في مؤلفات مفكرين أمثال أحمد سعيد نوفل ومحمد البشير الإبراهيمي وجيرمي سولت، يبدو العالم العربي ضحية لمخططات غربية جعلت منه أندلساً آخر من حيث التفتيت والتجزئة وضعف الحكام وحتى ولائهم للخارج، فهل من أفق لظهور قائد بحجم يوسف بن تاشفين لوضع حد للتمزق والهوان؟
وفي كتابه "دور إسرائيل في تفتيت الوطن العربي" يرى الدكتور أحمد سعيد نوفل أن تمزيق الوطن العربي وتجزئته هدف استعماري قديم، لعب التحالف البريطاني-الفرنسي دورا كبيرا في تحقيقه للحيلولة دون إقامة دولة الوحدة العربية.
ويرى نوفل أن المصالح الاستعمارية الإمبريالية قد ارتبطت بمواقف الصهيونية وإنشاء إسرائيل لتحقيق هدفين أساسيين: الأول منع قيام الوحدة العربية، والثاني سلب الثروات واستثمار موقع الأقطار العربية وإخضاعها للإرادة الاستعمارية.
ويستشهد على ذلك بمثال من التاريخ القريب، حين استطاع محمد علي باشا وابنه إبراهيم باشا أن يوّحدا مصر وبلاد الشام وبينهما فلسطين في دولة واحدة، وأعلنوا الخروج والعصيان على الدولة العثمانية، وقتها وقفت بريطانيا وفرنسا وروسيا مع الدولة العثمانية بحجة الدفاع عن شرعيتها أمام والي مصر الباغي.
ولكن الحقيقة التي يكشفها نوفل أن وجود مشروع "وحدة سياسية" في الشرق الأوسط كان يُهدّد مخططاتهم الاستعمارية والإمبريالية التي كانوا يسعون لتحقيقها، فلم يكن يهمهم موقف محمد علي في مصر، ولا موقف الخليفة العثماني في إسطنبول، ولهذا السبب سارعت بريطانيا لاحتلال مصر، ثم أسرعت فرنسا لاحتلال بلاد الشام فيما بعد.
تفتيت الشرق الأوسط
ويمكننا أن نرى في كتاب "تفتيت الشرق الأوسط" المنطلقات التي جعلت الغرب يسعى لتحقيق "التفتيت والتجزئة"، إذ يرى مؤلفه البريطاني الأسترالي جيرمي سولت أن تضخم الذات الغربية، والنظرة الاستعلائية على الآخر من منطلقات دينية واستعمارية، كانت السبب الذي دفع العالم الغربي إلى ما يصفه بـ"التشابه بين الفعل الاستعماري والعضوي"، والطرق التي تم بها تبرير التدخل الغربي في شؤون الشرق الأوسط، فقد أقنعوا أنفسهم أن هذا الشرق هو "باثولوجيا" -أي علم للأمراض- يحق للغربي من خلاله أن يفعل ما يريد، بينما يجب على الشرقي أن يستجيب إذا ما أراد تجنب العقاب.
هذا المنطلق الثقافي جعل أحد مفكريهم يقول "إن الله أمسك علوم الإبحار عن الفرس والمغول والعباسيين والصينيين والترك.. حتى تسطع شمس الحق والحقيقة من غربنا لتضيء الشرق"، وقد ضُخمت فكرة الغرب في تاريخ العالم بالجغرافيا التي خدمت النظرة الأوروبية ثم الغربية المركزية، وبواسطة هذه الدعاية أصبحت القوى الاستعمارية الغربية ترى نفسها الأحق في تصنيف "الآخر"، وتقرير مصيره السياسي والثقافي.
ويقف سولت على دور المفكرين والمستشرقين الغربيين في غرس هذه الأفكار في عقول الغرب عامة، والساسة منهم خاصّة، فهذا المؤرخ والمستشرق الأسكتلندي وليم موير يصف الإسلام بالجمود والتخلف، وأن "سيف محمد والقرآن هما أعند أعداء الحضارة والحرية والحقيقة الذين عرفهم العالم حتى اليوم"، وأن حقوق الأقليات المسيحية في الشرق الأوسط تتعرض للخطر وشرور "الحكومات المحمدية" في الدولة العثمانية.
كانت هذه الدعاية السوداء الموجّهة ضد المسلمين ودينهم ونبيّهم خير ما يمكن أن يحرك نوازع الغرب تجاه العالم الإسلامي والعالم العربي في قلبه للسيطرة عليه وتفتيته وتجزئته، وهي الحكاية التي وقف معها بهدوء وروّية سولت في كتابه "تفتيت الشرق الأوسط: تاريخ الاضطرابات التي يثيرها الغرب في العالم العربي".
تجرع العالم الإسلامي سُم الاحتلال الغربي المباشر طوال عقود، وزرعوا في قلبه إسرائيل لاستمرار مشروع التجزئة والتفتيت، وقد وقف عدد من مفكري المسلمين في النصف الأول من القرن الـ20 يتساءلون "أين الخطأ"، وهو سؤال لا يشبه في جوهره عنوان كتاب المفكر الصهيوني المتحيز برنارد لويس، إذ تأمل مفكرونا في سؤال ما السبب الذي أدى إلى تفتيت العالم الإسلامي، وواقعه المزري الذي جعل الغربي يتحكم في كل شيء.
وكان من جملة المتسائلين والمتأملين العلامة الجزائري محمد البشير الإبراهيمي الذي قال في إحدى مقالاته "واقع العالم الإسلامي اليوم أنه مستعبد مسخّر يتعب ليسعد عدوّه ويموت ليحيي غيره ولا درجة في الخزي والهوان أحط من هذه، ولا ينكر هذا إلا مغرور بالظواهر أو مخدّر من الاستعمار أو جاهل لا فكر ولا عقل له فلا يقبل له رأي ولا يصحّ منه حكم".
وقد فكّر الإبراهيمي مليّا في أسباب هذه الحالة، ووجد أنها تكمنُ في "ضعف الأخوة الإسلامية إلى درجة قريبة من العدم، حتى أصبحت كلمة تُقال على الألسنة ولا قرار لها في القلوب، ولو كان لها معنى يخالط النفوس ويؤثر فيها لرجعت حكوماتهم كلها إلى حكومة واحدة أو إلى حكومات متحدة في الرأي واعتبار المصلحة العامة".
إذن وضع الإبراهيمي يده على سبب الداء والدواء، وهو التفتت وعدم الوحدة، وهو المرض الذي يغذّيه الفكر الصهيوني والغربي حتى يومنا هذا، فهذا الرئيس الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز يؤكد في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" أن عصر السلام والتطبيع مع العرب يجب أن تحتل إسرائيل فيه القلب المحرك لاستقرار المنطقة، وضمان أمن الدول العربية، وأنها تستطيع بالتطبيع، والسلام هو أن تنال ما لم تستطع نيله بالحرب.
واللافت أن مشروع بيريز لـ"الشرق الأوسط الجديد" وهو كتاب ألّفه في عام 1992م عقب اتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة عرفات، تطور بعد عقدين في نظر الإستراتيجية الأميركية ليصبح مشروعا ثابته إسرائيل كقوة رادعة ومهيمنة على الإقليم، ومتغيره يتمثّل في إنشاء ممالك جديدة للطوائف، ليتم تفتيت ما لم تفتته اتفاقيات سايكس بيكو في بداية القرن الـ20 سياسيا واجتماعيا وفكريا وعرقيا.
مشروع ابن تاشفين في مواجهة التشرذم
من اللافت أن الأندلس عاشت قبل ألف عام هذه الشرذمة السياسية التي نراها في "الشرق الأوسط"، وهي شرذمة كادت أن تفتك به، وتودي به المهالك، وتُعجّل بسقوط الأندلس في القرن الخامس الهجري؛ لولا أن يوسف بن تاشفين أمير المرابطين أدرك مكامن الخطر، وسُبل العلاج، وأسرع في إيجاد وتنفيذ "إستراتيجية مضادة".
كان القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي في الأندلس، ولا سيما العقود الثمانية الأولى منه، قرن تشرذم وضعف وانقسام واحتراب أهلي، فقد الأندلسيون وحدتهم السياسية حين قامت الثورات والانقلابات العسكرية ضد الأمويين حكام البلاد، وراحت كل منطقة من مناطق الأندلس تستقل سياسيا ويحكمها أمير، سرعان ما غرته الوقائع والاضطرابات بأنه جدير بالملك والإمارة.
وهكذا أصبح لدينا في الأندلس قرابة الـ20 أميرا سمّاهم المؤرخون "ملوك الطوائف"، فلكل طائفة أميرها الذي يتحكم في رقاب أهلها، بل يطمع فيما لدى غيره من جيرانه اللدودين، بينما هناك في الشمال كان العدو الصليبي القشتالي القوي والمتربص يفرح بهذا التشتت والانقسام الحاصل في جسد المسلمين.
وفي حال شبيهة بالوضع الراهن في الشرق الأوسط، كان لكل واحد من هؤلاء الحكام علاقات ومصالح خاصة مع القوى الأجنبية، والتي تعمل على تفتيت وتجزئة الدولة قبل الانقضاض عليها.
وقد كان سقوط طليطلة سنة 478هـ/1067 نذير شؤم، وبلاء كبيرا، حيث أدرك المعتمد بن عباد فداحة الأخطاء التي تردى فيها بمصانعة ألفونسو ومحالفته واستعدائه على زملائه أمراء الطوائف، ولاحت له طوالع المصير المروع الذي سوف ينحدر إليه، إذا لم تتداركه يدُ العناية بعون أو نجدة غير منتظرة.
ووسط هذا تتالي السقوط الأندلسي تحرك أمير الدولة المرابطية يوسف بن تاشفين، وخاض ضد الصليبيين معركة الزلاقة الشهيرة سنة 479هـ/1086م التي انتصر فيها المسلمون، وأبيدت قوات ألفونسو ورجاله، وولّى هاربا إلى عقر مملكته في أقصى شمال الأندلس.
ولاحقا، أدرك ابن تاشفين أن مشكلة الأندلس لا تحلها هزيمة الصليبيين، وإنما تتطلب أيضا القضاء على حكام الطوائف، فأقسم على إسقاطهم وفعل، ووحدها تحت سلطان المرابطين.