التقرير المذهبي المقدم في جلسة المؤتمر الأولى أرحب بضيوف الحزب الذين شرفوه بالقدوم من فضائنا المغربي الشقيق، واعبر عن أسفي على الذين لم يحضروا من دولة السينغال وتونس وليبيا بعد أن عبروا عن نيتهم في ذلك، كما ارحب بضيوف الحزب الكبار من قادة الرأي السياسي ومن ممثلي المراكز وقادة الفكر والثقافة الذين ازدانت بهم القاعة هذا المساء وعبروا عن ساحتنا السياسية الوطنية بكل تلاوين مشهدها الحزبي والمجتمعي.
يحضرني في هذه المناسبة حجم الجهود التي بذلها جيل المؤسسين لحزبنا ومنهم الأستاذ محمد يحظيه ولد ابريد الليل رحمه الله الذي اطلقنا اسمه على مؤتمرنا والأستاذ اسماعيل ولد اعمر أطال الله له العمر والصحة ، وأرفع أكف الضراعة إلى الله أن يرحم جميع من رحلوا من مؤسسي الحزب وقادته ومنهم الفقيد يمهل ختاري الذي كان رحيله الفاجع بسبب ما رافقه من آثار العاهات الناجمة عن الحرق والتعذيب في سجون العهود الاستثنائية، ومعه نستحضر كل من رفاقنا تغمدهم بواسع رحمته : الدكتور فاليلي الشيخ احمد وعبدو الشيخ احمد، محمد عبد الله الطالب احمد ، أمانة الله يخ ومحمد محمود ميلود رحم الله الجميع .
أيها السادة في المنعطفات الحاسمة من تاريخ الأمم ترتقي النخب بمجتمعاتها عندما تجعل من كرامة المواطن وأمن الوطن غايتها فتتعالى في مسار نضالي يتصاعد بفعل التضحيات والإصرار على إكمال طريق بناء الوطن الجامع الذي لا غبن فيه ولا تمييز.
هنا يبقى اتجاه البوصلة هو العودة إلى المنبع الأول للقيم الإنسانية استلهاما واستحضارا وتمثلا مع التوقف مع الممارسة نجاحا وإخفاقا لاستخلاص العبر وبناء الخطط والاستراتيجيات التي تحصنها قوة المبدئية وتصعد بها أمانةُ رؤيةِِ واقعية تدرك بوضوح أن “المثالي ليس نقيض الواقعي” لأن الواقعي ليس الذي يستسلم للواقع بل الذي يفهمه ليغيره ويطوره في أفق الالتزام بالقيم والانسجام مع حركة الواقع.
في هذا السياق وبعزيمة مناضليه الصادقين يأتي انعقاد المؤتمر الثالث لحزب الصواب مستلهما تجربة عشرين سنة من العمل الحزبي تراكمت فيها الخبرات والتجارب في حركة تفاعلية مع مسار سياسي وطني ينحدر صعوده المؤقت دائما بفعل ارتدادات صراعات السياسة والمجتمع في بلد تتجاذبه مصالح وأهداف قوى وأطراف متعددة.
ولكن في منعرجات هذا المسار ظل الصواب حاضرا ومؤثرا في المشهد الوطني بقوة الاقتراح المبدئي النزيه وحسن العلاقات مع أطراف الطيف السياسي الوطني، بمختلف تلاوينه تلك العلاقات التي تتأسس دائما استنادا إلى منظور أن بقاء موريتانيا موحدة مستقلة تعيش فيها جميع مكوناتها بأمن وعدالة هو الهدف الذي لا حياد عنه ولا بدائل ولا أولويات.
بهذا الرصيد النضالي والسياسي يتقدم الصواب في مؤتمره الحالي إلى مناضليه وأصدقائه،وإلى جميع مكونات النخبة السياسية والثقافية في موريتانيا والوطن العربي بهذا البيان حول رؤيته السياسية للأوضاع الوطنية.
تسعى هذه الرؤية إلى تقديم ملامح بديل التغيير الجاد الذي يقترحه حزب الصواب في مجالات الهوية والحقوق والسياسة والتعليم والاقتصاد والصحة والأمن.
1- الهوية
الهوية من صنف الحقائق الكبرى في الوجود الإنساني المستعصية على الفهم والتعليل والتعريف الدقيق لأنها جميعا نشاطات عقلية، والعقل نفسه ليس إلا مفهوما إجرائيا مركبا متولدا عن كيوننة الهوية وصيرورتها.
الهوية هي بطاقة تعريف الأمة أو الجماعة، ولكنها لا تصدر بقرار من أحد، ولا على أساس رغبة منه لأنها – ببساطة هي أصل الرغبات، وباعث القرارات والمواقف.
بطاقة تعريف الأمة ليست من أجل أن يتعرف عليها الآخرون وإن كان ذلك يحصل تلقائيا بنسبة أو أخرى، ولكنها وبالأساس لكي تتعرف على نفسها لأن جماعة لا تعرف نفسها يستحيل أن تدرك لوجودها معنيى كما يستحيل أن تؤسس رؤيتها لنفسها ولعلاقتها بالآخر والتاريخ والطبيعة، وبالتالي لا يمكن أن تتصور لنفسها دورا، أو تحدد طموحا، ولا أن تنشئ حقول معارفها ومنظوماتها الفكرية والثقافية والأخلاقية والرمزية التي هي الناظم الأساس لاستمرار وفعالية هويتها وديمومتها وتواصلها بما يجعل منها أمة قابلة للبقاء في التاريخ البشري وفاعلة فيه وقابلة لتمثل قيم المدنية والحضارة.
ومنذ الاستقلال اتخذت نخبنا موقفا ملتبسا من سؤال الهوية نابعا من اللامبالاة أو من قناعات آيديولوجية أساسها قطع الصلة بكل ماهو وطني في الثقافة ومواصلة السير خلف خطوط الاستعمار الثقافية والتشبث به ليتأكد في بلادنا كما هو حال كثير من بلدان وطننا العربي وقارتنا الإفريقية أن التعريف الدقيق للاستعمار بعد رحيله الشكلي ليس إلا طغيان الهوية الغربية علي الهويات الأخرى ونفيها. ولئن كانت الأهداف الملموسة للاستعمار معروفة للإنسان العامي من حيث هو غلبة ونهب واستعباد وقهر، فإن الهدف النهائي الذي يحويها جميعا ويضمن ديمومتها هو تحطيم وإلغاء وطمس الهوية، بما يجعل من أصحابها امتدادا ذيليا تابعا فاقدا لحافز الممانعة والمقاومة والتميز.
هذا ما دفع الأنظمة المتعاقبة لإبقاء مدلول الهوية الملتبس ( همزة الوصل) وكأنه يكفينا أن نقول نحن عرب وأفارقة دون اللجوء إلى ما تؤول إليه نقطة هذه البداية المبهمة، معتقدة أنه يجنبها الدخول في التعقيدات، ومع ذلك ظلت أساس جميع التعقيدات التي عرفها المسار السياسي الوطني عائدة إلى هذا الفشل في تحديد الهوية وصرنا بلدا نشازا في العالم تحرم فيه الأغلبية الثقافية من حق إقرار هويتها الأصلية كأساس لصورة الدولة الوطنية كما هو حاصل في جميع بلدان العالم بل باتت هذه الأغلبية متهمة حتى في التشبث بعناصر وخصائص تلك الهوية حيث صار كل حديث عن اللغة العربية يصنف في خانة الشفونية والعنصرية والتحيز ضد حقوق الأقليات ومنافاة قيم الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان العالمية. على الرغم من أن أكثر دول العالم رسوخا نظريا في الديمقراطية تجعل من المقومات اللغوية والثقافية والحضارية لأغلبياتها أساس هوية الدولة الوطنية الحديثة.
لقد ساهمت المجاميع الفرانكفونية بكل انتماءاتها في ترسيخ مثل هذا الوعي بخطورة العربية ودعاتها، وعملت تيارات انتشرت في البلاد أخيرا على مساندة هذا الزعم انطلاقا من حسابات انتخابية ضيقة، وهو ما أصبح يشكل واحدا من الدواعي القوية للانفجار السياسي والاجتماعي في البلاد إذ من غير الممكن الاستمرار في ظل دولة بلاهوية تصادر فيها حقوق الأغلبية لصالح تمكين زمرة من المجاميع التي لاتخدم غير مصالحها الخاصة والآنية.
لقد كان موقف حزب الصواب منذ تأسيسه واضحا في هذا السياق حيث طالب باعتماد اللغة العربية لغة للتعليم والإدارة باعتبارها اللغة الرسمية للبلاد داعيا إلى تصحيح الوضع المختل المتمثل في الاعتراف الدستوري الشكلي باللغة العربية مع تعمد إبعادها عن الحياة العامة.
كما طالب بالعمل على تطوير اللغات الوطنية الثلاث البولارية والولفية والسنوكية ودمجها في المنظومة التعليمية دمجا حقيقيا حتى يتسنى للجميع النطق بها تشجيعا للانسجام والتفاهم بين مختلف المكونات رافضا اعتبار اللغة الفرنسية وسيطا بين الأغلبية العربية وباقي مكونات مجتمعنا التي لاتربطها بتلك اللغة إلا مايربط المجموعة العربية الأخرى بها.
إن الاستمرار في وضع الفرنسية وسيطا بين مكونات المجتمع لايؤدي فقط إلى إرباك المشهد الهوياتي وتمزيقه بل يساهم كذلك في استمرار تهميش باقي لغاتنا الوطنية الأخرى ويزيد في ظاهرة التباعد بينها.
إن اللغة العربية باعتبارها لغة الدين الجامع ولغة الأكثرية هي فقط الوسيط الممكن بين تلك المكونات مع الحرص على تطوير وتعميم تعليم باقي لغاتنا الوطنية الثلاث الأخرى.
2- السياسة
لقد شكل الإعلان عن دستور يوليو وتبني المسار الديمقراطي بداية انفتاح للحياة السياسية العامة تطلعت من خلالها النخب إلى تأسيس نظام جمهوري قائم على العدالة والحرية وتكافؤ الفرص، ولكن سرعان ما تكشف لأغلب المتابعين عن قرب أن الأمر لا يتجاوز استبدال البذلة العسكرية بزي مدني تستبطنه عقلية التفرد المستلهمة من تقاليد الاستبداد المدعومة بأحلاف الإقطاع والتجار ووجهاء القبائل، وهو ما تجلى بوضوح للجميع خلال أول انتخابات عرفتها البلاد لم تخطئ فيها عين المراقب ماشابها من خروقات التزوير والاستخفاف بإرادة المواطنين.
لقد شكلت بداية ذلك المسار خيبة أمل حقيقية ليس فقط لدى النخب الوطنية الجادة التي تعودت خُلفَ قادة المراحل السابقة بل وحتى لدى المواطن العادي الذي صار ينظر إلى ممارسة السياسة على أنها مجرد لعبة للانتفاع فتضاءل لديه الشعور بأولوية الهم العام والمصلحة المشتركة لجميع المواطنين، وهو ما شجع النخب السياسية الزائفة على الاستمرار في تجذير ممارساتها المنافية لمصلحة الوطن وتَعمدِ تتفيه المشهد السياسي الوطني من خلال إغراقه بأعداد كبيرة من الأحزاب التي لاتحمل اية مشاريع وطنية ولا رؤى اجتماعية.
لقد أدى تصدر محترفي السياسة والمنتفعين منها للمشهد العام إلى زيادة خيبة الأمل التي تولدت عنها ظاهرة اللامبالاة السياسية التي حكمت على كثير من ساسة البلاد وكفاءاتها الوطنية المخلصة بالانعزال والتقوقع ومتابعة المشهد عن بعد، أو إلى خلع ثوب قناعاتها القديمة بميلاد وطن جامع متحرر لتنخرط في مسار التيه السياسي العبثي الذي يسيطر على البلاد منذ عقود، وهو المسار الذي ترتبت عليه نتائج كارثية كبيرة منها على سبيل المثال لا الحصر:
-تركيز السلطة في أيدي مجموعات عائلية ضيقة تنظر إلى المجتمع بمكوناته المختلفة باعتباره مصدر الخطر الأساسي الذي يتهدد بقاء نفوذها وتمدد مصالحها الخاصة فتسعى إلى إحكام إغلاق كل المنافذ التي يمكن أن يتسرب إليه منها وعيه بحقوقه عبر زيادة الرقابة الأمنية واستحداث القوانين التي يمكن استغلالها في أي وقت لعزل وتحييد القوى المجتمعية الحية بمنعها من ممارسة دورها في التوعية وصناعة التغيير.
-اللجوء في فترات مختلفة ولغايات مؤقتة وظرفية جدا إلى إقامة نوع من الانفتاح السياسي المؤقت والشكلي على القوى الوطنية الجادة سرعان ما ينتهي بحوارات تفضي إلى تفاهمات من تحت الطاولة مع بعض الأطراف لخدمة مصالح شخصية أو فئوية وقبلية أو حتى سياسية خاصة بتلك الأطراف خدمة لمشروع السلطة الهادف إلى تغييب الإرادة الجماعية وتفريغ حالة الاحتقان واحتواء الغضب الشعبي بالنقاشات الفارغة.
إن هذا الوضع السياسي المرتبك قد أدى إلى حالة من العبث السياسي والإداري تجذر بسببها الفشل في جميع أوجه الحياة السياسية العامة فصارت القطيعة بين النخب السياسية وعامة أفراد الشعب هي الصورة التي تميز مسارنا السياسي منذ عقود.
وانطلاقا من تحليله الدقيق للأسباب الكامنة وراء أزمة التيه السياسي الوطني التي يعتبرها مجرد تجليات للاستبداد السياسي ولضعف أفق الاستشراف والتخطيط لدى النخب الحاكمة تبنى حزب الصواب منذ تأسيسه نموذج الديمقراطية التي تحارب تمركز السلطة في يد شخص واحد وتستند إلى دستور يكفل قيام مؤسسات ديمقراطية ذات سلطات متوازنة يشكل احترامه والسهر الدائم على تطبيقه ضمانات ضد أي انحراف أو شطط في الممارسة الأحادية للسلطة. كما دعا إلى تأسيس مدونة أخلاق سياسية تحتكم إليها المجموعات السياسية في لحظات الاختلاف الحاد وتحول دون تمييع المشهد السياسي من قبل الهواة كما تحارب هيمنة القوى السياسية المدعومة بأحلاف المجتمع التقليدي المنافي لقيم الحداثة والمدنية.
وقد لعب الحزب في ذلك أدوارا أساسية عبر بناء تحالفات دائمة أو مؤقتة.
وقد كانت تجربة كتلة المعاهدة مع حزبي الوئام والتحالف الشعبي التقدمي تجربة رائدة تمكنت من استحداث إصلاحات حقوقية وسياسية من أهمها إقرار مبدأ تجريم الرق في ديباجة الدستور الوطني واعتباره جريمة ضد الإنسانية مع تعزيز دور السلطة التشريعية في الرقابة على الحكومة حين ألزمت المادة (42 من الدستور) الوزير الأول بتقديم برنامجه أمام الجمعية الوطنية في أجل أقصاه شهر واحد من تعيين الحكومة والتعهد بمسؤولية الحكومة عن هذا البرنامج وفقا للشروط المبينة في المادتين 74-75 من الدستور.
كما كانت تلك الكتلة السياسية وراء إقرار نظام النسبية في الانتخابات المحلية التي أدت إلى توسيع قاعدة التمثيل الانتخابي ومحاربة الترحال السياسي وفوضى الترشح المستقل قبل أن تتراجع عنها لاحقا الأغلبية الداعمة لمشاريع السلطة الحاكمة.
كما ساهمت في الحيلولة دون انجرار البلاد وراء دعوات العنف غير المحسوبة التي طالبت بها بعض الأطراف.
وفي هذا السياق تأتي تجربة التحالف الانتخابي مع الجناح السياسي الداعم لمرشح الانتخابات الرئاسية النائب البرلماني بيرام الداه والتي شملت الانتخابات اللاحقة.
إن هذه التجربة تأتي من قبل الطرفين ضمن أفق موريتانيا الموحدة المتصالحة مع كل فيئاتها وأعراقها والتي تنظر إلى المستقبل بعين حاجات الحاضر وإكراهاته لا بآثار وآلام جراحات الماضي التي أدى تصامم الأنظمة المتعاقبة عن دعوات معالجتها إلى تعميق الشرخ الاجتماعي حتى صار منذرا بالتفكك والاحتراب.
لقد قررنا في حزب الصواب الدخول في هذه التجربة بدافع الإيمان القوي بالمساواة والتكافؤ بين جميع المواطنين وهو الإيمان النابع من تمثلنا لمضامين عقيدة سياسية تقوم على مرتكزات أساسية نابعة من الحرية والعدالة الاجتماعية.
وعلى الرغم مما بذله أعداء الوطن ومايبذلونه الآن لمجابهة هذا الحلف السياسي فإن قناعتنا راسخة بأهمية الدور الذي حققه في تفادي الصدام الاجتماعي في مراحل حساسة سابقة، وبحيوية الدور الذي مازال قادرا على تحقيقه دعما لانسجام وتصالح أطراف المكون العربي في البلاد، ومايحققه من تشارك وانفتاح على مكوناتنا الوطنية الأخرى تمثل في تحالف وطني عريض خلال الانتخابات الماضية.
3- الأمن
يمثل الأمن بشقيه الداخلي والخارجي اليوم أكبر التحديات وأخطرها لما ينعكس من نتائجه الضارة على الدولة والمجتمع، ومن الجلي أن منظومتنا الأمنية تواجه تحديات وظواهر جديدة على سلوك المجتمع مثل السرقة والقتل والحرابة والاغتصاب التي صارت حوادثها مألوفة بفعل تكرر حدوثها بشكل يومي تقريبا،وهو ما يتطلب مراجعة سريعة لمختلف الإجراءات والنصوص الخاصة بمثل هذه الظواهر الخطيرة والعمل بحزم على تطبيقها دون رحمة على المجرمين الذين يهددون السكينة العامة للمجتمع.
وعلى الرغم من الارتباط الواضح بين هذه الجرائم ومثيلاتها الأخرى وبين الفقر المدقع الذي تعيش فيه بعض فيئات المجتمع فإن استمرار التساهل في إجراءات المواجهة وخضوع الأجهزة الأمنية أحيانا للضغوط يساهمان في استفحال هذه الظواهر الخطيرة التي تتطلب مواجهتها جهازا أمنيا محترفا ومكونا تكوينا أمنيا ونفسيا ومتوفرا على تقنيات المتابعة والكشف يقدر خطورة مهنته وحيويتها ويتوفر على وسائل الاستقلال المادي الفردي الذي يمكنه من مواجهة الضغوط التي تمارس عليه.
وبالنسبة للأمن الخارجي فإن انتشار الصراعات والحروب الإقليمية والدولية مع تزايد صراع النفوذ بين القوى الكبرى ينذر بتحولات خطيرة على مستوى منطقتنا التي تعيش منذ عقود على بؤر توتر مزمن نحتاج في مواجهة تداعياته إلى بناء جيشروطني ينصرف قادته وضباطه إلى مهامهم الأصلية في تحصين الحدود ومتابعة تطورات وتيرة الصراعات العالمية، كما تحوز رتبه الدنيا وجنوده على أجور تضمن العيش الكريم وتجعل الارتباط بأمن الوطن والشعور بالانتماء إليه من صميم تكوينهم العسكري ومطامحهم الشخصية.
إن دولة لاتمتلك في عالم تسوده النزاعات والحروب جيشا محترفا يتوفر على قوة جوية للاستطلاع والمجابهة يظل أمنها مرهونا بسياسات النفوذ والمصالح الخارجية المتقلبة ،الشيء الذي يجعلها عرضة للأخطار الخارجية في كل وقت.
4- المجتمع
لقد شكلت الانتقالة المفاجئة لمجتمعنا من البداوة إلى المدينة سببا في ظهور أزمات اجتماعية كثيرة كان بعضها حديث النشأة كأزمة البطالة وأحزمة أحياء الفقر في المدن التي راكمتها عقود الجفاف وفشل الحكامة السياسية والاقتصادية إضافة إلى انتشار الجريمة المنظمة بكل أشكالها والتي صارت عملا محميا من طرف البعض لما يدر من منافع مادية كبيرة.
إن هذا الواقع الاجتماعي المنذر بمخاطر كبيرة يجد حله فقط في نظر حزب الصواب عبر بناء نموذج اقتصادي تحكمه قيم العدالة النابعة من القناعة بأن ثروة موريتانيا لجميع الموريتانيين ،وهي حق لاصدقة، إضافة إلى الإسراع في تأسيس قواعد تعليم عصري حقيقي.
غير أن الظاهرة الأخطر اجتماعيا والتي تؤرقنا في حزب الصواب أكثر من غيرها هي ظاهرة العبودية المقيتة والآثار السلبية المترتبة عليها من فقر وجهل وشعور نفسي بالدونية.
إن هذه الظاهرة المقيتة ذات الأصول البعيدة نسبيا في تاريخ مجتمعنا تمثل اليوم أكبر تحد تنموي واجتماعي وإنساني لابد لمواجهته من تكاتف جميع الجهود عبر بناء ميثاق شرف وطني وسياسي وأخلاقي تقر فيه النخبة الوطنية بمسلمات اساسية منها:
-أنه بالنسبة لحرية وآدمية وكرامة الإنسان لايوجد فرق جوهري بين ممارسة العبودية في الماضي وآثارها المستمرة في الواقع لأن الجهل والفقر المتأتيين من تاريخ العبودية يشكلان اقبح صور العبودية في العصر الحالي لأنهما يجسدان معا الأثر المادي والنفسي للاسترقاق المقيت.
-أنه بدون سياسة تعليمية ناجحة يكون القرار فيها بيد المتضررين لن تكون لخطط محاربة الجهل اية جدوى. -أنه بدون تكفل اقتصادي حقيقي يتمثل على مستوى الزراعة في تحرير الأرض من يد الإقطاع ومنحها للمزارعين،وعلى مستوى حركة المال والصناعة في دعم الدولة لرجال أعمال من فيئة لحراطين تؤسس لمصانع تستهدف تشغيل الشباب مع تخصيص استثمارات كبرى في قراهم لذلك لن تكون لأية اجراءات لمحاربة الفقر من قيمة تذكر.
-أنه بدون تفعيل حقيقي لقانون محاربة الرق ودعم المنظومة القانونية في اتجاه تجريم ممارسيه بشكل فعلي لن تكون للقوانين قيمة الردع المرجوة منها.
إن إقرار هذه الاعترافات وغيرها مما يعزز منظورها الاستراتيجي، والعمل الجماعي من طرف الحكومة بالتعاون مع النخب الفاعلة في ميادين السياسة والمجتمع على تطبيقها تشكل في نظر حزب الصواب بداية تلمس الطريق الصحيح لإحداث قطيعة كلية على مستوى الوعي والممارسة مع هذه الظاهرة المقيتة.
5-التعليم
يمثل الاستثمار في تكوين وإعداد العنصر البشري اول مرتكزات التنمية الجادة، وهو الأولوية التي تتصدر جميع مشاريع التنمية التي يُرتجى منها تحقيق نقلة نوعية في مختلف المجالات.
ولا خلاف على أن التعليم هو مفتاح ذلك الاستثمار الذي لم تهتد إليه بعد كل الأنظمة المتعاقبة في بلادنا إذ ماتزال النسب المخصصة لمختلف قطاعات التعليم والتكوين والبحث العلمي من الميزانية العامة متواضعة جدا إذا قورنت بمخصصات قطاعات أقل أهمية تذهب ميزانياتها عادة إلى الجيوب الخاصة.
كما تتميز علاوات وتحفيزات المدرسين بكونها الأضعف قيمة على مستوى جميع القطاعات وذلك في ظل العجز التام عن اجتراح طريق صحيح ومجمع عليه يؤسس لمشروع إصلاح المنظومة التربوية التي تخضع منذ عقود لتجاذبات وصراعات القوى السياسية مما جعل مشاريع الإصلاح مرتجلة ومؤقتة تنتهي دائما بانتقال من رؤية إلى نقيضها.
لقد ترتب على هذا الوضع المختل انهيار كامل للمنظومة التربوية الوطنية وهو ما ترسخت نتيجة له كل الصور المعرفية والأنماط السلوكية المنافية لقيم المدنية والحداثة مما يتجلى في انتشار الجريمة المنظمة وتعاطي المخدرات في الوسط المدرسي.
إن هذا الوضع المتدهور للتعليم ينذر بفناء كلي للمجتمع عبر الغياب المتدرج والسريع للقيم الجامعة التي ساهمت لفترة طويلة في بقاء مجتمعنا موحدا.
لقد تبنى حزبنا حزب الصواب منذ تأسيسه مشروع الدولة الوطنية الجامعة المتصالحة مع تاريخها والمعبرة عن تنوع مكوناتها لذلك ظلت رؤيته للتعليم ترتكز على ضرورة إقامة مشروع تعليمي عصري من خلال مدرسة عمومية ترتكز مناهجها على قيم العلم والتقنية وتستند في أهدافها على أسس قيمية أصلية جامعة وثابتة.
وفي نظرنا ان تعليما من هذا القبيل لابد أن يرتكز على لغة جامعة قادرة على تقديم المضامين العلمية المختلفة، واللغة العربية هي اللغة الوحيدة من بين لغاتنا الوطنية القادرة على أداء هذا الدور باعتبارها اللغة الرسمية للبلاد واللغة التي تجتمع عليها مختلف المكونات الوطنية لكونها لغة الدين الإسلامي.
مع رفد هذا التعليم بمشروع وطني جاد وغير مؤسس على اعتبارات سياسية مؤقتة لتطوير لغاتنا الوطنية الثلاث الأخرى ( البولارية والولفية والسنوكية) ونقل الإشراف على هذا المشروع إلى أيدي المعنيين به والابتعاد به عن المزايدين في مجال السياسة ليتسنى من خلاله تعميم تعليم البولارية والولفية والسنوكية ودمجها في المنظومة دمجا صحيحا وهادفا.
6- الاقتصاد
لقد أدى تغول الليبرالية الاقتصادية المتوحشة وما صاحبها من تدخل خارجي في توجيه سياساتنا الاقتصادية عبر المنظمات الاقتصادية الدولية إلى زيادة انتشار الفقر والبطالة ومايصاحبهما من ظواهر سلبية تجلت في سياسات خاطئة أدى اتباعها إلى ظهور طبقة طفيلية ريعية تعيش على فساد الصفقات وزبونية التعيينات وتعمل على إفراغ السياسات الاقتصادية من كل مضمون اجتماعي إيجابي،وقد شكلت ظاهرة انتشار المؤسسات الخصوصية الوهمية أبرز مثال على انعدام الجدوائية في مثل هذه السياسات، وهي المؤسسات التي ترتب على ظهورها مسلسل بيع الأملاك العامة للقطاع الخاص سواء كانت مؤسسات عمومية أو عقارات.
إن الاستمرار في مثل هذه السياسات يشكل أكبر تحد تنموي للبلاد في هذه المرحلة التي يعرف فيها العالم تحولات خطيرة ومتسارعة تحتاج تحصينا استثنائيا للبنية الاجتماعية من خلال سياسة اقتصادية تأخذ بعين الاعتبار الحاجات الخاصة للناس في مجال الغذاء عبر تحكم الدولة في الأسعار ومنع الاحتكار والمضاربات.
إن رؤيتنا في حزب الصواب تقوم على ضرورة أن تستعيد الدولة دورها في المجال الاقتصادي باعتبارها الفاعل الأول في مجال الإيراد والتصدير الذي يضمن استفادة جميع المواطنين من ثروة بلدهم.
لقد كانت للسياسات الاقتصادية الخاطئة المتبعة منذ الاستقلال آثار خطيرة تمثلت في استنزاف كلي لخامات الثروات الوطنية دون مردود على مستوى الدولة والمجتمع،ولعل أبرز تجلياتها ظاهرة البطالة وسوء ظروف الحياة العامة مما أدى إلى الهجرة المريعة للشباب التي ميزت الخمسية الأخيرة والتي تنذر بإفراغ المجتمع من طاقاته وقواه الحية العاملة القادرة على المشاركة الفعلية في الانتاج.
إن النهب المستمر لثرواتنا الوطنية المعدنية والسمكية يضع البلاد في مواجهة كارثة حقيقية تتمثل في استمرار نفس نهج الفساد الذي ظل متبعا من طرف الأنظمة السابقة من خلال منح رخص التنقيب والصيد بناء على علاقات القربى والانتفاع مما يعرض هذه الثروة للاستنزاف ويحرم الطاقات الشابة الحية من الاستثمار فيها برأسمال يمكن أن يعود بفائدة على الوطن والمواطنين.
إن واقع تسيير الثروة الوطنية المتردي تترتب عليه مخاطر بيئية واجتماعية خطيرة تستنزف الثروة وتؤدي إلى تكدس ريعها في أيدي عائلات ترتبط بالسلطة وأهل النفوذ وتزيد دائرة انتشار النقمة الاجتماعية وتجعل واقع الانسجام والاستقرار مهددا في كل وقت.
7- الصحة
إن بناء منظومة صحية متكاملة يعتبر في عالم اليوم أولوية ملحة نظرا لانتشار الأزمات الصحية المفاجئة في العالم التي تصبح جراءها المنظومات الضعيفة عاجزة عن مجابهة التحدي وهو ماتجلى بوضوح في بلادنا خلال أزمة كورونا الماضية.
إن كادرا طبيا مكونا تكوينا جيدا وخاضعا للتدريب المستمر يتوفر على التجهيزات والتقنيات الضرورية مدعوما بمصادر محصنة لأدوية منتجة في مخابر علمية متعارف عليها هي السبيل الوحيد لإقامة منظومة صحية ناجعة تؤسس للنقيض مما هو موجود الآن لدينا من تزوير للأدوية ومن تلاعب بصحة المواطنين من خلال تحكم أباطرة التوريد الخاص في نوع وتسعرة الأدوية وفي صفقات شراء التجهيزات وصيانتها،وهي أمور لاتخضع لغير الزبونية وتبادل المنافع في المنظومة الصحية القائمة التي تمتاز بقدر كبير من التردي تترجمه رحلات أفواج المواطنين المرضى إلى الدول المجاورة التي لا تتوفر على ربع ثرواتنا الاقتصادية.
إن هذه الأوضاع المتردية التي تميز وضع جميع القطاعات في البلاد تنذر جديا بدخول الدولة والمجتمع في أتون أزمة حادة لايمكن تفادي الهزات المتوقعة جراءها إلا عبر تأسيس مشروع سياسي وطني جامع تتكاتف فيه جهود مختلف القوى الوطنية الجادة ويرتكز على محاربة الفساد والعمل على القطيعة مع كل الظواهر المنافية لقيم الحداثة والعصرنة.
وهو المشروع الذي يتبناه حزب الصواب ويدعو إليه ويطبقه من خلال سياسة الانفتاح والتعاطي مع مختلف القوى الوطنية الأخرى.
10/01/2024