الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله..
أما بعد، فيمكن تناول هذه النازلة - فقها - من زوايا خمس:
١. المزاد العلني:
وهو تطوير - إداري معاصر - لبيع المزايدة المعروف فقها؛ وأصله الجواز؛ ما توفرت أركانه وشروطه وسلم من موانعه، واتّسم بالشفافية والإفصاح والعدل والمصداقية.
٢. حكم وضع الجمركة على البضائع المستوردة:
وهي إما مستوردة من البلدان غير المسلمة، أو من البلدان المسلمة:
أ. أما البضائع والمعدّات المستوردة من البلدان غير المسلمة التي تربط الدول المسلمة بها المعاهدات والمواثيق الدولية للتعاون
- ومن بينها الاتفاقيات الجمركية -
فهذه لا إشكال في الالتزام بالتعامل العادل بها، والمعاملة بمثل ما تعامل به هذه الدول صادرات الدولة المسلمة (وإلا كان ذلك ظلما للدولة المسلمة في الميزان التجاري)
ب. البضائع والمعدّات المستوردة من البلدان المسلمة: ومن المعروف أن الدولة القطرية (داخل الأمة الإسلامية) أمر مستجدّ، تعاطى معه فقهاء العصر بإيجابية؛ باعتباره أمرا واقعا. ومن المعروف كذلك أن الجمركة البينية بينها، محكومة بالنظم العامة والاتفاقيات الثنائية بينها.
وبالتالي، فإن وضع الرسوم الجمركية - فقها - أمر خاضع للضرورات والحاجيات التي تقدّرها الدولة، انطلاقا من عجز الموازنات لديها واحتياجاتها المالية للقيام بمسؤولياتها؛ الاجتماعية والاقتصادية والأمنية... وغيرها.
وهو المنطلق الذي انطلق منه الفقهاء الذين أجازوا وضع الضرائب، عند نضوب موارد الخزينة العامة (بيت المال) أو قصورها عن حدود الضرورة؛ مع لزوم أن تفرض الضرائب (وكذلك الرسوم الجمركية) بعدالة وأن لا تتعدى ضرورات قيام الدولة بمسؤولياتها الأساسية.
٣. احترام القانون:
بعيدا عن فقه البداوة وتقديراتها، والنظر الفردي ومخرجاته، فإن فقه الدولة والنظر الجماعي للاجتهاد المعاصر، يقضيان بأن قيام الدولة واستقرارها وقوتها وأمنها وسكينتها، فرائض شرعية وضرورات واقعية؛ لما يرتبط بها من حماية دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم، وتحقيق مصالحهم...
ولا يتأتى قيام الدولة واستقرارها وقوتها وأمنها وسكينتها، إلا باحترام مؤسساتها والالتزام بقوانينها (ما لم تصادم هذه القوانين حكما شرعيا مجمعا على حكمه) ولذلك كانت المنطلقات الشرعية ناطقة بهذه المعاني المعزّزة لقيام الدولة واحترامها، حتى ولو أدى ذلك إلى مصادرة المال الخاص لصالح المصالح العامة (في أفق العدل والرفق)
٤. التعزير بالمال:
إذا كانت هذه البضائع أو المعدّات قد صودرت من أصحابها بطرق قانونية وأتيحت لهم فرصة الإعذار بجمركتها خلال المدد القانونية، فإن الإبقاء عليها إلى أن تفسد وتضيع تحت رحمة عاديات الزمن، مفسدة لا يقول بها عاقل!
وإذا كانت القوانين تنص على عرضها (بعد الإنذار والإعذار) في المزاد العلني، ووضع أثمانها في الخزينة العامة، فإننا نتحدث عن عقوبة مالية (تعزير بالمال)
والتعزير بالمال وإن كان الجمهور يرى منعه، فإن من العلماء من قال به؛ مثل ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وفتوى البرزلي - منا معشر المالكية - بشأن "المغرم" مشهورة، وبه يقول بعض المعاصرين (إن لم نقل جلّهم) ومنهم ابن عثيمين، وغيره... مسترشدين بالمصالح المرسلة البينة والضرورات الحقوقية الحديثة في الاعتياض عن العقوبات البدنية - في غير الحدود - بالعقوبات المالية (أيهما اقرب لروح الشرع؛ أن تنص القوانين على جلد من تجاوز إشارة المرور عشر جلدات، أو تغريمه ستة آلاف أوقية؟!)
وكذلك استظلالا بحديث الزكاة: "ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا" وهو في أبي داود والدارمي وغيرهما، وإن ردّ الجمهور بنسخه، فإن المستندين إليه شككوا في نسخه.
وبالتالي، فإن الأصل الفقهي هو الالتزام بالقوانين المطبقة وتعزيز هيبة الدولة واحترامها، صونا لمصالح المسلمين ورعاية لضروراتهم؛ من المحافظة على أمنهم واستقرارهم وسكينتهم.
هذا، ما لم تصادم هذه القوانين أمرا مجمعا عليه شرعا؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف، في المسائل الخلافية، كما هو معلوم.
٥. الإكراه الشرعي طوع:
وعليه فإذا كان ملاك هذه البضائع والمعدّات لم يلتزموا بالقوانين السارية، وكانت هذه المصادرة تمت بحكم القانون (الذي لا يصادم مجمعا عليه كما رأينا) واحتُرمت فيها مدد الإنذار والإعذار المنصوصة قانونا، وتمت المصادرة وقف هذه القوانين الموصوفة أعلاه، وعلم ضرورة أنها لن تعود لمالكيها المخالفين، فلا أرى مانعا من شرائها؛ فقها وقانونا.
وعلى المتورع عنها أن يتورع في خاصة نفسه، دون أن يشكّك في مصداقية مؤسسات الدولة أو يهون من هيبتها في أعين العامة، وعلى الفقيه المواطن إذا كان يرى أن مستند هذه القوانين مرجوحا (وقد يكون) أن يمارس حقه في النضال السياسي والتوعية الفكرية، لتغيير هذه القوانين. وكثير من قوانيننا تحتاج المراجعة وفق أسس الشرع ومقتضيات المصلحة.
والله تعالى أعلم
د. محمدٌ محمد غلام