خاطرة جيوسياسية: الطوفان مباغتٌ، أو لا يكون...

تأكد الخبر: يحيا السنوار سقط شهيدا، وبيده سلاحه؛ ولا يخْلُ الحدث من مفاجآت لا تتمثل في موته التي كانت منتظرة في كل لحظة. لكن قلَّ من كانوا يتوقعونها كما حدثتْ.

فمن الغريب جدا وجود السنوار خارج الأنفاق؛ ومن الغريب جدا كذلك أن لا يحيط نفسه برهائن إسرائيليين كدروع بشرية تحميه ضد ضربات عدوه. والأكثر غرابة أنه مات صدفة دون أن يستهدفه العدو، الذي لم يكن على علم بوجوده في تلك البناية: قصف المدفعية والدبابات الإسرائيلية كان موجها ضد مقاتلين تم رصدهم في المكان دون علم القوات الإسرائيلية بوجود السنوار بينهم.

ويبدو من الغريب أيضا أن اوساطا هامة في فتح تشكك في هذه الرواية: يقولون بأن إسرائيل كانت على علم بوجوده هنالك واستهدفته عمدا دون إخذ إذن مسبق من الولايات المتحدة. مما دفعها إلى اختلاق رواية كاذبة حول عدم علمها بمكانه، حسب تصريحات مسؤول كبير في حركة فتح. غير أن سردية هذا الأخير، الجدلية، قد لا تثير الاستغراب كثيرا، إن نحن  نظرنا إليها من زاوية العلاقات بين الفصائل الفلسطينية وما تتصف به من خلافات وصراعات، خاصة بين فتح وحماس.   

وتأكد أيضا أن الإسرائيليين أخذوا جثمان السنوار معهم.

 ومن المنتظر أن يوظف نتنياهو هذا الأمر بوصفه نصرا يحمل "دليلا ساطعا على نجاحه". ومن الوارد أن يستخدمه كأداة في مفاوضات حول تحرير الرهائن. وطبعا لن يألو جهدا لبيان هذه الأداة كقوة تفاوضية ضاربة يُعوَّل عليها للحصول على نتائج مثمرة لإطالة عمره السياسي وحكمه.

ولا يهمه كم ستدوم نشوة النصر بعده.  فهو يعلم أن "طوفانا" آخر سوف يأتي.

ولكن متى وكيف؟

لا أحد يعرف. لأن الطوفان مباغتٌ أو لا يكون. أي أن إعداد عمليات فلسطينية بحجم ونوعية تلك لتي زلزلت أسرائيل وهزت العالمَ في 07 اكتوبر من السنة الماضية في غزة يتطلب درجة عالية من السرية والتنظيم. وطبعا تحضيرها يأخذ وقتا قد تطول آجاله وقد تتسارع، حسب ديناميكية التحولات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة والعالم، وحسب مسارات المقاومة داخل فلسطين ومسارات القوى الأخرى المناوئة لإسرائيل في الشرق الاوسط وغيره من مناطق التوتر التي لها تداعيات على القضية الفلسطينية.

ويبين التاريخ والوقائع اليومية أن سياسات العدوان والإبادة وجرائم الحرب التي تنتهجها تل أبيب ستقابَل دائما بعنف مضاد تشتد أو تخف وتيرته. وهذا الوضع تجد فيه إسرائيل مبتغاها نوعا ما: الكيان الصهيوني لا يرغب حقيقة في السلم، بل يعمل نظامه على إثارة وتغذية ما يسميه "الإرهاب" شرط أن يبقى  في حدود "مقبولة". غير أن "طوفان الأقصى" أظهر أن هذا الخيار لا يخلو من مخاطر قاتلة: قد يخرج عن السيطرة بشكل مخيف إن توفرت للمقاومة شروط متعددة ومتنوعة يقع عنصر المفاجأة على رأسها، كما أسلفنا.

ورغم صعوبة تَوفرها في الظروف العملياتية والإستراتيجية الراهنة، فإن  تحقيق تلك الشروط المعقدة  ليس بمستحيل على قوم لهم إيمان بقضية شعبهم لا يضاهيه سوى إيمانهم بالله عز وجل وما زرع في قلوبهم من كراهية للمعتدي ومن قوة الأرادة لديهم والمثابرة في مواجهته.

 قومٌ محنَّكون بالكفاح.. نََخالُهم دوما يتغنوْن ويعملون  بكلمات الشاعر الموريتاني أحمدو ولد عبد القادر، وهو ينشد على لسانهم منذ أكثر من نصف قرن-أطال الله في عمره:

"نحن شعب قد صلبته المآسي   صهرتْهُ الآلام والنكباتُ

نسكنُ النار لا نبالي لظاها    زادُنا العزْمُ والإبا والثباتُ

نتلقَّى الشهيد عزاً ونصراً   والضَّحاياَ توديعهُمْ حفلاتُ

ونُغني للموتِ بلْ ونراها   في سبيل الحياة هي الحياةُ."      

 البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي)