انتهينا في قراءتنا لمقاربة الجابري عن نظرية الدولة في الإسلام الى أنه أراد أن يبني تصورا يستمد رؤيته من نهايات الحداثة المعاصرة بشرط إستناده على المرجعية الإسلامية وهي محاولة قد تبدو لأول وهلة حلقة من حلقات التوفيق ولربما التلفيق المتعددة التي عرفها العقل المسلم لا في عصر التقهقهر الحضاري الذي نعانيه اليوم بل وحتى في أزهى عصور الحضارة الإسلامية لم تبرح محاولة التوفيق قرينة البحث الجاد فيما يتعلق بالآخر فلسفة أو عرفان غنوصا وإشراق
عقول كبيرة وعبقريات فذة
ابو نصر محمد بن طرخان الفارابي وتوفيقه بين دولة النبي ودولة الفيلسوف والذي مد أواصر التوفيق الى عمق الفلسفة موفقا بين رأيي الحكيمين أرسطو أفلاطون
وفي عصرنا هذا يكون الحديث عن التوفيق بين قيمنا وموروثنا وحداثة القوم من نافلة القول ولزوم ما لا يلزم الجابري لم يكن موفقا هذه حقيقة لكنه في الآن ذاته لم يكن له أن ينسلخ عن دوافعه ومحفزاته البحثية
ذلك الوطني الإشتراكي الذي يعيش بشرط القرن العشرين داخل محدداته وقبلياته الثقافية والتاريخية شرط القرن العشرين الحداثوي الذي هو نتاج عصر التنوير بمحددات الخصوصية الثقافية للأمة المعادلة الصعبة التي نجح فيها الجابري متجاوزا استهلاك نفسه في صراعات طواحين الهواء الفارغة معارك غير معترك تشغل عن الأهم فضلا عن المهم
لم يكن بين طرفي الرفض والذوبان في تنطع الأطراف سفاهة وطيش
من هنا نجد معالجته العقلانية لمسألة السياسة في التصور الديني التي وإن كانت ليست متحررة كليا عن دوافعه ونوازعه الإيديولوجية إلا أنها كانت بحق قفزة الى الأمام ولبنة أساس يشاد عليها صرح الفكر السياسي الإسلامي دون الترسيم والتدجين لدولة اكليروس تحجب الناس عن الله ولا نقيضتها دولة طاغوت تقصي الله لتستفرد بالناس
الحقيقة الخامسة : الصحابة عالجو مسألة خلافة النبي صلى الله عليه وسلم معالجة سياسية محضة واعتبرو المصلحة واضعين القضية موضعها الصحيح كقضية اجتهادية لابد أن يعتبر فيها ميزان القوى والكفاءة والمقدرة والأهم من ذلك مصلحة المجتمع الإسلامي الوليد فيصلا له الأولوية على كل الاعتبارات حتى الدينية منها والتي تؤطر الفعل السياسي بمحددات عليا أساسها الشورى والرضا لكن بقاء الجماعة الناشئة دون اضطراب هو ما لم يكن يسمح المساس به لذا كانت كلمة الفصل التي حسمت كل جدل متعلق بالخلافة والنبي صلى الله عليه وسلم مسجى على فراشه قول سيدنا أبي بكر رضي الله عنه إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش)
قراءة سياسية تحكمها الظرفية التاريخية لمجتمع عشائري قوامه العصبيات القبلية والعرقية
ومن إستقراء الحقائق التاريخية نجد أن مسألة الدين والدولة لم تطرح في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا زمن الخلفاء الراشدين “الإطار المرجعي للجابري” ففي زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان الأمر يرجع اليه وينظر فيه إما بوحي من الله سبحانه وتعالى أو اجتهاد منه مسدد أو اجتهاد من صحابته يوافق الحق يقرهم عليه ولم يكن ينظر الى الأمر بإعتباره ملك أو دولة والتي لم تكن تبارح بساطة لفظها عقبة في المال أو الحرب كما أسلفنا كما قال تعالى :(تلك الأيام نداولها بين الناس) (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم)
والمسلمون في العهد الأول لم يكونو ينظرون للإسلام كدولة لأن الدول تتعاقب (يخلف بعضها بعضا) ودين الله لا يخلفه إلا وعد الله بنصره وتمكينه
الدين سيبقى قائما الى يوم القيامة لا يتعلق بدولة وليست شرطا لبقائه بل ان بعض المنظرين المعتبرين لم يرو ضرورة قيام الدولة إذا تحققت الفضيلة الذاتية لجميع الناس ولذا نجد أن القرآن يربط الدين بالأمة
أمة الإسلام ..
فلم تكن العلاقة بين الدين والدولة من المفكر فيه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من صحابته رضوان الله عليهم وإنما ما أصبح موضع التفكير والإهتمام منذ مرض الرسول صلى الله عليه وسلم الى وفاته هو ما عبر عنه المتكلمون ومؤرخو الأفكار المسلمون بإصطلاح “الإمامة”