دى التقلب الشديد في أسواق المال العالمية والاضطرابات الجيوسياسية التي أعقبت عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض إلى تحذيرات من أن الاقتصاد الأميركي قد يكون في طريقه نحو الركود. واتهم بعض الاقتصاديين ترامب بالتسبب في إحداث فوضى وارتباك في الاقتصاد الأكبر في العالم، إلا أنهم أشاروا إلى أن سيناريو الركود ليس وشيكًا بعد. وأكد هولغر شميدنغ، كبير الاقتصاديين في بنك بيرنبرغ، أن الاقتصاد الأميركي يتمتع بالمرونة، بغض النظر عن السياسات التي يتبعها ترامب، مضيفاً أن الرئيس الأميركي يمثل "عامل فوضى وارتباك"، مشيرًا إلى أن تقلب مواقفه بشأن التعرفات الجمركية يظهر عدم إدراكه لتداعيات سياساته التجارية.
ورغم هذه المخاوف، يرى شميدنغ أن المستهلكين الأميركيين لا يزالون يمتلكون القدرة على الإنفاق، وأن سوق العمل لا تزال قوية نسبيًا، كما أن انخفاض أسعار الطاقة والإجراءات المحتملة لخفض الضرائب وإزالة القيود التنظيمية قد تقلل من مخاطر الركود في المستقبل القريب. ومع ذلك، حذر الاقتصادي الكبير من أن سياسات ترامب قد تؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي الأميركي على المدى الطويل، وخاصة بعد عام 2026، بسبب ارتفاع الأسعار وزيادة حالة عدم اليقين، مما قد يدفع بنك الاحتياط الفيدرالي إلى الإبقاء على أسعار الفائدة دون تغيير.
الأسواق العالمية تتأرجح بفعل سياسات ترامب التجارية
وشهدت الأسواق المالية الدولية اضطرابات كبيرة في الأسابيع الأخيرة بسبب مخاوف من إعادة إشعال ترامب للحرب التجارية العالمية، وذلك عقب فرضه تعرفات جمركية قاسية على الواردات من الصين والمكسيك وكندا. وأدى هذا الأمر إلى حالة من الارتباك في الأسواق، خاصة بعد إعلان ترامب عن تأجيل بعض هذه التعريفات حتى الثاني من إبريل/ نيسان.
ولم يلق نهج ترامب غير التقليدي في التجارة والدبلوماسية الدولية استحسان الأسواق، حيث شهدت المؤشرات الأميركية تقلبات حادة، وحذر الاستراتيجيون من أن حالة التشاؤم في السوق قد تستمر طوال فترة رئاسة ترامب الثانية. وتراجعت الأسهم الأميركية بصورة حادة في تعاملات صباح يوم الاثنين، مما يشير إلى بداية أسبوع تداول متقلب آخر.
ويشير بعض المحللين إلى أن التعرفات الجمركية قد تزيد من الضغوط التضخمية في الولايات المتحدة، مما قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة، وما يعنيه ذلك من تأثير على المستهلكين. كما أن هناك مخاوف من أن تؤثر هذه السياسات سلبًا على الاستثمار والتوظيف والنمو الاقتصادي، إذ قد يتجه المستهلكون إلى الحد من الإنفاق تحسبًا لفترة من الركود الاقتصادي المحتمل، وهو ما قد يؤدي إلى حالة من "الركود التضخمي" الذي يجمع بين التضخم المرتفع والبطالة العالية.
ويبدو أن هذه الأوضاع ستضع ضغوطًا إضافية على بنك الاحتياط الفيدرالي للحفاظ على أسعار الفائدة عند مستوياتها الحالية، التي تتراوح بين 4.25% و4.5%، بدلاً من خفضها لتحفيز الاقتصاد. وأكد رئيس البنك الفيدرالي، جيروم باول، أن البنك المركزي سينتظر لمعرفة تأثير سياسات ترامب قبل اتخاذ أي قرارات جديدة بشأن أسعار الفائدة.
وتراجعت ثقة المستهلكين في فبراير/ شباط، وهو مؤشر قد يثير قلق إدارة ترامب، فيما أشارت بيانات بنك الاحتياط الفيدرالي في أتلانتا إلى أن الناتج المحلي الإجمالي الأميركي قد ينكمش بنسبة 2.4% خلال الفترة بين يناير/كانون الثاني ومارس/آذار. وإذا استمرت معدلات النمو السلبية لربعين متتاليين، فسيعني ذلك دخول الاقتصاد الأميركي رسميًا في حالة ركود.
ورغم أن بيانات سوق العمل أظهرت استمرار التوظيف، فإن بعض المؤشرات تشير إلى بداية ظهور الضعف، إذ أظهرت بيانات التوظيف غير الزراعي أن نمو التوظيف كان أضعف من المتوقع في فبراير، حيث ارتفع عدد الوظائف بمقدار 151 ألف وظيفة، متجاوزًا التوقعات المعدلة لشهر يناير التي بلغت 125 ألفًا، لكنه ظل أقل من التوقعات البالغة 170 ألف وظيفة. كما ارتفع معدل البطالة إلى 4.1%.
ويرى ستيفن بليتز، كبير الاقتصاديين في شركة تي إس لومبارد، أن هذه البيانات تشير إلى استمرار نمو الاقتصاد الأميركي، لكنه يحذر من أن السياسات التي يتبعها ترامب قد تؤدي إلى اضطرابات في تدفق رأس المال، مما قد يؤثر على الاقتصاد بشكل غير متوقع.
ورغم أن ترامب لم يستبعد تمامًا احتمال حدوث ركود هذا العام، فإنه وصف الوضع الاقتصادي الحالي بأنه "فترة انتقالية". وفي مقابلة مع شبكة "فوكس نيوز"، أقر بأن خططه المتعلقة بالتعرفات الجمركية قد تؤثر على النمو الاقتصادي، لكنه أصر على أن الهدف النهائي هو "إعادة الثروة إلى أميركا"، مؤكدًا أن هذه العملية "تحتاج إلى بعض الوقت".
وفي الوقت نفسه، أشار تقرير صادر عن وحدة المعلومات في بنك جيه بي مورغان، أكبر البنوك الأميركية، إلى أن الاقتصاد الأميركي يدخل مرحلة أخرى من عدم اليقين بسبب الطبيعة غير المتوقعة للسياسات التجارية. ويرى محللو البنك أن الأسواق ستواجه المزيد من التقلبات، وأن النمو الاقتصادي الأميركي قد يتراجع بشكل حاد إذا استمرت التعرفات الجمركية وتوسعت الحرب التجارية.
ويحذر المحللون من أن استمرار حالة عدم اليقين قد يدفع كلًّا من كندا والمكسيك إلى الدخول في حالة ركود، مما سيؤثر بدوره على الاقتصاد الأميركي. ونتيجة لذلك، يتوقع البنك انخفاض تقديرات النمو الاقتصادي الأميركي وتراجع أرباح الشركات، مما قد يؤدي إلى تعديل التوقعات الاقتصادية على نحو سلبي. ومع تزايد الضغوط الاقتصادية وعدم وضوح الرؤية بشأن مستقبل السياسات التجارية، يبدو أن الاقتصاد الأميركي يواجه تحديات كبيرة في ظل إدارة ترامب، وسط تحذيرات من أن استمرار هذه السياسات قد يؤدي إلى اضطرابات طويلة الأمد في الأسواق العالمية.