*قالوا عن الأدب* …/ عز الدين بن ڭرَّاي بن أحمد يورَ

حدثني الشيخ حمدَن رحمة اللهُ عليه مِرارً عن الأدب وما يتعلق به، مِمَّا قال لي أن الأدبَ ليسَ عِلْماً، وأن الشعرَ يفقد مِن شاعريته بِقدر ما أُعْمِلَتْ فيه الأدواتُ والقوالبُ العِلميةُ وتناولتهُ أيدي المُطَرِّزِينَ والمُنَمِّقِين والمُنظِمِّين بحيث ينْأَى عن العفويةِ والألَقِ اللذينَ هُما قوامُه …

قال لي يوماً إن الأدبَ مثلُ الزهرة تَتمتعُ عن بُعدٍ بلونها الزاهِي ورائحتها الزكية، فإذا دنوتَ منها وأمسكتها تفتَّت أجزاؤها وضاعت بين يدَيك …

ومِما كنتُ أسمعُ عنده وفي الوسط عامةً أن الشعر مثلُ العِطر لا يكون شعراً إلا إذا كان جيداً مُتميزاً، فقد يتلقون ما صدر عن مُتوسط في الفقة أو في النحو أو في اللغة لا متوسط في الشعر فقد شبهوا قريضَه بِدلوٍ قصُرَت رشاؤها، فلا هي بقيت في مكانها ولا هي وصلت إلى الماء، فبقيت تترَنَّح بلا طائلٍ بين جنباتِ البئر …

مما يُروَى في هذا الموضوع، أن القاضي محمدن بن شّمَّادْ رحمة الله عليه كان في مجلس أدبٍ بالعاصمة نواكشوط تناول فيه أحد كبار الأدباء طلعةً لِلمرابطْ امحمدْ بن أحمد يورَ وأثنى على جمالِها وقال إن مما يُنتقَد عليها أن الأماكِنَ المذكورَة في ڭافِ الطلعةِ ناقِصَةٌ عن الأماكِن المذكورَةِ في الطلعة نفسها، فرَدَّ القاضي محمدن عليه بتعليق له من الدلالة في موضوعنا هذا ماله، فقد قال له محمدن ما معناهُ : “لمْ يَقُلْ امحمَّدْ الطلعةَ لِيكونَ شاعِراً” …

تِمْبَغْرَ واوْدَشْ والحَوْطَ
ما عَزْمِ كِنْتْ الهِمْ نَوْطَ

اُلا عَزْمِ نَوْطَ فِانْبُوطَ
كِنْتْ ؤُلا فابَّيْرْ المَعتُوگْ

اُحَگ إلِّ خّطَّطْ لِخْطُوطَ
فَيْدِ ما عَزْمِ كِنْتْ انْتُوگْ

اعْلَ فِمْ انْتُوگْ اُنَوْطَ
فَاهْلْ انْتُوگْ احَزْمِ مَوتُوگْ

غَيْرْ اعْيَ وِلْ آدِمْ عَزْمُ
يِخْسِرْ لَجَابُ لَأهْل انْتُوگْ

وِمَتَّنْ فِمْ اَوْدَشْ حَزْمُ
اُتِنْبَغْرَ وِابَّيْرْ المَعْتُوگْ

وقد كانت للقاضي محمدن رحمة الله عليه طُرَفٌ دقيقةٌ من هذا القبيل، منها أنه كان في جمعٍ مِن أدباء السبعينات في العاصمة، وكان الحديث حول المديح النبوي الشريف، وبالتحديد عن الموازنة بين همزية البوصيري “كيف ترقَى رُقيكَ الأنبياءُ” وهمزية أحمد شوقي “وُلِدَ الهُدَى فالكائناتُ ضياءُ”، وكأن القومَ مالُوا إلى تفضيل الأخيرة على الأولى، إلا أن محمدن كان له رأيٌ آخر، فقد قال لهم إنه يرى أنَّ في المديح جانباً رُوحياً أساسياً لا علاقة له بالشعر، فأحمد شوقي -يقول لهم محمدن – على جودةِ شعره وحُسنِ همزيتِه، لم يصِل جانبُه الرّوحيُّ إلى ما عليه البوصيريُّ وإلا لم يستخدم فعل “يقطر” في بيتِه :

والوحيُ يَقْطُرُ سَلسَلاً مِنْ سَلْسَلٍ
واللوحُ والقلمُ البديعُ رواءُ

فَ”الوَحْيُ” -يُـتابعُ محمدن – وما شاكله مِن الروحانيات لا يقطر وإنما “ينسابُ” أو يسري أو مثلُهما مِن الأفعال المعنوية التي يُتقِنُ البوصيري وأمثالُه حُسنَ استخدامِها …

تعكس تلك الآراء خلفيةً تتجافَى عن التشكل والتصنع والتطبع وما نحا نحوها مِن أفعال التكلف، يقول العلامة محمد فال “بَبَّها” بن محمذن بن أحمد بن العاقل في مديحية :

ودَعِ التصنعَ لِلأنامِ فَمَنْ غَدَا
حِلْفَ التَّصنُّعِ يحْظَ بِالآثامِ

ويقول لمرابط امحمدْ بن أحمد يورَ في قطعة مِن المُجتث :

والشِّعْر بالطبــــع نَقْدٌ
وبِالعَرُوضِ عُــرُوضُ

ومما قاله الشيخ حمدَن في نقدٍ خَفِيٍّ لِطغيان الشكليات على المضامين :

تَشَكَّلْ فَإنَّ العَصْرَ عَصْرَ تَشَكُّلٍ
ودَعْ جانِبَ المَضْمُونِ فِي زيِّ مُهْمَلِ

تَشَكَّلْ فإنَّ المرءَ يفقدُ وزنَهُ
إذا لم يَكُنْ فِي مَوضَةِ المُتَشَكِّلِ

فكمْ مِنْ بَسِيطٍ زَيَّنَ الشكلُ حَظَّهُ
وَكَمْ مِنْ رَفِيعٍ حَطَّهُ الشَّكْلُ مِنْ عَلِ

لقد استحسنتُ غايةً رَدَّ الشيخ حمدَن يوما عندما سأله بعض الصحافة في برنامج تلفزيوني سؤالاً مِن نحوِ : “هل تفضلون حمدن بن التاهْ الفقيه أو حمدن بن التاه الأديب أم حمدَن بن التاه المُفكر …”، فأجابه بكل بساطة “أفضل حمدن بن التاه الطَّبيعي” …

بسبب تأثير هذا المنحَى الأدبي – مع احترام المدارس البديعية ورُوّادِها – أجدنِي أمْيَلَ إلى ذلك الشعر الذي لمْ يُقَل مراعاةً لِجُمهورٍ افتراضيٍ فكأنه يسري مُنساباً متحرراً مِن قيود الصنعة والقوالب، تماماً كما تجري الريحُ في مَجابات تيرس الفيحاء، مِنْ ذلك عندي قولُ ابيخيري ول آجَّه :

قِفْ بربعٍ لدى المُعلَّقِ بالِ
لِعِبَتْ فيهِ لاعِباتُ الشِّمالِ

لَعِبتْ فيهِ بُـــكرةً وعَشِيّاً
وَعَفَا دِمْنَتَيْهِ مَرُّ الليالِي

ومِنْهُ عندي قول العلامة الشاعر محمدو السالم بن الشين اليَدُّوكِي :

ولوْحَكَ، إنَّ لَوْحَكَ خَيرُ إلفٍ
يَزِينكَ في المجامعِ والقلوبِ

ولا تَتْرُكهُ خَلْفَ البيتِ تَسْفِي
عليهِ السافياتُ مِنَ الجنوبِ