافت للنظر أن بلادنا خلال السنوات الخمس الأخيرة أخذت منحى جديدا في بناء علاقات دبلوماسية وثيقة مع الأشقاء العرب والأفارقة واللذان يشكلان عامل قرب وجداني وجغرافي، وذلك لانتماءنا لهذين العالمين مشكلين قنطرة بينهما وجسرا للتعاون والشراكة بين الشمال والجنوب، كذلك فقد سعت بلادنا إلى تعميق علاقات الصداقة والتعاون مع مختلف البلدان حول العالم مكتسبة مزيدا من الأصدقاء ومعمقة علاقاتها لإحراز التعاون والشراكة، وهو ما جعلها تحظى باحترام دولي كبير مصدره الأساس هو نجاح تجربتنا ثلاثية التدخلات: العسكرية والفكرية والتنموية في التغلب على منابع التطرف العنيف، كما أسست لتحالفات عديدة مع مختلف التكتلات الاقتصادية في العالم وترأست خلاله بلادنا الاتحاد الإفريقي لقيادة الجهود القارية لمحاربة التخلف والفقر وبناء شراكة للنهوض بالاعتماد على الإمكانيات والثروات الهائلة والتغلب على المديونية.
إن نجاحات بلادنا الدبلوماسية كانت السر وراء تفعيل الميزات الاستراتيجية لبلادنا من حيث موقعنا الجغرافي المتميز وحجم الثروات التي حبانا الله بها من حديد وذهب ونحاس وغيرها والتي نسعى لاستغلالها أحسن استغلال لما يخدم خطط التنمية ومستقبل الأجيال القادمة، كما أن الدور الهام لبلادنا في مجال تعزيز الأمن في منطقة الساحل وغرب إفريقيا كان له بالغ الأثر في بناء تحالفات هامة مع قوى إقليمية ودولية نتقاسم معها ذات الاهتمامات، سواء في محاربة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود أو في مجال مكافحة الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين غير النظاميين، أو في مجالات الأمن الدولي وأمن الطاقة.
إنه من الواضح أن فخامة رئيس الجمهورية لم يستطع تحقيق كل هذا لولى تمتعه بقدر كبير من الحكمة الموريتانية الخاصة تلك المخلوطة بالخبرة والدراية التي اكتسبها خلال عقود من خدمة البلد من أماكن حساسة تتوخى دوما الحفاظ على المصلحة العليا للبلد، ولا شك أنه سيعمل على الحفاظ على النجاحات الدبلوماسية الوطنية وتطوير الشراكات الدولية بحيث تكون بلادنا مركزا إقليميا لا يمكن تجاهله في المنطقة، ناهيك عن تعزيز ثقة المجتمع الدولي في بلادنا للبناء على التحالفات الناجحة لما يخدم المصلحة الوطنية ويعزز نظرتنا المشتركة للمستقبل.