كانت للإنسان في العصا مآرب واستخدامات، وكانت له معها قصص وحكايات.. فهي له -عبر تجرِبة حياته الزمنية- أداة مساعدة ووسيلة خادمة؛ تُعينه في الحَضَر، وتصحَبه في السّفر.. وبين هذا وذاك يتوكّأ عليها مستنِدا، ويهش بها على غنمه سائقا.. وليست علاقته معها منحصرة في وقت السّلم ويوميات الحياة العاديّة؛ بل هي له سلاح في ساعة الحرب، ومداهمة الخطر؛ فكما يهشّ بها على شاته يشهرها في وجه مفترِسات السّباع، ويهوي بها على معتديات الهوامّ، ويدفع بها -عن نفسه- صولة الآدمي!
ورغم أنّ أصلَ العصا عود خشب لا قضيب حديد، فإنّ ميزتَها الصلابة، ومنها اشتُقَّ اسمها، والعُهدة -هنا- على ابن دريد، الذي نُقِل عنه أنّها -أي العصا- "إنما سُميت عصا لصلابتها؛ مأخوذة من قولهم: عص الشيء وعَصَا وعَسَا إذا صلب".
**من العادة إلى المعجزة!**
ورد ذكر العصا في القرآن اثنتي عشرة مرة في معرض الضّرب، والإلقاء، والشَّقّ، والتوكّؤ، والهَشّ.. عشر منها بصيغة المفرد، واثنتان بصيغة الجمع، على حين عبّر عنها بلفظ المِنسأة مرة واحدة، في سياق الاستناد والاعتماد!
وكان من استخدام عصا موسى -عليه السلام- التوكّؤ عليها، والهَشّ بها على غنمِه، مع مآربَ أخرى أشار إليها كليمُ الله في آية سورة طه دون تفصيل، وذلك في مجالات الاستعمال اليومي العادي، أمّا الاستخدام المعجِز فقد كان من تجلّياته: شقّ البحر لعبور بني إسرائيل، وإلقاؤها لتنقلب حيّة تسعى، في آيتين خالدتين!..
**العصا.. مضرِبَ مثَل!**
لكنّ ثمّة شَقًّا وإلقاء معنويّين للعصا، يكنّى بأوّلهما عن الخروج على الجماعة، ومنه عبارة: "شقِّ العصا" التي تعني الخروج عن الطاعة، ومفارقة الجماعة، وعبارة: "إلقاء العَصا" كناية عن الاستقرار وبلوغ الوجهة، فيقال: ألقى فلان عصاه، إذا وصل المكان الذي كان يقصده واستقرّ به المطاف!
وكما دخلَت العصا تاريخ العرب -وحياتهم- عرفت طريقها إلى آدابهم وأمثالهم، ومن ذلك قولهم: "العَصَا من العُصَيَّة"، وهذا القول يُضرب للأمر الكبير، الذي يكون مبدؤه من الأمر الصغير.. وفي الدارجة الحسانية (وهي من أكثر اللهجات العربية امتياحا من اللغة الأمّ) يعبّر عن التدخل بين الصفِيّين والشديدَي القرابة بـ"الدخول بين العود وقِشرتِه"، ولعلّ ذلك مأخوذ من المثل العربي الفصيح: "لا تدخل بين العصى ولِحائها"، كما ضربت العرب المثل بـ"تفاريق العصا"، تعبيرا عن تعدّد المنافع وكثرة العوائد!
ويروى أنّ أعرابيّا سُئل عن تفاريق العصا؛ ما هي؟ فقال: "تقطع ساجورًا، ثم تقطع عصا الساجور فتصير أوتادا، ويفرق الوتد فتصير كل قطعة شظاظا، فإن جعل لرأس الشظاظ كالفلكة صار للبختي مهارا، وهو العود الذي يدخل في أنف البختي، وإذا فرق المهار جاءت منه تودية، وهي الخشبة التي تشد على خلف الناقة إذا صرت، هذا إذا كانت عصا، فإذا كانت قناة فكل شق منها قوس بندق، فإن فرقت الشقة صارت سهامًا، فإن فرقت السهام صارت حظاء، فإن فرقت الحظاء صارت مغازل، فإن فرقت المغازل شعب به الشعاب أقداحه المصدوعة وقصاعه المشقوقة، على أنه لا يجد لها أصلح منها وأليق بها" ا.هـ.
وزعموا أن الحجاج بن يوسف الثقفي لقي أعرابيا، فسأله: ما تلك بيدك؟
قال: هي عصاي أركزها لوقت صلاتي، وأُعدّها لأعدائي، وأسوق بها دابتي، وأقوى بها على سفري، وأعتمد عليها في ذهابي وإيابي، يتّسع بها خطوي، وأَثب بها على النهر، وتؤمن العثرة، وأتقي بواسطتها شر العشرة، وأُلقي عليها كسائي فتقيني الحَرّ، وتجنّبني القَرّ، وتُدني إليّ ما بَعُد عني، وتحمل سفرتي وأدواتي، وأقرع بها الأبواب، وأضرب بها الكلاب، وتنوب عن الرمح في الطعان، وعن السيف في منازلة الأقران، وأهشّ بها على غنمي.. ولي فيها مآرب أخرى!
**العصا.. بين الرمزية والأسطورية!**
هكذا استخدم الإنسان العصا أداة ووسيلة، وعرفها معجزة وآية، لكنّ تاريخ العصا أعاد نفسَه في عزّ العصر الحديث، مع استخدام المسيَّرات الموجّهة "الدرونز"؛ حيث بعثت "عصا السنوار" في الأمّة معاني استفراغ الوسع واستنزاف الحركة، مُعيدة مشهد "الهَشّ" -الذي هو أضعفُ من الإلقاء والضّرب- في حقّ المثخَن الذي أثبتته جراحُه، فكان إشهار العصا -في وجه المسيَّرة الحربية- أبلغ مشاهد المواجهة، في حقّ من كان في آخر الرّمق؛ وقد انقطع حظّه من بلوغ نتيجة إسقاط المسيّرة المحوِّمة فوق رأسه، كالذي تقوم السّاعة وفي يده فسيلة، فلا يتردّد في غرسها، ليس لأجل أن تنبت؛ بل لتُغرس فيعذَر في تسبُّبه رغم انقطاع أمل "التأثير العملي".. وكذلك رفع الشهيد أبو إبراهيم العصا في وجه المسيَّرة، وهو يودّع الحياة حميدا مقبِلا، ويفارق الدنيا رضِيا معذَرا.
وبذلك اكتسبَت العصا في يد القائد الشهيد يحيى السنوار استخداما ينظر -في معناه الرسالي- إلى غَرس الفسيلة المأمور به عند حضور الساعة.. كما يُقيم مشهدُ إشهار العصا في وجه المسيّرة -في الذهن- المشهدَ الأخير في قصة حياة سليمان -عليه السلام- حيث كان حضور العصا (المِنْسأة) عنوانَ الاستدلال على موت نبي الله الذي حُشِر له جنودُه من الجِنّ والإنس والطير؛ إذ لم ينتبه الجِنُّ لوفاته إلا حين رأوا الأرَضَة تأكل عصاه التي كان يتوكّأ عليها، حتى خَرّ على الأرض. وكذلك كان حضور العصا آخر ما رصدته عدسة جيش العدو، خلال توثيق مشهد صمود السـ.ـنوار الأسطوريّ، وكأنّما كان أبو الطيب يعني أبا إبراهيم وعصاه بقوله:
يتكسَّب القَصبُ الضعيفُ بكَفِّه
شَرفا على صُمِّ الرماح ومَفخَرا
ويَبينُ فيما مسَّ منه بَنانُه
تيه المُدِلِّ فلو مشى لتَبختَرا!
نعم؛ إنها الهيبة النافذة تُكسِب العصا شرَفا لا تبلغه الحديدة، ومن هنا كانت "دِرّة عمر أهيَب من سيف الحَجّاج"، كما في المثل السّائر.. ولعمري لو أدرك أبو الفضل الميداني ذلك المشهد التاريخي، لأضاف إلى "مَجمع الأمثال" هذا التعديل:
"ومن أمثال العرب: "رماهم بعصا السـ.ـنوار"، يضرب للذي يُثخِن أعداءه، ويستفرغ الوُسعَ في دفعهم حتى آخرِ رمق!
وأصله أنّ فارسا من بني سـ.ـنوار أغار على عدوّه، حتى إذا استنفد ما كان عنده من ذخيرة، وأثبتَته جِراحُه، لم يبق في يده إلّا عصا فشهرها في وجوههم وهوى بها عليهم، ولم يزل يجالدهم بها -طريحَ كرسيِّه- حتى فاضت روحه، فضربَت العرب عصاهُ مثلا للإثخان الذي يَذهب بروح صاحبه!".
**مشهد العصا.. من الصرصري إلى السـ.ـنوار**
وقد أعادت ثنائية يحيى والعصا مشهدا قديما من عصر الدولة العباسية، يعود تاريخه إلى أيام اجتياح التتار عاصمةَ الخلافة، ومذابحِهم في بغداد؛ حيث رفض شيخ اسمه يحيى الصرصري تلبية دعوة المُثول بين يدي قائد التتار، وجمع بعض الأحجار ليرمي بها الجنود إذا وصلوا منزله، فأصاب بها بعضهم، قبل أن يخلصوا إليه، فما كان منه إلا أن جرّد عكازه وحمل عليهم به، حتى أوقعوه أرضا ثم قتلوه مقبلا مواجها، لا مستسلما راغما!
ليجدّد اليومَ القائد أبو إبراهيم يحيى السـ.ـنوار الشيخَ أبا زكريا يحيى الصّرصري، ويشبهه في الثبات والإعذار، رغم خذلان الرسميات العربية، وسادية العدوّ، ومذابح الاحتلال.. وقد مثّل حضور العصا في المشهد الأخير مِن مواجهة القائد السـ.ـنوار والشيخ الصرصري "لقطة" أسطورية، تحوّلت فيها العصا إلى "رمز وطني" في حقّ القائد الفلسطيني المشتبك، والرّمز وَلود في تاريخ النضال الفلسطيني، متجدِّد في ثقافة المقاومة.
ولقد كان الفرق بين "اللقطتين" أنّ عُكّاز يحيى الصرصري كان سلاحا، وعصا يحيى السـ.ـنوار كانت رسالة، وقد وصلَت!