مع اقتراب الذكرى الرابعة والستين لاستقلال موريتانيا، يظل التعليم قضية محورية تؤرق المجتمع. فعلى الرغم من الجهود المبذولة لتحسينه، إلا أن مستواه يشهد تراجعًا مستمرًا. هذا الوضع يدفعنا إلى التفكير في بدائل مستدامة قد يكون أفضلها التفكير في الإستفادة واستخلاص الدروس من تاريخنا الثقافي والتعليمي العريق. ومن هنا تأتي فكرة العودة إلى نظام التعليم المحظري الأصيل، مع تحديثه ليواكب متطلبات العصر.
إن النظام المحظري هو تجربة موريتانية فريدة في مجال التعليم، حيث يعتمد على مبادئ بسيطة ولكن فعالة. لا وجود للاختبارات أو الامتحانات التقليدية، وهو أمر قد يبدو غريبًا للبعض، لكنه أثبت نجاعته على مدى قرون فالطالب في المحظرة يقرأ ما يستطيع حفظه، ويستمع لشيخه، ثم يختلي بنفسه للتكرار والمذاكرة. له الحرية في التعاون مع زملائه وتدوين ملاحظاته. هذا الأسلوب يعزز من قدرة الطالب على الاستقلالية والتفكير النقدي، ويضع المسؤولية الكاملة على عاتقه لتحقيق التعلم وكما نعلم جميعا، فإن النظام المحظري أنتج علماء ومفكرين أثروا الساحة الإسلامية والعربية في مختلف العصور والأمصار في حين أنهم لم يخضعوا لأي امتحانات أو اختبارات، لكنهم تميزوا بعمق الفهم وقوة الحجة، مما يجعل النظام المحظري نموذجًا يمكن البناء عليه.
يُشار كثيرًا إلى النظام التعليمي الفنلندي بوصفه أحد أفضل الأنظمة في العالم و ما يلفت الانتباه في هذا النظام أنه يبتعد عن الضغوط التقليدية، مثل الامتحانات الموحدة. بدلاً من ذلك، يركز على التعلم الفردي، وتنمية قدرات الطالب بناءً على احتياجاته ومهاراته وهذا النهج، في جوهره، يشبه إلى حد كبير الأسس التي يقوم عليها النظام المحظري، مما يدل على أن التخلص من الامتحانات لا يعني تراجع مستوى التعليم، بل قد يؤدي إلى تحسينه.
إن الدعوة إلى إحياء النظام المحظري الأصيل ليست دعوة للعودة إلى الماضي فقط، بل هو دعوة لإعادة النظر في الأسس التي جعلت هذا النظام ناجحًا، وتطويرها بما يتناسب مع متطلبات العصر الحديث و يمكن تحقيق ذلك من خلال عدة أمور من أهمها:
1. إدخال التكنولوجيا: استخدام الوسائل الرقمية لتوفير المواد التعليمية وتعزيز التواصل بين الطلاب والأساتذة، مع التركيز على التعليم التفاعلي.
2. تعليم اللغات الحية: توسيع المناهج لتشمل اللغات العالمية مثل الإنجليزية و الإسبانية والتركية والفرنسية، مما يمنح الطلاب فرصة للتفاعل مع العالم الخارجي والاستفادة من مصادر المعرفة الحديثة.
3. تنظيم التعلم الفردي والجماعي: تعزيز روح التعاون بين الطلاب مع الحفاظ على دور الأستاذ (الشيخ) كمرجع أساسي.
4. تقييم مستمر بدلًا من الاختبارات النهائية: وضع معايير مرنة لتقييم الطلاب تعتمد على أدائهم واستيعابهم بدلاً من نظام الدرجات التقليدي.
إن النظام التعليمي الحالي، الذي يعتمد بشكل كبير على تجاوز السنوات و الحفظ فقط من أجل الإمتحان، لا يحقق النتائج المرجوة. بل إنه يساهم في خلق بيئة تعليمية مليئة بالضغوط النفسية التي تؤثر على الطلاب بشكل سلبي و بالتالي فإن العودة إلى النظام المحظري تتيح بناء جيل مستقل فكريًا، قادر على التعلم الذاتي، ومتصل بتراثه الثقافي، مع امتلاك الأدوات اللازمة للنجاح في العالم الحديث.
وأخيرا وفي ذكرى استقلالنا الرابعة والستين، آمل أن نستعيد الثقة في نظامنا التعليمي الأصيل، مع تحديثه ليكون أكثر شمولًا وملائمة للعصر فإحياء المحظرة ليس مجرد حنين للماضي، بل هو مشروع لإعادة بناء هوية تعليمية تجعل من موريتانيا منارة علمية، كما كانت دائمًا.
محمد محمود آبيه (كاتب موريتاني مهتم بالشؤون المحلية)
cheabeih@yahoo.fr