قدَّم عدد من فلاسفة السياسة وعلماء الاجتماع المعاصرين تفسيرات لأسباب نشوب الثورات. فاقترح عالِم الاجتماع السياسي كرينْ برينتونْ تفسيراتٍ ثلاثةً لنشوب الثورات:
الأول: تفسير تاريخي، هو ما يدل عليه استقراء التاريخ البشري بشكل عام من أن البشر يزداد وعيهم بالحرية باطِّراد، حتى يصبح التعايش مع الاستبداد مستحيلا بمقتضى منطق الوعي البشري ذاته. وتكاد هذه النظرية تكون توليداً لنظرية الفيلسوف الألماني هيجلْ في تفسيره تاريخ البشر باعتباره مسارا مطَّردا تتوسع فيه الحرية في الوعي الإنساني والواقع الإنساني باستمرار.
والثاني: تفسير مؤسسي، وهو أن الدول -باعتبارها مؤسسات اجتماعية- إذا ضاقت عن استيعاب ما يَمُور في أحشاء المجتمع من تغيرات فكرية وبنيوية، فإنها تنفجر تحت ضغط الديناميكية الاجتماعية. فمؤسسات الدولة يجب أن تكون مواكبة للحركية الاجتماعية "وإذ تفشل المؤسسات في التغير، قد ينشأ عدم توازنٍ نسبيٍّ، وينشب ما نطلق عليه ثورة" (برينوتنْ، تشريح الثورة، 38).
والثالث: تفسير نخبوي، وهو تهميش النخبة المتعلمة، فأي سلطة همَّشت النخبة المتعلمة في مجتمعها، ولم تستوعبها سلميا في الحياة العامة، فهي تفتح أبواب الثورة على نفسها حسب رأي برينتون. ولا وقاية من الثورة -طبقا لهذا المنظور- إلا بمرونة مؤسسات السلطة، وتكيُّفها مع مطامح النخب المتعلمة التي هي شرارة كل ثورة ورائدُها وحادِيها.
أما الباحث دَيْلْ يُودَرْ فمال إلى التفسير الثقافي للثورات، وكتب "إن الثورات الحقيقية تحدُث بعيدا تحت سطح الحياة الاجتماعية. إنها التغير في نظرة المواطنين إلى مسوغات المؤسسات والأعراف التي تقف في وجه حركة الحياة التي يطمحون إليها. فالثورة الحقيقية تغيرٌ في النظرة الاجتماعية إلى القيم التأسيسية لنظام المؤسسات التقليدية. أما التحولات السياسية والدينية والصناعية والاقتصادية فهي مجرد تعبيرات ظاهرة عن ذلك التغير العميق [في النظرة الاجتماعية] الذي أخذ مداه قبل ذلك." (دَيْلْ يُودَرْ، "التعريفات الحالية للثورات" المجلة الأميركية للعلوم الاجتماعية، العدد 3، 1926).
وكان لكارل ماركس اجتهادُه في تفسير ظاهرة الثورات. وقد أدرجها ضمن تفسيره الاقتصادي لحركة التاريخ، فرأى أن سبب الثورة هو الصراع الطبقي، الذي تسبِّبه الفجوة الهائلة بين الطبقة الرأسمالية التي تملك وسائل الإنتاج، والطبقة العاملة التي تعمل بأجور. فهذا النظام غير منصف حسب تحليل ماركس، وهو صائر لا محالة إلى معركة وجودية بين الطبقتين، ينتهي بثورة الطبقة العاملة ومصادرة وسائل الإنتاج، وهدْم أسس النظام الرأسمالي. فالطبقة العاملة "ليس لديها ما تخسره سوى أغلالها" بتعبير ماركس.
أما فيلسوف السياسة الفرنسي ألسكسيس دو توكفيل فقد جعل سبب الثورات سببا بنيويا، هو تضخم جهاز الدولة المعاصرة، وتدخله في تفاصيل حياة الناس، بما لا مثيل له في الدول القديمة. فالدول القديمة كانت في الغالب امبراطوريات واسعة الأرجاء، لكنها كانت دائما رخوة البناء، خفيفة الوطأة على الناس، لا تتدخل في تفاصيل حياتهم إلا قليلا، لأسباب تتعلق ببساطة حياة المجتمعات القديمة، واستغنائها عن الدولة. أما الدولة المعاصرة فمهما يكن حجمها صغيرا ومساحتها ضيقة، فهي أخطبوط لا يترك صغيرة ولا كبيرة من حياة المجتمع إلا سعى إلى صياغته على هواه. ونظرا لإحساس الناس بوطأة الدولة المعاصرة ابتداء من النهضة الصناعية الحديثة، فإن الشعوب بدأت تثور على هذا الأخطبوط، وتسعى إلى ترويضه وتطويعه لإرادتها، بدل الخضوع له والانصياع لأهوائه. وقد تبنَّى الثائر البلشفي تروتسكي رأيا قريبا من رأي توكفيل، فتحدث عن "قسوة" الدولة المعاصرة باعتباره سبب الثورات.
وذهب المفكر السياسي الأميركي صامويل هنتغتون إلى تفسير مشابه، لكنه قلبَ نظرية توكفيل التي تنظر إلى الأزمة من أعلى، أي من منظور توسُّع الدولة على حساب المجتمع، فتناول الأزمة من أسفل، وجعل المشكلة هي توسُّع الحضور الجماهيري في الشأن العام، وضيقُ الدولة بذلك. فالسبب الأساسي للثورات من وجهة نظر هانتيغتون هو عجز بعض الدول المعاصرة عن التكيف مع عصر الجماهير، عناداً من قادتها أو جهالةً. فالدول التي تتكيف مع الحضور الجماهيري في الحياة العامة تتجنب الثورات، والدول التي تعجز عن ذلك تواجه طوفان الثورة، فتدفع ثمن تخلفها الفكري والمؤسسي، وثمنَ البلادة السياسية التي يتسم بها حكامها ونخبها المتحكمة.
وأخيرا تميل بعض النظريات إلى التركيز على الأثر الخارجي في اندلاع الثورات. ويتحدث أصحاب هذه النظرية -ومنهم تروتسكي- عن ما يمكن أن ندعوَه "عدوى الثورات". فالثورة الإنكليزية عام 1688 -المعروفة باسم الثورة المجيدة- انتقلت عدواها بعد حوالي قرن من الزمان إلى أميركا ثم إلى فرنسا. ومن فرنسا -التي يدعوها الفيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي "مصنع الأفكار الأوربية"- انتشرت عدوى الثورة إلى دول أوربا كلها. ويبدو أن الشعوب التي يجمع بينها رباط ثقافي ووجداني عميق تنتقل فيها عدوى الثورات بسرعة، فتنتشر انتشار النار في الهشيم. وهذا ما يفسر انتشار الربيع الديمقراطي في شرق أوربا خلال بضع سنوات، وانتشار الربيع العربي من شمال إفريقيا إلى غرب آسيا خلال بضعة أشهر.
ومما يساعد على اندلاع الثورات، وإن لم يكن سببا مباشرا لها، وجود حافز خارجي. فأحيانا لا تكون الظروف الاجتماعية قد نضجت تماما لاندلاع الثورة، لكن عاملا خارجيا يسرِّع من نضجها، مثل هزيمة عسكرية تكْسر الكبرياء الوطني، وتجعل المجتمع في حالة توثُّب وتحفُّز دائم، وتؤدي إلى انكشاف سوءة النظام الاستبدادي الذي كان قادرا على التستر على مساوئه في ظروف السِّلم.
إن كل هذه النظريات لها قيمة ثمينة. لكن الثورة بوصفها ظاهرة اجتماعية وسياسية وثقافية مركبة لا يمكن تفسيرها بنظرية واحدة من هذه النظريات. وإذا كان لا بد من التبسيط، فالأوْلى أن نصوغ كل هذه النظريات في نسيج واحد يشكِّل نظرية جامعة لتفسير ظاهرة الثورة. ونحن نميل إلى أن سبب الثورة هو تخلف الدولة عن المجتمع. فهذا هو الحدُّ الجامع الذي تجتمع فيه كل النظريات التي استعرضناها هنا، وقد عبَّرت كل من هذه النظريات عن فكرة تخلف الدولة عن المجتمع، فصاغها منظّرون بلغة فلسفة التاريخ، وصاغها آخرون بلغة السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد، وعبر عنها آخرون بلغة العولمة وتبادل التأثر والتأثير بين المجتمعات البشرية.
والخلاصة أن أسباب الثورات ترجع إجمالا إلى سبب عام واحد هو تخلف الدولة عن المجتمع، وهو ما يؤدي إلى تآكل الشرعية السياسية للأنظمة الحاكمة في أذهان المحكومين، مع انفتاح تلك الأذهان على بدائل أفضلَ وأنبلَ. فإذا كان الحكام والمحيطون بهم يتسمون بالوعي التاريخي أدركوا مخاطر البركان الثوري الخامد قبل أن ينفجر، وتبنَّوا إصلاحات وقائية توجِّه طاقة البركان في اتجاه بناء مجتمعات أكثر عدلا ورحمة، فجنَّبوا أنفسهم وشعوبهم دفع ثمن الثورات من الدماء والأموال.
وإذا اتسم الحكام وبطانتهم بالجهالة، قرؤوا البركان الثوري قراءة سطحية، فاعتبروه سحابة صيف عابرة، وتلكؤوا في الإصلاح. بل ربما تمادوا إلى محاولة الوقوف في وجه البركان وصدِّه بثورة مضادة لمطامح الشعوب، وهو ما ينتهي بانفجار البركان في وجوههم حُمَماً مدمِّرة، تحمل الخراب والدمار للحكام والمحكومين والدول والشعوب. فهل يُدرك حكامنا الذين لم يصل اللهيب إلى بلدانهم بعدُ هذه الحقيقة الاجتماعية الصارخة، أم أنهم سيظلون متشبثين بأطناب الليل، وبلالٌ ينادي: "الصلاة خيرٌ من النوم"؟!