تعليق على قرار المجلس الدستوري رقم:09/2024- يعقوب ولد السيف(*)

 في 27 نوفمبر 2024 تم إيداع عريضة الطعن بعدم دستورية (المادة 2/ق. م. ف)، لكن الأجل المتاح لبت المجلس الدستوري في تلك الدعوى (15 يوما) لم يبدأ فعليا إلا يوم: الإثنين 02 دجمبر.
ثلاثة أيام من ذلك التاريخ كانت كافية ليذاع القرار :09/2024، الذي لما ينشر بعد، وعلى الراجح لن يكون له ذلك قبل منتصف الشهر؛ تاريخ إصدار العدد نصف الشهري للجريدة الرسمية، أي بعد قرابة انقضاء أسبوع على استئناف محكمة الأصل الذي تفرع عنه الدفع بعدم الدستورية جلساتها!
القرار:09/2024، تأسس على ثلاث حيثيات، جاءت فى ثمانية أسطر، وخلت من أي استشهاد بالنص المعياري أو بقية الكتلة الدستورية، إذ اعتمدت الملاءمة بديلا للقانون، وهو ما لا يتسق مع ما ذهب إليه المجلس الدستوري نفسه في قراره رقم: 002 / ق.م17 و22 يونيو 1992 ، وما استقر عليه عمل نظيره الفرنسي من أن المجلس يحكم "بالقانون وليس طبقا للملاءمة"
الحيثية الأولى، حملت مصادرة على المطلوب من المجلس، وذلك عندما انطلقت ومن دون تأويل أو تأسيس وبشكل بات من أن:" الموظف العمومي في مفهوم قانون مكافحة الفساد يشمل جميع من يقدمون خدمة عامة للدولة بمن فيهم رئيس الجمهورية..." مع أن هذا هو مدار النقاش.
في الواقع، فإن الذي يخالف الدستور ليس نص (المادة 2) من القانون رقم: 2016-014، بتاريخ: 15 إبريل 2016 المتعلق بمكافحة الفساد، بل التأويل الذي أعطي لها خلال المسطرة التي توجت بحكم المحكمة المختصة بالجرائم المتعلقة بالفساد وتنظر استئنافه الغرفة الجزائية الجنائية بمحكمة الاستئناف بانواكشوط الغربي.
إن قيمة ألية الدفع بعدم الدستورية تكمن في ما تتيحه من رقابة على القوانين أثناء تطبيقها، وذلك من أجل الحيلولة دون استقرار فقه قضائي مخالف للدستور. من هذه الزاوية حتى القوانين التي كانت خضعت لرقابة مطابقة لا تحصن مطلقا أمام الدفع بعدم الدستورية متى تغيرت الظروف أو الوقائع، فالمجلس الدستوري بحكم اختصاصه في تفسير الدستور بمناسبة إحالة تعرض عليه، وفى حدود ما تقتضيه مراقبة دستورية القوانين، هو الجهة المعنية   بتبيان كيفيات تطبيق القواعد والإجراءات الواردة في الدستور بما يتلاءم مع سموه ووحدة البناء القانوني للدولة.
التعويل على تعريف هذه المادة للموظف العمومي لإدخال رئيس للجهورية دائرة المساءلة عن الأفعال المجرمة بمقتضى قانون مكافحة الفساد، يعنى عمليا الاعتراف بخروجه عن تلك الدائرة قبل صدور هذا القانون، أو لولا التأويل الذي يشمله، رغم تضمن قانون العقوبات وغيره من القوانين ومدونات السلوك للكثير من العقوبات الجزائية والجنائية والتأديبية المسلطة على الموظفين العموميين، لارتكابهم أفعالا مشمولة بصفة الفساد وفق ما سيأتي به قانون مكافحته، وفى ذلك ما فيه.
في قرار المجلس الدستوري رقم :09/2024، بتاريخ :05 دجمبر 2024:" الموظف العمومي في مفهوم قانون مكافحة الفساد يشمل جميع من يقدمون خدمة عامة للدولة بمن فيهم رئيس الجمهورية، ولا يقتصر على مفهوم موظف الدولة الوارد ذكره في القانون 09-93 الصادر بتاريخ 18 يناير 1993."، معتمدا في هذا التأويل على تأسيسين تنقصهما الوجاهة: 
-فالقول بالخيار الحدي بين إبقاء التأويل بأن التعريف المقدم للموظف العمومي يشمل رئيس الجمهورية وإلا "حذف الفقرة وإعلانها مخالفة للدستور"، ما سيؤدى إلى:" إفراغ باقي نصوص هذا القانون من أي محتوى أو معنى لأنها تعني فيما تعنيه عدم تطبيق هذا القانون على كل من هم في هرم السلطات مما يشكل خرقا سافرا للقانون".
إن هذا الخيار غير وارد؛ لأن الأمر يتعلق بالتماس تأويل هذه الفقرة في ضوء المقتضيات الدستورية والنظم القانونية الوطنية والمعاهدات الدولية المصادق عليها بالخصوص، ولا يقتضي مسها بتعديل، أحرى أن يرتب حذفها، ذلك أن مدار النقاش محصور حول مساءلة الرئيس، الأمر غير المطروح بالنسبة لبقية من هم في هرم السلطة. 
- الربط بين المصلحة العامة وتعميم المساءلة:" المصلحة العامة للبلاد التي حتمت إصدار قانون مكافحة الفساد تقتضي مساءلة الجميع عن الجرائم المتعلقة به"، وهو ربط غير لازم بالضرورة ؛بدليل ما حوت (المادة 93 /جديدة ) من تمييز بين رئيس  الجمهورية ،من جهة ، ووزيره الأول وأعضاء حكومته ؛ فالرئيس:" لا يكون رئيس الجمهورية مسئولا عن أفعاله أثناء ممارسة سلطاته إلا فى حالة الخيانة العظمى " وفى فقرة لا حقة نجدها تنص على أن :"الوزير الأول وأعضاء الحكومة مسئولون جنائيا عن تصرفاتهم خلال تأدية  وظائفهم والتي تكيف أنها جرائم أو جنح وقت ارتكابها...".
غير لازم كذلك بمنطق قرار المجلس رقم :008/2024، الذي ميز رئيس الجمهورية عن باقي المسئولين العموميين مؤسسا لذلك التمييز على عاملين حاسمين:
-طبيعة المسئوليات :(هو حامي الدستور وهو الذي يجسد الدولة)
-وجود آلية مساءلة خاصة، وجزاءات رادعة تضمنتها وبينتها (المادة 93 /جديدة) من الدستور. ورئيس المجلس الدستوري سيد العارفين بتلك الحقيقة، وهو الذي كان عراب مشروع التعديل الدستوري الذي حمل إلغاء محكمة العدل السامية، وأخذت عليه المعارضة منحاه لإلغاء مساءلة رئيس الجمهورية بإلغاء الجهة المعهودة لمساءلته. وما أعقب ذلك من الإبقاء على هذه المؤسسة في مشروع القانون الاستفتائي تطمينا لتلك الهواجس.
إن تأويل (المادة 2) من قانون مكافحة الفساد بما يدخل رئيس الجمهورية أو يخرجه دائرتها يستدعى مراعاة الآتي:
-أن نص القانون 2016-014، يكرر حرفيا أحكام اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لسنة 2004، التي صادقت عليها موريتانيا في: 25 أكتوبر 2006، وبتلك المصادقة تقع الاتفاقية ملزمة لموريتانيا وتحوز سلطة فوق سلطة القانون (المادة 80) من الدستور. لكن الاتفاقية نفسها تعطى للقوانين والمبادئ الدستورية للدولة الطرف السلطة التقديرية في ما يتخذ من   تدابير تشريعية وتجريمية للأفعال الجرمية الواردة بالاتفاقية؛ فنجد مثلا :(المادة 20/فقرة 1) عن الإثراء غير المشروع، تنص على:" تنظر كل دولة طرف، رهنا لدستورها والمبادئ الأساسية لنظامها القانوني، في اعتماد ما قد يلزم من تدابير تشريعية وتدابير أخرى لتجريم ...".
 نفس الأمر بالنسبة ل :(المادة 23/فقرة 1) غسل العائدات الجرمية:" تعتمد كل دولة طرف، وفقا للمبادئ الأساسية لقانونها الداخلي ما قد يلزم من تدابير تشريعية وتدابير أخرى لتجريم ...".
ومثلهما (المادة 27): عن المشاركة والشروع، التي اعتمدت في فقراتها الثلاث نفس المعيار:" وفقا لقانونها الداخلي".
-أن الاتفاقية بالنسبة لتنظيم الملاحقة والمقاضاة الجزاءات تبنت تغليب النظام القانوني والمبادئ الدستورية للدولة الطرف حيث جاء في (المادة 30/فقرة 2) أنه:
"تتخذ كل دولة طرف، وفقا لنظامها القانوني ومبادئها الدستورية، ما قد يلزم من تدابير لإرساء أو إبقاء توازن مناسب بين أي حصانات أو امتيازات قضائية ممنوحة لموظفيها العموميين من أجل أداء وظائفهم وإمكانية القيام، عند الضرورة، بعمليات تحقيق وملاحقة ومقاضاة فعالة فى الأفعال المجرمة في هذه الاتفاقية...".
يترتب على هذا النص في الحد الأقصى وعندما تريد الدولة الطرف تقليص حصانات مقرة بالدستور إجراء تعديل على المقتضيات الناظمة للحصانات والامتيازات القضائية المقررة لمصلحة وظائف معينة حتى تتأتى مقاضاة من تسند لهم عن أفعال تجرمها الاتفاقية.
لمثل هذا الغرض أدخلت فرنسا التعديل الذي جاء في المادة 53-2:"يمكن للجمهورية أن تعترف بهيئة المحكمة الجنائية الدولية وفق الشروط المنصوص عليها في المعاهدة الموقعة في 18 يوليو1998"، بغية تحقيق توازن مناسب بين الحصانة الممنوحة له بموجب (المادة 67):" لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولا عن الأفعال التي يؤديها بهذه الصفة..."، ومن جهة ثانية، ضرورة قيام المحكمة الجنائية الدولية بعمليات تحقيق وملاحقة ومقاضاة فعالة بحق الرئيس الذي يرتكب الأفعال المجرمة في ميثاق روما.
وضعية وحدود قابلية مساءلة رئيس الجمهورية بحسب قرار المجلس الدستوري: 09/2024، تأثرت بالقول بأنه مشمول بالتعريف المقدم من (المادة 2) من قانون مكافحة الفساد للموظف العمومي، لكن تحقق حصول ذلك التغيير يفترض أن لا يبنى على تأويل؛ بل على إقرار صريح من خلال تعديل يطال الحصانات والامتيازات القضائية القائمة.
مثل ذلك التعديل لم يحصل ،ولا تدعيه موريتانيا .و عدم حصوله لم يسبب ملاحظة سلبية عليها في عرضها أمام فريق استعراض الاتفاقية، ففي وثيقة مؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد ورذ عن: فريق استعراض التنفيذ، الدورة الثامنة المستأنفة فيينا، 7 و8 نوفمبر 2017، البند 2 من جدول الأعمال، استعراض تنفيذ اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، خلاصة وافية، مذكِّرة من الأمانة، الصفحة 4) عن واقع الحصانات والامتيازات القضائية في النظام القانوني والمبادئ الدستورية في موريتانيا، بصيغة الإخبار ودون عدها عراقيل أمام تنفيذ الاتفاقية:
"ويتحمل رئيس الجمهورية مســــــؤولية الأفعال التي يقوم بها أثناء أدائه لواجباته في حالة الخيانة العظمى (المادة 93 من الد ستور). ويتحمل رئيس الوزراء وأعضاء الحكومة المسؤولية الجنائية عن الأفعال التي يقومون بها أثناء أدائهم لواجباتهم والتي تُصنَّف كجرائم أو جنح وقت ارتكابها. وتنص المادة 18 من الأمر رقم 012-2007 بشأن التنظيم القضائي على أنه لا يجوز متابعة رئيس المحكمة العليا للقضاء جنائيًّا إلاَّ في حالة التلبس، وبموافقة مسبقة من المجلس الأعلى للقضاء. ويَتطَلَّب القانون رقم 20- 93 المتعلق بالنظام الأساسي لمحكمة الحسابات الرأي المسبق للمجلس الأعلى للقضاء لملاحقة أعضاء محكمة الحسابات."
وهذه الوضعية لا تنفرد بها موريتانيا، ففى قائمة الدول التي صادقت على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد من لا تسمج دساتيرها بالتعرض لذات الحاكم، ومع ذلك يتلقى تطبيقها للاتفاقية إشادة كبيرة من الأجهزة الرقابية للاتفاقية الدولية.
في ضوء ما تقدم لا تنافر بين ما ورد في المادة الأولى من القرار من دستورية:" الفقرة ب/1 من المادة 2 من القانون رقم 2016/014 بتاريخ 15 إبريل 2016، وما ورد في مادته الثانية من أنها:" لا تتعارض مع الحقوق والحريات التي تمنحها المادة 93 من الدستور."؛ فهى:
 -لا تخالف الدستور."، من زاوية أن الدستور لا يضع قيدا على قوانين التجريم في استخدام عبارات جامعة لا استثناءات فيها، فالدارج فيه استخدام صيغ من قبيل:" كل من "، وبالتالي رأى المجلس أن عدم   استثناء هذه المادة لرئيس الجمهورية لا يخرج عن المألوف ولا مخالفة فيه للدستور، معتبرا أن القول بخلاف ذلك يعنى ،بالضرورة المنطقية، اعتبار كل تجريم لا يقوم على التنصيص على إخراج رئيس الجمهورية من دائرته يقع مخالفا للدستور  ؛ فتطال اللادستورية كامل  منظومة التجريم التى بنيت أصلا على الوقوف عند الصفة العامة في القيام بالفعل "كل من "،ما يشكل من خطرا على الأمن القانوني و المنظومة القانونية بشكل عام.
-هي كذلك لا تمس حصانة رئيس الجمهورية كما حددتها (المادة 93/جديدة من الدستور)، وذلك باعتبار أن دور قانون العقوبات هو التجريم. أما الحصانات من المساءلة والامتيازات القضائية فيها، فقمنتها الأصلية قوانين أخرى؛ كما الحال بالنسبة لحصانة رئيس الجمهورية - سماها القرار حقوقا وحريات-، التي أكد القرار في المادة الثانية منه أن سريانها لا يتأثر بما ورد في الفقرة الأولى من تعميم في صيغة التجريم:"

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*  أستاذ القانون العام بكلية العلوم القانونية والاقتصادية في جامعة نواكشوط